السؤال:
لماذا يكشف الرجل ذراعه وهو يلبس ملابس الإحرام للحج؟ ولماذا لا نجد هذه التفاصيل في آيات القرآن ولا نجد أيضا تفاصيل الصلاة الحركية؟ ماذا لو لم يكتب أحد عنها ولم يصلنا إلا القرآن فهل كنا سنقوم بها أو نعرفها أصلا ؟ كثيرا ما نسأل أنفسنا هذه الأسئلة؟ أليس الكتاب/القرآن تبيانا لكل شيء ؟ إلا هذه الأشياء!! فهل يوجد توضيح لو تكرمتم.
الجواب:
شكرا لسؤالك القيم، الذي احتوى عدة تساؤلات لغرض فهم مسألة واحدة، وهي دور المروي عن نبينا الكريم في فهم الإسلام وتطبيقه لا سيما في العبادات، ولنبدأ بالإجابة خطوة خطوة:
لماذا يكشف الرجل ذراعه في لباس الإحرام ؟
هذا الفعل [كشف الكتف الأيمن] يُعرف في الفقه بـ “الاضطباع”، وهو أن يجعل الحاج أو المعتمر وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، ويجعل طرفيه على كتفه الأيسر، فينكشف كتفه الأيمن. ويُسنّ هذا للرجال في الطواف فقط ، وليس طوال الإحرا، فهو من هيئات النسك المأخوذة من فعل النبي ﷺ، وليس من الواجبات ولا الأركان.
وقد فعله النبي ﷺ في طواف القدوم عندما دخل مكة، والهدف منه – كما قال بعض العلماء – هو:
- إظهار القوة والجدية في العبادة، خصوصًا حينما كان الطواف أمام المشركين.
- تمييز هيئة الحاج في نسكه.
لماذا لا نجد هذه التفاصيل [كهيئة الصلاة والطواف والعمرة وغيرها] في آيات القرآن؟
هذا السؤال من أكثر الأسئلة التي تُطرح عند التأمل في المنهج القرآني، والإجابة تكمن في فهم وظيفة القرآن وعلاقته بواجب النبي تجاهه بوصفه مبلغا للكتاب ومعلما للحكمة ومعطيا للقدوة:
نعم، القرآن هو كما وصفه منزله جل جلاله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]
لكن التبيان هنا ليس بالضرورة أن يكون تفصيليًا مباشراً في كل المسائل، بل يكون تبيانًا كليًا تقوم به الحجة ويكون أصلا في المسألة، كما يكون تبيانًا بالتوجيه إلى التطبيق العملي للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه القدوة الحسنة للمؤمنين في تطبيق الوحي.
فمن مقتضيات تبليغ الوحي تطبيقه بين الناس والحكم به، يأمر الله تعالى نبيه بالتالي:
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]
وقد طبق النبي الكريم الوحي بين الناس في زمانه، وكان الأسوة الحسنة في تطبيقه، ومثالا يحتذى، وهذا ما دلّ عليه قوله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
إن الأسوة تظهر في التطبيق لا بمجرد تبليغ النص، ومن هنا نفهم الوظيفة التامة المناطة بالنبي، ألا وهي التبليغ والتطبيق. ومن هنا تبرز أهمية الوقوف على التفاصيل الواردة عن نبينا الكريم فيما يتعلق بالعبادات التي شرعها القرآن وفصل أسسها وأركانها.
هل كنا سنعرف الصلاة والحج لو لم تُكتب السنة ولم تُنقل؟
لو لم تُنقل إلينا تطبيقات النبي للقرآن الكريم لما عرفنا كيفية الصلاة بشكلها الحالي بالرغم من وجود الأمر بها وبأركانها في القرآن، إن الصورة العملية تحتاج التطبيق النبوي حتى يكون التبليغ تاما، مثلًا: عدد الركعات، الهيئات، الأذكار في الركوع والسجود والجلوس، وبالرغم من ذكر كثير من التفاصيل في القرآن إلا أنها تبقى بحاجة إلى إيضاحها عمليا.
قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [البقرة: 238]
وقد جاء تفصيل ﴿وعلى جنوبكم﴾ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77]
أي أنَّ ذكر الله تعالى على الجنوب يكون بالركوع والسجود.
والجنوب جمع جنب وهو الناحية من الإنسان[6] وحسب الآية لا بد أن يكون المعنى أطراف الإنسان التي يعتمد عليها في ركوعه وسجوده.
