السؤال:
هل أحكام التجويد مثل (المد الطويل الذي يحتاج الى أربع أو ست حركات) والغنّة وغير ذلك من أحكام التلاوة بدعة؟ هل الأفضل أن يقرأ القرآن بالتغني أم بلا تغني بشكل عادي طبيعي؟ وهل التغني بدعة؟ أنا لا أتصور أن جبريل جاء إلى الرسول محمد عليه السلام وقرأ بالتغني. وأما بالنسبة لأحكام التجويد فالمرء لا يتكلم بمد طويل أو غنّة عندما يتكلم بالفصحى مع شخص آخر أو في خطبة. فما هو أصل أحكام التجويد؟
الجواب:
سأحاول الإجابة على هذا السؤال القيم كما يلي:
أولًا: هل أحكام التجويد بدعة؟
أحكام التجويد ليست بدعة، بل هي قواعد وُضعت لضبط النطق بالقرآن كما كان يُقرأ على عهد النبي ﷺ. فالتجويد في أصله هو تحسين الأداء وإعطاء الحروف حقها ومستحقها، وهو مأخوذ من الطريقة التي تلقاها الصحابة عن النبي ﷺ.
أما المدود والغنّة وغيرها، فهي أمور طبيعية في النطق العربي، لكنها في التجويد تُضبط بمقاييس معينة للحفاظ على تلاوة القرآن كما نزل. فمثلًا، المدود كانت تُقرأ بطبيعتها بسبب طبيعة النطق العربي، وجاء العلماء فيما بعد فبيّنوا مقدارها ووضعوا لها قواعد لحفظها من التغيير. فالأمر ليس إحداث شيء جديد، بل هو تدوينٌ لما كان يُتلى به القرآن منذ عهد النبي ﷺ.
فأحكام التجويد المتعارف عليها الآن هي قواعد النطق الصحيح للقرآن التي وضعها علماء مسلمون لتسهيل عملية تعليم تلك الأحكام للأجيال المتعاقبة. وهذا يشبه إلى حد كبير القواعد اللغوية التي وضعها النحاة وعلماء اللغة لتسهيل تعلم قواعد العربية التي كان يتكلم بها الناس وقت التنزيل.
والتغني هنا ليس المقصود به الغناء المعروف، وإنما تحسين الصوت بالقراءة مع إعطائها روحًا وخشوعًا، وهو أمرٌ يزيد من تأثير التلاوة في النفس. وهذا لا يعني التكلف أو إدخال ألحان موسيقية كما يفعل بعض القرّاء اليوم، بل المقصود القراءة بصوت حسن مؤثر.
أما عن قولك إنك لا تتصور أن جبريل عليه السلام قرأ بالتغني، فهذا أمر غيبي لا نستطيع الجزم به، لكننا نعلم أن النبي ﷺ قرأ القرآن على الناس كما سمعه من جبريل عليه السلام، وقد كان يحب سماع القرآن من الصحابة الذين كانوا يحسنون القراءة، وكان يقول لعبد الله بن مسعود: “إني أحب أن أسمعه من غيري“ (رواه البخاري ومسلم)، وكان عبد الله بن مسعود يقرأ بصوت حسن.
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» [1]
وقد كنى بالمزمار عن الصوت الحسن، لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان معروفا بحسن صوته بالقرآن.
ثانيا: تدبر الآيات وفهمها والعمل بها هو الهدف الأسمى
لا بد من التنويه هنا أن الاهتمام الأكبر ينبغي أن يُعطى لفهم الآيات وتدبرها واستنباط الحكم والأحكام منها، أما الاكتفاء بالنطق الصحيح والتلفظ الحسن واتقان أحكام التلاوة فهو كالاكتفاء بشم العسل دون شربه. لذلك لم نجد آية واحدة في كتاب الله تعالى تأمر بمراعاة أحكام التجويد في القراءة، بينما وجدنا آيات كثيرة تأمر بتدبر القرآن وترتيله[2] والاتعاظ بآياته، وهذا هو المقصود من إنزال الكتاب.
كما لم نجد آية في كتاب الله تعالى تأمر غير العرب بتعلم العربية من أجل قراءة القرآن بأحكام التلاوة، بل كلف الله تعالى من يتقنون العربية من علماء الأقوام الآخرين أن يبلغوا القرآن إلى أقوامهم بلغاتهم حتى يبينوا لهم المطلوب منهم. وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك بقوله:
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (إبراهيم، 14 / 4).
وقد بينت الآية أن الله تعالى أرسل رسلا إلى كل قوم لبغتهم ، ليبينوا ما نزل إليهم من ربهم، لئلا يقول الناس ما جاءنا من بشير ولا نذير. والمراد بالتبيين في الآية هو تبليغ الرسل ما أنزل إليهم، وبما أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم فقد انتقلت مهمة تبليغ القرآن إلى أمته. وكل من بلغ كتاب الله إلى الناس فهو بمعنى الرسول.
خلاصة القول:
- أحكام التجويد ليست بدعة، بل هي وسيلة لحفظ النطق الصحيح للقرآن.
- التغني بالقرآن يعني قراءته بصوت حسن.
- الأصل في ذلك هو اتباع ما ورد عن النبي ﷺ وصحابته في التلاوة، سواء بالتجويد أو تحسين الصوت.
- الاهتمام الأكبر ينبغي أن يُصب على تدبر آيات الكتاب واستنباط الحكم والأحكام منها وعدم الاكتفاء بالقراءة الحسنة للآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري (6/ 195 ط السلطانية) وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن رقم 0793
[2] الترتيل يعني جمع الآيات ذات الموضوع الواحد وتدبرها مجتمعة.