حبل الله
الهجوم المسلّح على مقر صحيفة شارلي ايبدو في العاصمة الفرنسية باريس

الهجوم المسلّح على مقر صحيفة شارلي ايبدو في العاصمة الفرنسية باريس

بحسب المصادر الصحفيّة العالميّة فإنّ الهجوم المذكور أعلاه راح ضحيته 12 قتيلا و4 جرحى، وتشير التقارير أنّ منفذي العملية مسلمان فرنسيّان، ويُرجّحُ أن يكون الدافعُ نشر الصحيفة لرسومات مسيئة للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.

التعليق على الخبر:

الجنايات المنفلتة والفتاوى المضلِّلة:

الهجوم على مبنى الصحيفة الفرنسية الذي أدّى إلى مقتل وجرح العديد كان له ما يبرّره من الفتاوى المضلِّلة التي زخرت بها كتبُ الفقهاء وتداولها العلماءُ قديماً وحديثاً.

وهذه الحادثة وغيرها ألقت بظلال كئيبة على حال المسلمين السيء أصلا. والغريب حقا أنه كلّما حدثت مشكلةٌ هنا أو هناك وضجّ العالمُ من الاسلام وتعاليمه ظهر العلماءُ والدعاة ليقولوا: ليس هذا دين الله.

وإذا لم يكن هذا دين الله فما هو دين الله إذن؟ وعلى من يقع واجبُ إظهار دين الله تعالى كما أراده سبحانه وبيّنه في كتابه؟ أليس هذا من واجب علماء الأمّة؟ لماذا لا يبيّن هؤلاء العلماء دين الله كما أنزله في كتابه ويدعوا ما ورثوه من فقه أساء إلى الله ورسوله وللمؤمنين؟

لقد بيّن القرآن الكريم الذي نزلّ حُجّةً علينا إلى قيام الساعة طريقةَ التعامل مع من أساء الى المسلمين ورسولهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:

{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران، 186)

وقد أرشدت الآيات إلى الصبر تجاه الأذى ليس غير ذلك، وفي آيات أخرى بيّن الله تعالى لنا كيف نتصرّف في مثل هذه المواقف:

{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت، 34_35)

وربما تثور النفس لتردّ على الأذى بما هو أشدُّ منه، لذا قال الله تعالى في الآية التي تليها {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت، 34_36)

وعلى الرغم من وضوح الآيات فيما يتعلق بالتعامل مع من يؤذي رسولنا الكريم إلا أننا وجدنا المذاهب الاسلاميّة تتفق على قتل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

الآيات التي تحدثت بالتفصيل عن علاقة المسملين بغيرهم :

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة، 8_9)

نستخرج من هاتَيْن الآيتَيْن الكريمتَيْن دستور العلاقات ما بين المسلمين وغيرهم بشكلٍ دقيقٍ، الأصل هو التعاون والسلم، ولدوام هذا الحالة اشترطت الآيتان السابقتان على غير المسلمين عدم تجاوزهم الحدّ في ثلاثة أمور،  وهي عبارة عن (خطوط حمراء) كما يُطلق عليها بلغة عصرنا كما يلي :

1.                     أن لا يقاتلوا المسلمين في دينهم.

2.                     أن لا يسعوا لإخراجهم من ديارهم.

3.                     أن لا يظاهروا من يحاول إخراجهم من ديارهم.

إنّ صدور الأذى كالشتم والاستهزاء وغير ذلك من غير المسلمين قد يؤدّي إلى تضرّر العلاقات معهم، لكن ليس إلى إعلان الحرب عليهم، أو الاعتداء عليهم من حيث هم آمنون، ويبقى ذلك في إطار ما ندب الله عباده إليه من الصبر واحتمال الأذى في سبيله سبحانه، واعتبر ذلك من صور التقوى، وأخبر أنّ ذلك من عزم الأمور، ولم يأمر الله تعالى في مثل هذه الحالة بقتالهم؛ لأنّ الأذى أو السبّ لا يُعتبر إخلالا بتلك الخطوط التي توجب قتالهم.

وقد لاقى النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه أذى كثيرا من المنافقين الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ولكنّه صلّى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين صبروا على أذاهم. ونقرأ في هذا الموضوع قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون، 8).

وعلى الرغم من أنّ تصرفات ابن سلول _مثلاً_ قد بلغت من السوء ما بلغت وهو الذي طعن في عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ونال من زوجه رضي الله عنها، إلّا أنّ النبيّ كان يحسن إليه المعاملة، والسبب في ذلك أنّ الرجل لم يتجاوز أحد الخطوط الحمراء الثلاثة كما بيّنتْها الآية. وقد أرشد النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الطريق الأمثل في التعامل مع هؤلاء والمتمثِّلِ في قول الحق، فهو أكثر ما يزعجهم. فإظهار أخطائهم وحسن التعامل معهم سيظهر ضعفهم وقلّة حيلتهم، ممّا يؤدي لعزلهم وانفضاض الأنصار من حولهم؛ وهذا ما نفهمه من الآيات؛ فقد أدّى حسنُ معاملة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبيّ بن سلول إلى إسلام كثير ممّن كانوا حوله.

ويوضّح سبحانه منهج التعامل مع غير المسلمين في آيات أخرى ويحصر حالة الحرب معهم ببدئهم الحرب ضد المسلمين:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة، 190)

ثم يبيّن سبحانه أنّ ردّ الاعتداء يجب أن يكون بمثله، والزيادة على ذلك اعتداءٌ لا ينبغي لمؤمن تقي أن يقع فيه:

{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة، 194)

إنّ الإتفاق على قتل شاتم النبي خلافاً لنصوص الكتاب العزيز مدعاةٌ لتسليط الضوء على التحدّيات التي تواجهنا وعلى رأسها إرجاعُ المسلمين إلى نهج القرآن الكريم.

على المسلمين فهمُ إسلامهم من كتاب ربهم، وعليهم أن يتركوا ما ورثوا من دين تبلور بعيداً عن كتاب الله.

وحتّى يصبح المسلمون جزءاً من حلِّ مشاكل البشرية لا جزءاً منها عليهم أن يمتثلوا قول الله تعالى:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل، 125_ 128)

يُقال في المثل: “مصيبةٌ واحدةٌ خيرٌ من ألف نصيحة” ويقصدُ قائلوه إنّ درس المصيبة أكثرُ تأثيراً من ألف نصيحة مجرّدة. فربما تذكِّرُ هذه الحادثةُ علماءَ الأمّة ليقوموا بواجبهم تجاه أمّتهم فيقوِّموا فتواهم حسب كتاب الله لا حسب ما ورثوه من تراث مُشوَّه.

أ.د عبد العزيز بايندر

رئيس مركز بحوث الدين والفطرة / وقف السليمانية

التعليقات

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.