حبل الله
ألفاظ القرآن بين المقصود والموروث

ألفاظ القرآن بين المقصود والموروث

السؤال:

تحياتي للقائمين على الموقع.. أحبكم كثيرًا، وأشكركم على اهتمامكم بالرد، وأتمنى أن يتسع صدركم لسؤالي هذا، فوالله ما وجدت الراحة فيما يضيق صدري به منذ سنوات إلا هنا.

عندي بعض علامات الاستفهام على بعض الكلمات في القرآن الكريم واعذروني إن استخدمت بعض الألفاظ في سؤالي ليس سوء أدب مع الله تعالى أبدًا ولكن فقط لكي أوصل فكرتي في السؤال.

أولًا، لماذا استخدم الله تعالى عند انتهاء فترة الحيض كلمتي ﴿يَطْهُرْنَ، تَطَهَّرْنَ﴾ وهي كلمات تعطي انطباعًا بالنجاسة أثناء فترة الحيض، وكما قرأت هنا في موقعكم أن الحائض تستطيع الصلاة والصيام وأن المقصود في فترة المحيض هو فقط اعتزال العلاقة الزوجية، فلماذا جاء التعبير بالطهر مما أعطى انطباعًا بأن النساء في هذه الفترة نجسات، لماذا لم يكن التعبير بلفظ آخر .؟

ثانيا: قوله تعالى: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ والمقصود بالهجر يعني هجر الفراش والضرب بمعنى التثبيت، ولكن كلمة (اهجروهن) تعطي انطباعًا بالعقاب والزجر، وكذلك (اضربوهن) التي ما زالت تفسر أنها الضرب غير المبرح، فلماذا استخدام هذه الألفاظ التي توحي بمعنى غير المعنى المقصود؟

ثالثا: قوله تعالى في الآية الخاصة بالتيمم: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء﴾ ، أعرف أن لفظ الغائط يعني المكان المنخفض حيث كان الناس يقضون حاجتهم هناك، ولكن هو يعطي انطباع الشيء القذر، ثم بعد القذارة تذكر ملامسة النساء، فلماذا هذا الترتيب!! حتى أن لفظ لامستم بعني مباشرة النساء وليس مجرد اللمس، فلماذا تعبير اللمس وقد ذكر من قبل (فباشروهن) في إشارة للعلاقة الزوجية .

دائما تراودني هذه التساؤلات عند قراءة القرآن، حيث أجد أن هناك آيات أشار الله فيها مثلا إلى الصلاة والزكاة بطريقة عابرة بدون تفصيل، وفي المقابل أجد آيات يفصل الله فيها تفاصيل ليست بأهمية الصلاة مثل ما في سورة النور مثلا عند الاستئذان في البيوت أو الأكل في بيوت أعمامكم وعماتكم، بل أنني أجد فيها تكرارًا ومرارًا يشعرني بالملل وأنا أقرأها (استغفر الله) فلماذا كل هذا الحرص على هذا التفصيل وفي المقابل لا تفصل الصلاة وغيرها .

وأكثر ما يصيبني بالإحباط لماذا دائمًا يستخدم الله ألفاظًا توحي بشيء والمقصد منها شيء آخر؟ لماذا كل هذا اللبس؟ أليس التعبير الواضح الذي يشير للمعنى المقصود مباشرة أفضل من الكلمة التي تحمل أكثر من معنى ، ثم نقول لا أبدًا ليس هذا هو المقصود، فلماذا لم يقل الله تعالى هذا المقصود مباشرة؟

في انتظار الرد وشكرًا مقدمًا.

الجواب:

نشكر السائلة الكريمة على ثقتها وشعورها النبيل تجاهنا، هدانا الله تعالى وإياها إلى سواء السبيل.

من الواضح أن السائلة كغيرها من أكثر النساء اللاتي مازلن يقعن تحت تأثير ثقافة الازدراء والدونية التي وصُمت بها المرأة حتى جعلها تنظر إلى كتاب الله تعالى من منظور المؤامرة التي تعرضت لها على مر العصور نتيجة جاهلية المجتمعات وبُعدها عن تعاليم الكتب السماوية وتحريف ما جاء فيها من أحكام تساوي الذكر بالأنثى في العمل والجزاء وتفرقهما عن بعضهما في بعض التكاليف نتيجة اختلافهما فيما فضل به تعالى بعضهم على بعض.

فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في استخدام ألفاظ تحتوي على معان أخرى توحي بالقسوة والعنف أو النجاسة والقذارة في حق المرأة إذ جاءت الألفاظ نفسها في حق الرجل، كما أن معناها لا يمت بتلك المعاني بصلة كما سيتبين، ولكن المشكلة تكمن في ثقافتنا نحن وتردد قلوبنا بين أكثر التفاسير وأقوال المذاهب التي بنيت على الروايات المفتريات على الله تعالى وعلى رسوله الكريم التي تؤيد فكر الجاهلية، ولو نظرنا إليها بمنظور مراد رب العالمين الذي بينه في كتابه لما وقعنا في الحيرة والضياع.

ولكي نفهم ما هو مراده تعالى فعلينا أن نعرض اللفظ مع مثيله في الآيات كلفظ الضرب – وكما ذكرنا في موقعنا – أنه لم يأتِ بمعنى الإيذاء الجسدي وخاصة مع النساء حيث تكرر معهن أكثر من مرة، ولو قصد به الإيذاء فما معنى ضرب المرأة في الآيات التالية:

  • ضربها بخمارها وبرجلها في قوله تعالى:

﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ…. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ النّور (31)

هل يعني إيذائها لنفسها واستخدام الخمار كوسيلة لضرب نفسها موضع جيبها، وكذلك في ضربها للأرض برجلها هل جاء بمعنى ركلها وإيذائها الأرض بقدميها!

وقد ذُكر اللفظ كذلك مع أيوب عليه السلام في قوله تعالى:

﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ ص (44)

فهل تعني أن يضرب نفسه ويؤذيها حتى يشفى من مرضه؟!

  • وكذلك لفظ الهجر، الذي ننظر إليه على أنه بُعد وترك يصحبه أذى وجفاء وقسوة، فقد بيَّن تعالى كيف يكون الهجر في قوله لرسوله:

﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ المزّمّل (10)

فهل من المنطق أن يأمر تعالى رسوله بهجر المشركين هجرًا جميلًا ثم يأمر المؤمنين أن يهجروا أزواجهن هجرًا خلاف ذلك؟!

وكذلك الألفاظ التي ذكرتها السائلة الكريمة من التطهر والتي توحي بمعنى النجاسة في حق النساء والتي أدت إلى اللبس – على حد تعبيرها_ قد ذُكرت في كتاب الله تعالى مع مواطن أخرى كثيرة، نذكر منها:

  • فقال تعالى في وصف كتبه:

﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ البينة (2)

فهل تم غسل الصحف قبل تلاوتها؟

  • وذكر أزواج الجنة من الرجال والنساء بهذا الوصف:

﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ النساء (57)

فهل كان الأزواج نجسين قبل دخولهم الجنة؟!

  • واللفظ نفسه جاء متعلقًا بالرجال كما في قوله:

﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ التوبة (108)

فهل دخل هؤلاء الرجال ليغتسلوا من نجاستهم في المسجد؟!

إن الطهارة في كتاب الله تعالى لم تأتِ – كما اعتاد عليه الناس – في مقابل النجاسة وإنما جاءت في مقابل الأذى وفي مقابل إثم القلوب من الذنوب والخطايا.

والأذى ليس نجاسة، بدليل قوله تعالى:

﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ النساء (102)

ولم يقل (إن كان بكم نجاسة من مطر) ، وسماه هنا أذى لأن المطر الكثير يسبب إعاقة الحركة لكنه لا يُسبب نجاسة، بل هو رافع لها، قال تعالى:

﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ الأنفال (11)

فبيَّن تعالى أن الماء الذي ينزل من السماء يطهر المؤمنين داخليًا ويشعرهم بالطمأنينة من وساوس الشيطان فيكون سببا في الربط على قلوبهم وتثبيتهم، أم أن هؤلاء المحاربين من المؤمنين “نجسون” وسوف يطهرهم الماء الذي ينزل من السماء؟! حاشاهم.

كما أن لفظ النجس ليس غريبًا عن القرآن، فقد وصف تعالى المشركين الناقضين للعهد به في قوله:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا﴾ التوبة (28)

ومع ذلك فالنجس هنا لا يعني وسخ أبدانهم أو ملابسهم، فهذا وصفهم حتى لو اغتسلوا ليلًا ونهارًا فلن يطهروا من نجسهم ولن يدخلوا المسجد الحرام، لأن النجس فيهم هي أخلاقهم وإثم قلوبهم التي أضمرت الخبث والسوء بالرسول والمؤمنين حين نقضوا العهد معهم، وهذا التعبير دارج فيقال (فلان نجس) وربما يكون في غاية نظافة اللباس والمظهر، وإنما النجاسة في أخلاقه وأفكاره أو نظراته ولمساته.

