حبل الله
الحسد وعلاقته بالعين

الحسد وعلاقته بالعين

الحسد من أعمال القلب كالبغض والخوف والحزن وما إلى ذلك.

نقول حَسَدَه يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حَسَداً وحَسَّدَه إِذا تمنى أَن تتحول إِليه نعمته وفضيلته أَو يسلبهما هو. قال الجوهري: وترى اللبيبَ مُحَسَّداً لم يَجْتَرِمْ شَتْمَ الرجال وعِرْضُه مَشْتوم.

والحسد أَن تتمنى زوال نعمة المحسود إِليك. وحكى الأَزهري عن ابن الأَعرابي الحَسْدَلُ القُراد ومنه أُخذ الحسد، فإنه يقشر القلب كما تقشر القراد الجلد فتمتص دمه[1].

أنواع الحسد

الحسد نوعان: حسد مذموم، وحسد محمود، وعند إطلاق كلمة الحسد فإنه يتبادر إلى المذموم منه لشيوعه وخطره، وسوف نتحدث عنهما بإيجاز:

أولاً: الحسد المذموم: المقصود بالحسد المذموم هو أن يرى الإنسان نعمة على إنسان آخر فيكره ذلك ويتمنى زوال تلك النعمة عنه وانتقالها إليه، وهذا النوع من الحسد ذَمَّه اللَّه وحَرَّمه في كتابه وحذرنا منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة.

مراتب الحسد المذموم:

للحسد المحرم مراتب نذكرها فيما يلي:

المرتبة الأولى: أن يحب الإنسان زوال النعمة عن الغير، وأن تنتقل إليه، ولذا يسعى بكافة السُّبُل المحرَّمة إلى الإساءة إليه ليحصل على مقصوده وهذه المرتبة هي الغالبة بين الحُساد.

المرتبة الثانية: أن يحب الإنسان زوال النِعْمة عن الغير، وإن كانت هذه النعمة لا تنتقل إليه، وهذه المرتبة في غاية الخُبْث ولكنها دون المرتبة الأولى.

المرتبة الثالثة: أن لا يحب الإنسان هذه النعمة لنفسه، ولكنه يشتهي أن يكون لديه مثلها، فإن عجز عن الحصول على مثلها، أحب زوال هذه النعمة عن الغير كي لا يظهر التفاوت بينهما[2].

ثانيًا: الحسدُ المحمودُ: المقصود بالحسد المحمود هو أن يرى الإنسان نعمة على غيره، فيتمنى أن يكون له مثلها دون أن يكرهها أو يتمنَّى زوالها عن ذلك الغير[3].

ويُسمى هذا النوع من الحسد المحمود بالغِبْطة أو المنافسة وقد يطلق عليه الغيرة، ومن المعلوم أن المنافسة في عمل الخيرات وطلب الآخرة أمر حثنا عليه الله في كتابه والنبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة.

قال تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمٌِ} (الحديد، 21)، وقال سبحانه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين، 26)

روى البخاري عن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل عَلَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلما أُوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يُهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أُوتيتُ مثل ما أُوتي فلان فعملت مثل ما يعمل)[4]

أسباب الحسد

قد لا أستطيع إحصاء كل أسبابه لكنني أذكر أشهرها:

1_ الكبر؛ وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر على شخص ما ، ويستصغره ويستخدمه ، ويتوقع منه الإنقياد له ، والمتابعة في أغراضه ، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره فيحسده.

2_ العجب؛ إعجاب الشخص بنفسه يدفعه إلى أن يحسد من اختص بشيء دونه كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة، إذ قالوا لأنبيائهم ما ذُكر في قوله تعالى : {قالوا ما أنتم إلا بشرمثلنا}  كذلك في قوله تعالى: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} وقوله تعالى {ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون}  فتعجبوا من أن يفوز أحد دونهم بمزلة الرسالة والنبوة والوحي.

3_ الخوف؛ كخوف شخص من استحواذ أخيه على قلب أبويه، كحال يوسف عليه الصلاة والسلام مع إخوته، أو الخوف من استحواذ المرأة على قلب زوجها دون ضرائرها أو كحال الطالب مع مدرسه.

4_ ا لتعزز،  وهو أن يرى من هو مثله يتفوق عليه بما تألفه النفس عادة كالعلم والولاية والمال، فيخاف أن يتكبر عليه بعد ذلك، فيحسده.