ولا ينبغي أن يكون غير الأطراف عاملاً في السجود، كأنْ يضع مرفقيه على الأرض أو يلصق بطنه بفخذيه، وتطبيقاتُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تؤكد هذا الفهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظمٍ على الجبهة، وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» [7]
وعَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَجَدْتَ، فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ»[8] وقد روت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما يدلُّ على انتصاب القدمين عند السجود وملامسة أطراف أصابع القدمين الأرض[9] .
نلاحظ هنا أن تطبيقات النبي للوحي يمكن رصدها من خلال تدبر الآيات ذات الصلة، وهذا يملي علينا دراسة ما نقل إلينا من أفعال النبي وأقواله إلى جانب القرآن الكريم وعلى ضوئه وليس بمعزل عنه.
تشبيه بسيط:
تخيل أن القرآن هو اللوحة الأم/المنهاج الكبير، وأفعال النبي وأقواله هي الشرح التطبيقي والميداني. فمن غير القدوة الحسنة من النبي الكريم يصبح التطبيق عشوائيًا ومفتقرًا للدقة، ومن غير القرآن، تفقد العبادات مقصدها وعلوّها.
لماذا لم يُذكر كل شيء في القرآن مباشرة؟
القرآن كتاب هداية وتشريع عام، فهو يُركز على القواعد العامة والمقاصد وتزكية النفوس.
فالتفصيل المطول في كل الأمور لم يكن من مقاصد القرآن، لأن ذلك كان سيجعل القرآن كتابًا ضخمًا جدًا يُثقّل على الناس قراءته وفهمه ويعيق عن تدبره. كما في قوله تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189]
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى، قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [البقرة: 220]
كانوا يسألون عن التفاصيل الدقيقة، والقرآن يرد بإجابات تُربي على المفاهيم الأساسية والمقاصد الكبرى، وليس على جزئية سؤالهم فقط.
وعندما سألوا عن موعد الساعة أجابهم القرآن بضرورة العمل لذلك اليوم وليس الانشغال بموعد قدومه، لأنه قادم لا محالة، ولا يفيد الإنسان تلك المعرفة، فالذي يفيده حقا هو القيام بما هو مطلوب منه شرعا:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا. إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: 42-46]
وكان من منهج القرآن أنه لا يشجع على الأسئلة التفصيلية التي تلحق بالناس الحرج إن نزل تشريع بخصوصها:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ، عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ [المائدة: 101-102]
القرآن أساس الشريعة، وتطبيقات النبي هي الشرح العملي، والاثنان معًا هما الوحي، وهما وحي واحد وليس اثنين كما يتصور البعض، لأن أقوال النبي وأفعاله وأحكامه هي حِكم ومواعظ مستنبطة من القرآن الكريم.
فلو فُقد ميراث النبي، لضاع علينا التطبيق، ولو فُقد القرآن، لضاع الأصل، لكن تم حفظ التطبيق بحفظ الكتاب وبنقل تلك التطبيقات عبر الأجيال. وقد أسهم تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري وما تلاه في حفظ الميراث النبوي بالرغم مما دخل عليه من الزيادة والتحريف، لكن القرآن محفوظ بحفظ الله تعالى فصار من السهل تمييز الحديث الصحيح من الضعيف برد الرواية إلى كتاب الله تعالى فينظر مدى توافقها معه أو عدم توافقها. وهكذا يكون القرآن هو المعيار الرئيسي في قبول الأخبار عن النبي أو ردها.
الخلاصة
- القرآن يعطي الإطار العام، ويؤسس للمكانة والفرضية والمقصد.
- القرآن يذكر الأركان الرئيسية لكل شعيرة دون ذكر الهيئات والتفاصيل الأقل أهمية
- السنة تُعطي التطبيق العملي المفصل لكل شعيرة.
- وبهذا نعبد الله على بصيرة وفهم وتوازن.
- الحديث لا يكون حجة إلا إذا توافق مع القرآن ومقاصده.
*وللمزيد حول الموضوع ننصح بالاطلاع على الفتاوى والمقالات التالية:
هل تُعدُّ أحاديث النَّبيِّ من الوحي https://www.hablullah.com/?p=3032
متى تكون الرواية عن النبي حجة ملزمة https://www.hablullah.com/?p=5191
مصطلح السنة بحسب القرآن والتراث https://www.hablullah.com/?p=5877