ومن هنا لو أراد تعالى أن يصف النساء في المحيض بأنهن نجسات لقالها صراحة ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّۚ﴾ فقد جاء في آية المحيض:

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ البقرة (222)

فلفظ الطهر جاء صريحًا أنه في مقابل الأذى الذي سيلحق بالزوجين إذا باشر الرجل زوجته وهي حائض، والمتأمل للآية يجد أنها جاءت ردًا عن سؤال محدد ألا وهو إيتان الزوجة في المحيض، وبالتالي فإن الفتيات أو النساء غير المتزوجات لا يدخلن في هذا الحكم على الرغم أنهن يحضن؛ إذ أن الأذى ينتج من مباشرة الزوجين في المحيض فقط، كما أن لفظي ﴿التَّوَّابِينَ﴾ و ﴿الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ في ختام الآية يدخل فيه الرجال الذي تابوا وطهروا أنفسهم باتباع أمره تعالى باعتزال أزواجهم خلال المحيض، وقد استخدم لفظ الطهر رغم أنهم لا يحيضون.

  • أما بالنسبة للفظ (الغائط) فهو لا يعني القذارة كما يعتقد الكثيرون، إذ أن هذا المعنى (فقهي) أطلقه أكثر الفقهاء على مكان التبرز أو البراز نفسه، ولكن الغائط في كتاب الله تعالى يعني المكان البعيد العميق الذي يلقى الإنسان فيه راحته ومنه سميت الأرض الزراعية في الريف بالغيط، والشخص يغط في نوم عميق إذا استراح في نومه ونام نومًا عميقًا، فلفظ الغائط يدل على قضاء الحاجة أو النوم وكلاهما يحتاج إلى مكان لا يراه فيه أحد لئلا يطلع أحد على عورة غيره.

وحتى لو قبلنا المعنى الدارج بمعناه الفقهي أن الغائط يدل على قذر وأنه قد جاء بعده لمس النساء في قوله ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ المائدة (6)

فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل جاء الأمر في الآية الكريمة بالنساء وأُخرج منه الرجال؟ فهل النساء وحدهن من يجئن من الغائط؟!

وكذلك اللمس، أليس التلامس فعل مشترك بين الزوجين؟!

وقد بينا من قبل أن الخطاب في لمس النساء ومباشرتهن وجه للرجال دون النساء وكان الله تعالى قادرًا على أن يقول (أو لامسن الرجال) ولكنه تعالى أراد ذلك حفاظًا على حياء المرأة واكتفى تعالى بدخولها ضمنيًا في اللمس والمجيء من الغائط.

وقد بدأت الآية بقوله:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) ثم أمر الجميع: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) وختمت الآية بقوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ المائدة (6) فكلا الرجال والنساء مخاطبون بالطهارة من الجنابة وبقوله ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾.

  • أما لسؤالها عن استخدام لفظ اللمس هنا وعدم استخدام لفظ المباشرة؛ ذلك لأن الآية هنا تتحدث عن الوضوء وقد ذكرت الجنابة (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) تعبيرًا عن الحدث الذي يوجب الغسل عند الصلاة، ثم ذكر اللمس وهو ما دون الجنابة من لمس الزوجين كلاهما للآخر إذ يوجب الوضوء، فلا توجد مباشرة وإنما مجرد لمسات عابرة فكان لفظ اللمس أولى بالذكر هنا.
  • أما بالنسبة لشعور السائلة الكريمة بالملل من التفصيل المذكور في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا، فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً، كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ النّور (61)

فالآية لا تتحدث فقط عن البيوت التي يباح للإنسان أن يأكل منها وهي من وجهة نظر الكثير بديهية ولا تحتاج إلى كل هذا التفصيل الذي يستحقه موضوع أكبر منه كالصلاة – على حد قول السائلة –  ولو تُدبرت الآية المفصلة من منظور القرآن الذي هو منظور الرأفة والرحمة لتغيرت وجهة نظرنا وأدركنا مدى حبه تعالى ولطفه ورحمته بعباده إذ بدأت الآية بقوله سبحانه: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ﴾ فالآية جاءت خاصة في بيان حكم أصحاب الأعذار من المرضى المعاقين سواء أكنت إعاقتهم حركية كالأعمى والأعرج أم ذهنية كأصحاب الاحتياجات الخاصة وهم الذين غالبًا لا تخلو منهم كثير من العائلات.