5_ حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه، فمن رأى أحدا سبقه إلى ما يحب ربما تولد الحسد تجاهه.

6_ خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى؛ فهؤلاء لا يرون خيرا أصاب أحدا إلا اتقدت قلوبهم غيظا وحسدا، فهم لا يحبون مجامع الخير إلا لأنفسهم.

جاءت كلمة الحسد في القرآن بمشتقاتها المختلفة وما يدل عليها من كلمات وأحوال مرات عديدة. قال الله تعالى:

1_ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}  (البقرة،109)

2_ {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} (النساء،54_55)

3_ {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} (الفتح، 15)

4_ {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الناس،4_5)

5_ {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة، 34) فامتناعه عن السجود كان في الأصل حسده لآدم فقد رأى نفسه أولى بالتكريم من آدم

6_ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة، 27)

7_ {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (يوسف،5) سيكيدون له لحسدهم إياه

8_ {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (يوسف،8_9)

9_ {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف ،67_68)

10_ {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  (الحشر،9) قيل في تفسير حاجة أي حسدا وهو وصف لما كان عليه الأنصار من كرم وإيثار.

11_ قال تعالى: {وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} ( القلم –51 ) فقد كانوا ينظرون إلى النبي نظرة الحسد لما اختصه الله تعالى من النبوة والوحي.

ذكر الحسد في السنة والتحذير منه

1_ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)[5].
2_ عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاك لكم؟ أفشوا السلام بينكم)[6]

3_ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ أَوْ قَالَ الْعُشْبَ)[7]

بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب

بينت الآيات والأحاديث السابقة خطورة الحسد على الفرد والمجتمع، فهو المحرك نحو البغي والإفساد، ولا شك أنه داء القلوب الأشد خطرا لما ينتج عنه من تهييج النفس على البغضاء، وقد ينفلت عقال الشخص فيظلم أو يبغي. فالمصيبة لا تكمن في مجرد الحسد، ولكن المصيبة في تراكمه في قلب الإنسان حيث يجره إلى البغي والعدوان والكراهية، وقد أسهب الغزالي رحمه الله في ذكر علاج الحسد فقال:

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة. أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين. وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم

وأما العمل النافع فيه فهو أن يتحكم بالحسد؛ فكل ما يقضيه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والإعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه، وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد، لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصير ما تكلفه أولاً طبعاً آخر.

ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة، وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة – تكلفاً كانت أو طبعاً – تكسر سورة العداوة من الجانبين وتعود القلب التآلف والتحاب، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض[8]. 

علاقة الحسد بالعين

الحسد والعين مصطلحان متلازمان حتى لا يكاد يذكر أحدهما إلا ويذكر الآخر، وفي هذا الزمان أصبح الناس يستخدمون كلا المصطلحين للدلالة على شيء واحد لأن بينهما علاقة وثيقة؛ فالعين هي أهم أدوات القلب، فالشخص الذي ترى عينه النعمة على الآخرين وهو يكره ذلك لهم فإنه يحسدهم على ما هم فيه، ويظهر ذلك الحسد في عينه حيث النظرة الحانقة التي تخفي وراءها في القلب حسدا شديدا قد يؤدي بالحاسد أن يبغي بالمحسود سوءا. وقد عرِّفَ الحسد بأنه تمني زوال النعمة عن الآخرين.

وقد ذهب قوم إلى أنّ العين شيء مختلف عن الحسد وإن كان ثمة علاقة بينهما. فالعين عندهم تتمثل في قدرة إنسان ما على إحداث الضرر بالآخرين عندما يراهم، ويسمى هذا الشخص بالعائن، والشخص الذي يتضرر منه هو بالمعين أو المعيون. وهم يقولون إن كل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا، ويخالف بعضهم ويقول ليس شرطا أن يكون العائن حاسدا، بل يكفي أن يكون معجبا بالشيء حتى يعين، ولذلك يقولون إنّ الشخص قد يصيب أولاده بالعين لكنه لا يحسدهم.

ونحن في بحثنا هذا سنسلط الضوء على هذا الموضوع ونجلي النظرة الشرعية فيه، معتمدين على كتاب الله والسنة المطهرة، ولا بد أن نعرج على أراء العلماء لمزيد من الفهم، وقد تعددت آراؤهم فيما يتعلق بتأثير عين الحاسد في المحسود، وانقسموا من هذه القضية فريقين رئيسيين:

الفريق الأول: يقول إن هناك تأثيرا لعين الحاسد في المحسود، وأصحاب هذا الرأي انقسموا في كيفية هذا التأثير ثلاثة أقسام كما يلي.

