حبل الله
أنواع الصبر

أنواع الصبر

لا يحصر الصبر في حالات معينة، وإنما هو ميزة المؤمنين الصادقين، حيث يظهر أثره في حياتهم، وما سنذكره من أنواعه هو بعضها وليس محصورا بها:

1- الصبر على الفقر، ويكون بالإستعفاف عن المسألة، فمن يستعفف يعفه الله تعالى، وقد أثنى الله تعالى على هؤلاء وأوصى بهم خيرا فقال سبحانه {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة، 273)

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ)[1].

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توجيه أصحابه نحو العمل والصبر عليه، وبذلك يتحول الإنسان من عالة يتكفف الناس في أيديهم إلى عامل يسهم في رقي نفسه ونهضة مجتمعه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ)[2]

2-  الصَّبْرُ عندَ القِتَالِ، فقد أمر الله تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند لقاء العدو بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال، 45) وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس خطيبا فقال: (أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)[3].

وقد استحق الصحابة الكرام ثناء الله تعالى عليهم ورضوانه لما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر والثبات عند لقاء عدوهم. قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وقد سئل نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما: هل بايع النبي أصحابه على الموت؟ (قَالَ لَا بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ)[4]

3- الصَّبْرُ عِنْدَ الأذى والْغَضَبِ.

قال الله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون، 96) في الآية أمر بأن يواجه المسلم الأذى من غيره بأن يدفع بالتي هي أحسن، والتي هي أحسن يحددها الحال والمآل، فإن رأى الدفع بالعفو أو السكوت أو امتصاص غضب الآخرين فيكون هو الأحسن. ورب شخص يشكك في جدوى هذا الأسلوب من الدفع، إلا أن الآية الآتية تنفي هذه الشبهه، قال تعالى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت، 34) فمن خلق النفوس هو أعلم بما يصلحها وصدق الله إذ يقول: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك، 14)

وها هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعرض للأذى فيصبر مستذكرا سيرة أولي العزم من الرسل قبله، فقد أمره الله تعالى أن يقتدي بصبرهم وثباتهم بقوله {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف 35) عن عَبْد اللَّهِ[5] قال قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَّا أَنَا لَأَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ)[6]

4-  الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ

نعلم جميعا أن هذه الحياة هي دار ابتلاء وامتحان، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك، 2) وقد أودع الله تعالى في الأرض زينتها وأبدع فيها من آيات الحسن والجمال ما يدفع الإنسان إلى إعمارها. قال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف، 7) لكن الشيطان يفعل فعله في إخراج هذه الزينة عن الإطار الصحيح، فبدلا من أن تشكل دافعا للبناء والإعمار تصبح هدفا بحد ذاته تُطلب بكل وسيلة.

قال الله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران، 14) وحتى لا يبقى الإنسان مندفعا خلف شهواته ناسيا أن زينة هذه الدنيا هي اختبار وامتحان، يخبرنا تعالى أن الإستمتاع الحقيقي بالزينة والمجرد عن التكليف إنما يكون في الآخرة. قال تعالى { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران، 15) ومن صبر عن محارم الله فإنه سيوفى أجره قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقد عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قيمة الصبر متمثلا بالإبتعاد عن المحرمات، فقد روي عن عُمَر رضي الله عنه أنه قال (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ)[7]

 5- الصبر على البلاء

والمسلم يصبر على ما يحل به من بلاء كالمرض والفقر وموت الأحبة وغير ذلك من بلاء الدنيا، وعدم الرضى والتبرم هو إهلاك للنفس؛ لأن الإنسان عاجزٌ عن دفع ما تحقق من بلاء خاصة فيما ليس للإنسان طول عليه كالموت، فلا ينفعه تبرمه وسخطه، بل يزيده هما وغما مع استحقاقه للعقاب في الآخرة. والمؤمن يواجه الإبتلاء بالصبر، لأن الصبر علامة الرضى بقضاء الله تعالى، والرضى بقضاء الله تعالى هو سكينة للنفس وتجاوز للمصيبة واستحقاق للثواب. عن صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)[8]

 ومن البلاء فقدان الأولاد، وفي بيان عظيم أجر الصابرين على ذلك ، روى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ)[9] وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا ذَهَبَ بِصَفِيِّهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَقَالَ مَا أُمِرَ بِهِ بِثَوَابٍ دُونَ الْجَنَّةِ)[10]

 


[1] صحيح البخاري، رقم الحديث 1376

[2]  صحيح البخاري، رقم الحديث 1377

[3]  البخاري، رقم الحديث2966

[4] صحيح البخاري، رقم الحديث 2738

[5] في مسند الحميدي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[6] صحيح البخاري، رقم الحديث 5635

[7] صحيح البخاري، مقدمة باب الصبر عن محارم الله 

[8] صحيح مسلم، باب المؤمن أمره كله خير، رقم الحديث 64

[9] صحيح البخاري، رقم الحديث 1171 

[10] سنن النسائي، باب من صبر واحتسب، رقم الحديث 1871، وحسنه الألباني

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.