فأراد سبحانه أن يذهب عنا وعنهم الحرج ويخاطب من أجلهم كل أفراد أسرهم فردًا فردًا؛ كي يؤلف قلوبهم ويرفع الحرج عن أهلهم ليبيَّن لنا أنهم جزء أصيل لا يتجزأ منا وأن لهم كافة الحقوق، وأن على الأهل داعين أو مدعوين أن يلتمسوا لهم الأعذار ولا يتأففوا أو يخجلوا إذا لم يراعي أحدهم آداب الطعام أو الجلوس أو اللباس، فقد ينسكب منهم الطعام كالأعمى ويحتاج الأعرج إلى جلسة معينة وقد تمتد أيدي المعاقين ذهنيًا إلى ما ليس لهم ولا يتحكمون في أنفسهم فيتفوهون بكلام عابر ويتصرفون بعشوائية.

ولو تأملنا الواقع المحيط بنا فسوف نجد أن أكثر الأهل – الذين لديهم أحد المذكورين – يحبسونهم في غرفهم ويمنعونهم من الاختلاط بالضيوف من الأهل، ويرفض أكثرهم الدعوة إلى الطعام وزيارة أقاربهم خوفًا من فقد السيطرة عليهم والشعور بالحرج والضيق من تصرفاتهم.

فأنزل أرحم الراحمين فيهم قرأنًا وآيات مفصلة تُتلى إلى يوم القيامة يخاطب فيها أسرهم والقريبين منهم ليبين أن مرضهم وعجزهم هو جواز مرور دخولهم في بيوت أهلهم، وهو رخصة مفتوحة لهم ألا يشعر أحد بالحرج منهم، ولا يُشعرهم بالنقص والعجز والإعاقة وألا يتأفف أحد من وجودهم ومرضهم، وأن عجزهم ليس عذرًا لهم أن يتجنبوا الآخرين ولا لأحد أن يتجنبهم، وألا يُنظر إليهم أحد نظرة الدونية والسخرية أو إزدائهم واعتبارهم عورة يستحيون من مواجهة الناس به فيشعر المريض وصاحب العذر أنه منبوذ من أهله وصديقه فجاءت الآية الكريمة مفصلة: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

أما بالنسبة للسؤال عن عدم تفصيل الصلاة، فقد جاءت عشرات المرات وذُكرت أركانها من القيام والركوع والسجود للتنبيه على أهميتها ونفعها في صلاح المؤمنين ولم يرد سبحانه وتعالى أن يذكر ما يُقرأ فيها ولا عدد ركعاتها لـ ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَة﴾ نذكر منها، عدم انشغال المؤمن بالكم على حساب الكيف فيفقد الخشوع الذي هو أهم أركانها: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ المؤمنون (2) وهو الأمر الذي وقع فيه أكثر الناس (إلا من رحم ربك) من الذي يقومون بمجرد حركات قد ألفت فيها كتب من رفع اليد ووضعها وتفريج الأصابع وضمها ورفع الإصبع ومحاذاة القدمين وذكر البسملة أو تركها، فانشغل أكثرهم بشكل الصلاة على حساب التدبر والخشوع وتسليم القلب، كل هذا ولم يأتِ من هذه التفاصيل شيء في الكتاب، فما بال الناس لو ذكرت؟!

وختامًا:

إن المتأمل في الكتب السماوية السابقة يجد المنهج السماوي في الأحكام والحرام والحلال واضحا جليا، أما بالنسبة للتعاليم والحِكم الربانية فجاءت عن طريق ضرب المثل واستخدام الكناية والتورية والتشبيه حتى يقرب الصورة في ذهن السامع وفي الوقت نفسه يجعله في حالة تدبر مستمرة يطوف بين الآيات والسياقات المتعلقة بنفس الموضوع ليستزيد من علمه تعالى ويدرك الحكمة ويخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحق. وقد نزل القرآن متبعًا نفس المنهج:

﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ الزمر (27)

ذلك لأن الإيمان بالكتاب لا يتأتى بالتقليد ولا بالحفظ وإنما بالتدبر والفهم.

وقراءة القرآن تحتاج إلى الاستعاذة من وساوس الشيطان:

﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ النحل (98)

وأن يكون البحث بصفاء القصد ونقاء القلب فكتابه تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ الواقعة (79) – التي بالمناسبة لا تعني المطهرون من الحيض أو النجاسة كما فسرها البعض – وإنما أحد معانيها أن كتابه تعالى طاهر مطهر لا يستطيع مسه والشعور بما جاء فيه من نور وحكمة وطهر إلا من طهر قلبه من الشك والشرك، وإذا حدث أن عجز العقل عن إدراك الحكمة من وراء استخدام بعض ألفاظه ومعانيه فينبغي التسليم بقصر الفهم وليس بسوء الظن، كالراسخين في العلم الذين يقولون: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ آل عمران (7) والذين يدعون ربهم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ آل عمران (8).

الباحثة: شيماء أبو زيد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.