القسم الأول: يقول بأن هناك قوة غضبية سمية تخرج من عين العائن بعدما تتكيف نفسه الخبيثة، بحيث تؤثر في المعيون سلبا، وقد ينتج عن هذا التأثير أمراض نفسية وعضوية قد توصل المصاب إلى الموت، يقول ابن حجر: وَالْأَرْوَاح مُخْتَلِفَة فِي طَبَائِعهَا وَقُوَاهَا وَكَيْفِيَّاتهَا وَخَوَاصّهَا : فَمِنْهَا مَا يُؤَثِّر فِي الْبَدَن بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَة مِنْ غَيْر اِتِّصَال بِهِ لِشِدَّةِ خُبْث تِلْكَ الرُّوح وَكَيْفِيَّتهَا الْخَبِيثَة . وَالْحَاصِل أَنَّ التَّأْثِير بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَخَلْقه لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الِاتِّصَال الْجُسْمَانِيّ ، بَلْ يَكُون تَارَة بِهِ وَتَارَة بِالْمُقَابَلَةِ ، وَأُخْرَى بِمُجرِدِ الرُّؤْيَة وَأُخْرَى بِتَوَجُّهِ الرُّوح كَاَلَّذِي يَحْدُث مِنْ الْأَدْعِيَة وَالرُّقَى وَالِالْتِجَاء إِلَى اللَّه ، وَتَارَة يَقَع ذَلِكَ بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّخَيُّل ، فَاَلَّذِي يَخْرُج مِنْ عَيْن الْعَائِن سَهْم مَعْنَوِيّ إِنْ صَادَفَ الْبَدَن لَا وِقَايَة لَهُ أَثَّرَ فِيهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفُذ السَّهْم ، بَلْ رُبَّمَا رُدَّ عَلَى صَاحِبه كَالسَّهْمِ الْحِسِّيّ سَوَاء[9] .

القسم الثاني: يقول إن تأثير العائن على المعين لا يكمن في تأثير قوة نفس العائن وإنما تخرج من عينه قوة حسية (كهرمغناطيسية) تؤثر في المعين وتلحق به ضررا حتى الموت أحيانا.

والفرق بين القولين السابقين يكمن في طريقة تأثير العائن في المعين:  فالقسم الأول يؤمن بقوة الأرواح بحيث أنها تستطيع أن تفعل خارج حدود الجسد وبمعزل عنه، بينما يؤمن الفريق الثاني بالمادة؛ لأن الأرواح لا تفعل شيئا دون الجسد. أصحاب القول الأول يتهم الثاني بالطبائعية وعدم معرفة قوة الروح والنفس في الإنسان المخلوق من الجسد والروح، بينما يتهم أصحاب القول الثاني الفريق الأول بالخيال واللاواقعية.

القسم الثالث: يقولون إن تأثير العائن على المعين لا يكون جسديا بل نفسيا فقط، كأن يسبب له إحباطا أو ارتباكا أو يجعله يفقد الثقة في نفسه. فقد نقل الرازي في تفسيره هذا الرأي ونسبه إلى الحكماء حيث قالوا إن هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه، ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه ، وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه ، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة ، وأيضاً أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جداً فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني ، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية ، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان . فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان، وأيضاً جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه ، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك[10].

والقائلون بتأثير العين على اختلاف تفسيراتهم كانت لهم الحجج والأدلة التالية:

1_ قال الله تعالى {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم، 51) فقد ذكر بعض المفسرين أن أحد وجوه تفسير هذه الآية هو إصابتهم إياه بالعين، كما ذكر ذلك الطبري[11].

2_ قال تعالى { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (يوسف، 67) قالها يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذُكر أنه طلب ذلك منهم لخوفه العين عليهم.

3_  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (العين حق ونهى عن الوشم)[12]

4_  عن أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ َقَالَ (الْعَيْنُ حَقٌّ)[13]

5_  عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا)[14]

6_  عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال (استرقوا لها فإن بها النظرة)[15]. أي العين، وقيل عين الجن ، وقد أثبت قوم الإصابة بعين الجن كذلك اعتمادا على هذا الحديث.

قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيّ : أَخَذَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث ، وَقَالُوا : الْعَيْن حَقّ ، وَأَنْكَرَهُ طَوَائِف مِنْ الْمُبْتَدِعَة ، وَالدَّلِيل عَلَى فَسَاد قَوْلهمْ أَنَّ كُلّ مَعْنَى لَيْسَ مُخَالِفًا فِي نَفْسه ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى قَلْب حَقِيقَة ، وَلَا إِفْسَاد دَلِيل ، فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوِّزَات الْعُقُول . إِذَا أَخْبَرَ الشَّرْع بِوُقُوعِهِ وَجَبَ اِعْتِقَاده ، وَلَا يَجُوز تَكْذِيبه . وَهَلْ مَنْ فَرَّقَ بَيْن تَكْذِيبهمْ بِهَذَا ، وَتَكْذِيبهمْ بِمَا يُخْبِرهُ بِهِ مِنْ أُمُور الْآخِرَة ؟[16]

أما عن كيفية تأثير العين فيقول النووي: وَأَقْرَب طَرِيقَة قَالَهَا مَنْ يَنْتَحِل الْإِسْلَام مِنْهُمْ أَنْ قَالُوا : لَا يَبْعُد أَنْ تَنْبَعِث جَوَاهِر لَطِيفَة غَيْر مَرْئِيَّة مِنْ الْعَيْن ، فَتَتَّصِل بِالْمَعِينِ ، وَتَتَخَلَّل مَسَامّ جِسْمه ، فَيَخْلُق اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْهَلَاك عِنْدهَا كَمَا يَخْلُق الْهَلَاك عِنْد شُرْب السُّمّ ، عَادَة أَجْرَاهَا اللَّه تَعَالَى ، وَلَيْسَتْ ضَرُورَة ، وَلَا طَبِيعَة أَلْجَأَ الْعَقْل إِلَيْهَا . وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْعَيْن إِنَّمَا تَفْسُد وَتَهْلَك عِنْد نَظَر الْعَائِن بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى ، أَجْرَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْعَادَة أَنْ يَخْلُق الضَّرَر عِنْد مُقَابَلَة هَذَا الشَّخْص لِشَخْصٍ آخَر . وَهَلْ ثَمَّ جَوَاهِر خَفِيَّة أَمْ لَا ؟ هَذَا مِنْ مُجَوِّزَات الْعُقُول ، لَا يُقْطَع فِيهِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُقْطَع بِنَفْيِ الْفِعْل عَنْهَا وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى . فَمَنْ قَطَعَ مِنْ أَطِبَّاء الْإِسْلَام بِانْبِعَاثِ الْجَوَاهِر فَقَدْ أَخْطَأَ فِي قَطْعه ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْجَائِزَات[17].

قال الأصمعي: رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال: أيتهن هذه ؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المورى بها والمورى عنها. وسمعته يقول: إذا رأيت الشئ يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني[18].

الفريق الثاني: يقول إن الإصابة بالعين لا حقيقة لها، وهي تعبير عن الحسد لا غير، وهذا رأينا أيضا، والأحاديث الواردة في العين هي تأكيد لدور العين في الحسد من جهتين، الأولى: أن العين سفير القلب وأداته فالحسد يتكون في القلب بعد معرفة النعمة على المحسود، وأعظم وسيلة للمعرفة في هذا السياق هي العين، لذلك قيل: النَّفُوسُ هو الحسُودُ المُتَعَيْن لأموالِ الناس[19]. الثانية: أن أثر الحسد يظهر في العين لذلك يربط الناس بشكل عفوي بين الحسد والعين لما بينهما من علاقة كما بينا.

كل مسلم يؤمن أنه لا فاعل بهذا الوجود سوى الله تعالى، والقول بتأثير العين تسرب من ديانات واعتقادات لا علاقة لها بالإسلام، ونحن نرى أن مبدأ الإعتقاد بقوة العين وتأثيرها يتعارض مع منطق الإسلام القائم على البرهان والدليل والداعي إلى العلم وملاحظة الظواهر الطبيعية. وقد فندنا الأدلة التي احتج بها جمهور القائلين بتأثير العين كما يلي:

1_ الآيات التي احتج بها الجمهور على تأثير العين تأويلها على خلاف الأظهر، فقوله تعالى {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم} لا دلالة في هذه الآية على الإصابة بالعين، وغاية ما تدل عليه، أن الذين كفروا لشدة غيظهم ينظرون إلى رسول الله نظرات ملؤها الحسد والحقد والغضب تكاد تزلقه أي تحرفه عن مساره والمقصود هنا موافقته على بعض ما يريدون، ويؤيد هذا قوله تعالى {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الإسراء، 74)، وبالجمع بين الآيتين يتضح المقصود من قوله تعالى {ليزلقونك بأبصارهم} ومثل هذا التعبير متعارف عليه ومألوف بين الناطقين بالعربية، ويراد به بيان حدة النظرة ولؤم صاحبها، دون أن يكون لها تأثير سلبي واقعاً، ونظيره ما يتردد على الألسنة في التعبير عن النظرة الحانقة بقولهم: “يكاد يأكلك بعينيه”.

أما طلب يعقوب النبي من أولاده أن لا يدخلوا من باب واحدة فلا يستطيع أحد أن يجزم أن القصد خوفه عليهم الإصابة بالعين، بل ربما كان قصده خوفه عليهم من سلطان أو عدو يراهم عصبة من الرجال بني أب واحد فيحسدهم أو يؤرقه جمعهم فيكيد لهم ويبغي لهم سوءا، وهذا الإحتمال أقرب للصواب وأولى بالإعتبار لقيام دليل الواقع عليه، ولا ينازع في وجوده أحد، لأنه معروف ومنتشر. يقول ابن منظور: البغي أصله الحسد، ثم سمي الظلم بغيا لأن الحاسد يظلم المحسود جهده إراغة زوال نعمة الله عليه عنه[20].

فالأحاديث الواردة في العين ينبغي تأويلها بالحسد، كقوله عليه الصلاة والسلام (العين حق) بمعنى أن الحسد حق، وهو كذلك.وقد عبّر عنه بالعين لأن العين سفير القلب، وغالبا ما يتكون الحسد بعد النظر، وكذلك فإنّ العين حق فيما تخبر عن حال صاحبها، ألا ترى الحاسد يعرف من عينيه والمحزون والخائف والكاذب والمتكبر والمسرور والمحب كل أولئك يعرفون من عيونهم، فالعين حق لا تكذب. إذن لا يمكن أن يكون في الحديث دلالة على تأثير العين في المعين، وإنما فيه دلالة على تكون الحسد في قلب العائن، وظهور ذلك في عينيه.

الأدلة على عدم تأثير العين

1_ جاء القرآن الكريم بالمنهج العلمي القائم على الملاحظة والدليل، وحارب كل أنواع الإيمان بالقوى الخفية التي تحد من طاقة الإنسان وفعاليته في إعمار هذا الكون، ولا يخفى على أحد منطق القرآن في بناء العقيلة السليمة البعيدة عن التوهم والشك في عباد الله، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء، 36) وما من شيء يحصل في هذا الوجود مما يؤثر في حياتنا إلا كان منضبطا بسنن وقوانين ونواميس يمكن للإنسان ملاحظتها. وما كان من شر يأتي من عالم  الخفاء إلا حذرنا الله تعالى منه كالتحذير من كيد الشيطان، ومع ذلك وصف كيد الشيطان بأنه كان ضعيفا، لأن تأثير الشيطان ليس ماديا إنما يقتصر على الوسوسة والإغراء والإغواء، بينما يهول القائلون بقدرة العائن على إحداث الضرر بالمعين، بمجرد النظر إليه حتى ليقولون: إن أكثر ما يدخل القبر بعد القدر العين. هذه العبارة وردت كحديث شريف والمقصود أن أكثر الهالكين إنّما يكون بفعل الحسد، ومن ينظر إلى حال الناس يجده هكذا فالحروب والإقتتال والنزاعات التي يذهب ضحيتها الملايين من البشر كله بسبب مبدأ الخلافة[21] والمحرك لهذا المبدأ في النفس هو الحسد، لذلك رفض إبليس السجود لآدم، ورفض اليهود الإيمان بخاتم النبيين حسدا من عند أنفسهم. وعلى هذا الأساس ندرك بأن المقصود بالعين هو الحسد، لذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العين (الحسد) واعتبره سببا للهلاك لما ينتج عنه من صراعات وحروب دامية.

2_ إن الواقع المشاهد يثبت بالدليل الظاهر أنه لا تأثير للعين، بدليل دوام النعم على العباد، وقد احتج المثبتون لتأثيرها بحالات نادرة وشاذة ربما كانت الصدفة هي التي حكمت توافق النظرة مع حدوث المكروه للمعين، ونحن نحتج بالقاعدة العامة والسلوك المضطرد وهو تمتع أصحاب النعم بها رغم كثرة الناظرين لهم، ولو كانت الإصابة بالعين حقيقة لما دامت نعمة على عبد، ولانقرضت البشرية منذ زمن بعيد، فتجاوز القاعدة العامة إلى أحداث ميسورة غير منضبطة هو الخروج عن المنطق العلمي والإنجرار وراء روايات ضعيفة أو مؤولة وفوق ذلك معارضة لمنهج القرآن الكريم والسنة الصحيحة الداعية إلى إعمال العقل وعدم التسليم لما اعتقده الآباء وتناقلته الأجيال دون نظر أو تفكير. قال الله تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (يونس، 36) وهناك آيات كثيرة تنهى عن اتباع الظن، وخصوصا إذا تعارض الظن مع الحقائق المضطردة، فإثبات الإصابة بالعين بدليل وقوع حوادث متفرقة هو ظن لا يوجب الإثبات. أما بقاء النعم على أصحابها إلى ما شاء الله لها أن تكون دون أن يؤثر فيها العائنون والحاسدون هو القاعدة المضطردة المشاهدة التي ينبغي الركون إليها، ولا ينبغي إغماض العين عنها، والإستدلال بما كان ظنا لا يغني من الحق شيئا.

3_ قال تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} وقوله تعالى {إذا حسد} ليس جملة زائدة بلا معنى، وإنا لها محل يوضح متى ينبغي الإستعاذة من شر الحاسد، ولو سألنا متى ينبغي أن نستعيذ من شر الحاسد؟ فيكون الجواب : إذا حسد. وقد ذكر بعض المفسرين بأن المعنى إذا ظلم[22] وتعدى. وهذا معنى متعين ينبغى اعتماده.

عنَّ سَهْل بْن أَبِي أُمَامَةَ أن أنس بن مالك رضي الله عنه لما مرَّ بِدِيَارٍ بَادَ أَهْلُهَا وَانْقَضَوْا وَفَنُوا وهي خَاوِيَةٍ عَلَى عُرُوشِهَا َقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذِهِ الدِّيَارَ؟ فَقُلْتُ مَا أَعْرَفَنِي بِهَا وَبِأَهْلِهَا؟ فقال: هَذِهِ دِيَارُ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمْ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ إِنَّ الْحَسَدَ يُطْفِئُ نُورَ الْحَسَنَاتِ وَالْبَغْيُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ وَالْعَيْنُ تَزْنِي وَالْكَفُّ وَالْقَدَمُ وَالْجَسَدُ وَاللِّسَانُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)[23] يفهم من قول أنس رضي الله عنه أن مجرد الحسد لا يؤثر في المحسود إلا إذا تعدى حالة كونه حبيس القلب إلى ظهور ذلك على جوارحه بالإعتداء أوالإيذاء أوالتحريض.

قال الحسن البصري رحمه الله: (ليس أحد من خلق الله إلا وقد جعل معه الحسد، ومن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه شيء).

وقيل للحسن: يا أبا سعيد، أيحسد المؤمن؟ قال: أنسيت إخوة  يوسف؟ وفي رواية: قال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ نعم، ولكن غمَّة في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً. إذاً العبرة ليست في مجرد الحسد والنظرة، وإنما العبرة فيما يتبع ذلك، من بغي وظلم وتعدي.

والغزالي لا يفرق بين العين والحسد فهما كلمتان لمعنى واحد، وهو يرى أن الحسد ليس مرضا عضويا، بل هو من أمراض القلوب، ولا يداوى إلا بالعلم، وأنه لا ضرر فيه على المحسود فى الدنيا والآخرة ويختم بالقول: “فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق الله عليك نعمة ولا على أحد من خلقه، ولا نعمة الإيمان أيضا لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان، قال تعالى {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم..}  (البقرة 109).

الرقية: الدعاء للمريض بالشفاء

حض الإسلام على التكافل الإجتماعي ودعا إلى التعاون والتراص في أكثر من آية، وعيادة المريض من صور هذا التكافل، وفي الحديث الشريف جعله النبي صلى الله عليه وسلم من حق المسلم على المسلم، وقد خصّ قومٌ الرقية بحالات معينة كالإصابة بالعين والحمى واللدغة اعتمادا على أحاديث ضعفها علماء الحديث، وقال بعضهم يصح أن نرقي كل مريض. والخطأ الشائع في الرقية اعتبارها علاجا للأمراض، وهو خطأ بين، وبعيد عن سنن الله تعالى في الأشياء، ومخالفة واضحة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالتداوي، كما أنه مخالفة لدعوة القرآن أيضا فقد سأل نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام ربه الشفاء بعد طول ضر أصابه فاسمع ماذا كان العلاج. قال تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (ص،42)

يقول محمد رشيد رضا: ولم يثبت بالتجارب الصحيحة المطردة أن تلاوة القرآن الكريم أو كتابته في الصحف تحمل أو الصحاف يؤكل منها ويشرب سبب للشفاء من الأمراض وقضاء الحوائج، ولو ثبت لاستغنى به الناس عامة أو المسلمون خاصة عن الطب والأطباء، وعن اتخاذ الأسباب والوسائل المعروفة لسائر الحاجات والمصالح. فهذا دليل عقلي في الموضوع , وقد قرر العلماء أن النصوص الشرعية إذا خالفت الأدلة العقلية ترد إليها بالتأويل إذ لا يمكن إبطال حكم العقل لأنه أصل الإيمان، ولا يصح بدونه برهان.

ودليل ثان على ذلك وهو أنه لو أنزل القرآن لأجل المنافع الحسية الجسدية كما نزل لأجل الهداية لذكر فيه ذلك، وعُدَّ من المعجزات لأنه يكون خارقًا للعادة ولتحدى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بذلك، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن , ولم يذكر العلماء في وجوه إعجاز القرآن ما ذكر , ولم يعلم أن الصحابة أو الأئمة احتجوا على منكر بذلك[24].

إذن فالرقية هي دعاء للمريض بالشفاء ، فيدعو المريض لنفسه أو يدعو له الآخرون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة في هذا:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)[25].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضا قال (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِى لا شَافِىَ إِلا أَنْتَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا)[26].

وعن: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُ:  (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِى لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا)[27] . قال الطبرى: فيه البيان عن جواز الرقية بكل ما كان دعاء للعليل بالشفاء. وذلك أن النبى عليه السلام كان إذا عاد مريضًا قال القول الذى تقدم، وذلك كان رقيته التى كان يرقى بها أهل العلل، وإذا كان ذلك دعاء ومسالة للعليل بالشفاء فمثله كل ما رقى به ذو عله من رقية إذ كان دعاء لله مسألة من الراقى ربه للعليل الشفاء فى أنه لا بأس به.

إذا فالرقية هي دعاء ولا يصح أن ينسب إليها الفعل بذاتها لأن الفاعل بالمرض والشفاء هو الله والرقية بهذا المعنى هي إظهار فقرنا إلى الله والتجائنا إليه وهي من التوكل . وينبغي أن يسعى المسلم إلى التداوي عند أهل الإختصاص وليس عند المشعوذين والدجالين.

فعن أسامة بن شريك قال قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى قال: (نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحدا، قالوا يا رسول الله وما هو قال الهرم)[28].

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ)[29].

العيادات القرآنية

يظهر في كل زمان مبتدعون يتخذون من الدين وسيلة للتربح والكسب، يستغلون بؤس الفقراء وحاجتهم وتعلقهم بأي أمل للشفاء، لقد كثر المتخصصون بالرقية في هذا الزمان حتى أصبح لبعضهم أماكن خاصة تعرف بالعيادات القرآنية، وقد يحتاج المريض إلى الحجز مسبقا ليقابل ذلك الدجال الذي يدعي العلاج بالقرآن الكريم.

لقد ترتب على القول بتأثير العين والحسد أن فشا عمل الرقاة في هذا الزمان، ومن يتابع وسائل الإعلام يقرأ ويسمع عن عظم المصائب التي تصدر من بعض هؤلاء من اغتصاب واعتداء واستغلال لحالة المرضى، وفي بعض الحالات يموت المريض من الخنق والضرب الذي يمارسونه، وقد حدث هذا وتكرر. وقد يستند بعضهم لما ذكر عن ابن تيمية أنه قال بالضرب وأن المصروع لا يتضرر، وهذا لا ينبغي التسليم له حتى لو صحت نسبته لابن تيمية، لأن ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولم يقل به أحد من علماء المسلمين، ثم إنه يتعارض مع المنطق والمشاهد فالضرب يؤذي المريض ويزيد في مرضه وقد يؤدي به إلى الوفاة كما ذكرنا.

يعتمد الرقاة في أخذ الأجرة من المرضى على الحديث التالي:  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحك وقال: (وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم)[30]

اعترض قوم على هذا الحديث بقولهم إنه يتعارض مع آيات كثيرة ، فقد تكرر على ألسنة الأنبياء أنهم لا يطلبون أجرا على كتاب الله {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء، 109) هذه الآية تكررت على ألسنة خمسة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويخاطب الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} بناء على الرواية فإن اقتسام النبي صلى الله عليه وسلم من أجرة قراءتهم القرآن على اللديغ مخالف للقرآن وحشاه أن يفعل وإنما نحكم بعدم صحة الرواية لا غير.

إنّ فهم سنن الكون كما دعا لذلك القرآن الكريم في أكثر من مناسبة هو السبيل الوحيد للرقي والتقدم، وإنّ إهمال المقارنة بين الآيات القرآنية والآيات الكونية وآيات الأنفس، والتعلق بالمعتقدات الموروثة المؤولة خطئا هو الطريق الأقصر نحو الفشل الذريع في الدنيا والخسران المبين في الآخرة.

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: www.hablullah.com

جمال أحمد نجم

 


[1] لسان العرب، مادة حسد

[2] الإحياء للغزالي جـ3 ص298

[3] النهاية لابن الأثير جـ1 ص383

[4] البخاري، رقم الحديث 5026

[5] البخاري، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم الحديث 5605

[6] سنن الترمذي، رقم الحديث 2434، قال أبو عيسى هذا حديث قد اختلفوا في روايته عن يحيى بن أبي كثير فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد عن مولى الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن الزبير.

[7] سنن أبي داوود، باب في الحسد، رقم الحديث 4257

[8] إحياء علوم الدين، باب بيان ذم الحسد، 2/ 375

[9] ابن حجر، فتح الباري، باب رقية العين، 16/264

[10] تفسير الرازي، تفسير الآية 67 من سورة يوسف.

[11] انظر تفسير الطبري، تفسير الآية 51 من سورة القلم

[12] البخاري باب الواشمة، رقم الحديث 5488

[13] مسلم، باب الطب والمرض والرقى، رقم الحديث 4057

[14] مسلم الطب والمرض والرقى، رقم الحديث 4058

[15] صحيح البخاري، باب رقية العين، رقم الحديث 5298

[16] شرح النووي علة مسلم، رقم الحديث 4057، 7/327

[17] شرح النووي على مسلم، رقم الحديث 4057، 7/327

[18] القرطبي: 9/226

[19] المحكم والمحيط الأعظم، مادة نفس

[20] لسان العرب مادة بغى

[21] الخلافة، من الخلف والخلف: أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، ويقال للثاني الخلف وللأول السلف. وعملية الخلافة تتحقق إما بطريق طبيعي أو عن طريق المصارعة. ومثال ذلك؛ إذا مات الديك المسن يخلفه الديك الشاب. ولكن إذا أراد الديك الشاب أن يخلف الديك المسن وهو على قيد الحياة فحينئذ تحدث المصارعة على السلطة. إما يفوز الديك الشاب بقتل خصمه فيخلفه أو يُغلب فيموت بدون تحقيق الهدف. ومن المعلوم أن الدجاج لا تشترك في هذه المصارعة. وهكذا يحدث في عالم الحيوانات الأخرى. وهي أي الخلافة نظام قد بدأ مع بدء الخلق. وقد أخبر الله تعالى عن هذا بقوله: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » (البقرة، 2 / 30).

[22] تفسير السمعاني على سورة الفلق

[23] سنن ابي داوود، باب في الحسد، رقم الحديث 4258

[24] مجلة المنار، باب المسائل الزنجبارية، 7/388

[25] متفق عليه واللفظ للبخاري، صحيح البخاري، كتاب الأمر باتباع الجنائز، رقم الحديث 1164

[26] البخاري، رقم الحديث 5301

[27] البخاري، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 5302

[28] رواه الترمذي، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، رقم الحديث 1961 وقال هذا حديث حسن صحيح

[29] سنن أبي داوود، باب في الأدوية المكروهة، رقم الحديث 3376

[30] متفق عليه واللفظ للبخاري، باب الرقية بفاتحة الكتاب، رقم الحديث 5736

التعليقات

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.