السؤال:
عند قراءتي للإمام الشاطبي لم أتوصل إلى نتيجة نهائية تجاه موقفه من استقلال السنة بالتشريع، ففهمت أن ما يسميه البعض بالزيادات الجزئية هو إما اجتهادات في ضوء القرآن من قِبل النبي عليه الصلاة والسلام وإما قياسا على المذكور فيه، ولكن عند فرضية وجود زيادات تامة ومستقلة لم يتبين لي موقفه بوضوح، فتارة يقول:
“وقد تقدّم في أول كتاب الأدلة أنّ السنّة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقُّف عن قبولها”
ثم يقول بعدما ذكر أدلة تدعم موقفه الأول:
“نعم ، يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة ، بل بما يكون مسكوتا عنه في القرآن ; إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز ، وهو الذي ترجم له في هذه المسألة ; فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور ; فمعناه صحيح صح سنده أو لا…” ،
وأيضا قال:
“وإن لم يرجع (الدليل الظني) إلى أصل قطعي ولم يكن معارضًا لأصل قطعي فهو في محلّ النظر، فقد يقال: لا يُقبل، لأنّه إثبات شرع على غير ما عُهِد في مثله…”
فخلاصة هذا القول هو معرفة أنه هل يجوز الزيادة على كتاب الله من حيث الأصل؟ وهل تعهد الله بحفظ السنة كما تعهد بالقرآن كما يزعم الكثيرون؟ وهل مذهب الشاطبي هو عدم جواز استقلال السنة بالتشريع؟ وهل يوجد غيره من العلماء من قالوا بهذا؟ أريد التنويه أن سؤالي هو من مقام الإمكان والثبوت وليس الإثبات. شكرا جزيلا.
الجواب:
هذا السؤال يُلامس لبّ نقاش أصولي كبير طالما كان موضع جدال بين العلماء، وسأُجيبك بالتفصيل بحسب النقاط التي طرحتها، مع التركيز على فهم الإمام الشاطبي، وموقعه ضمن هذا السياق، ثم مواقف غيره من العلماء. وسنحاول الإجابة عليه كما يلي:
هل السنة يمكن أن تستقل بالتشريع عن القرآن؟ وهل يحكم العقل أو النص بجواز الزيادة على كتاب الله؟
أولًا: هل يجوز الزيادة على كتاب الله من حيث الأصل؟
الإجابة هنا تختلف باختلاف المقصود بـ”الزيادة”:
- إن كانت الزيادة تعني التشريع الجديد تمامًا الذي لا يوجد له أصل في القرآن (لا نص ولا إشارة ولا عموم ولا سكوت يدل على قبول)، فقد ذهب الشاطبي كثير من الأصوليين إلى منع ذلك، بدعوى أن القرآن قد اكتمل، وأن كل حكم شرعي يجب أن يكون له أصل أو وجه اتصال بالقرآن.
- أما إن كانت الزيادة بمعنى بيان أو تطبيق عملي للقرآن، فهذا ما يُجمع عليه أكثر العلماء، بل يُعد وظيفة أساسية للرسول بصفته مكلفا بتبليغ وتطبيق الرسالة.
ثانيًا: هل تعهّد الله بحفظ السنة كما تعهّد بحفظ القرآن؟
- يرى جمهور العلماء أن السنة (التطبيق العملي للقرآن) محفوظة بحفظ القرآن الكريم واحتجوا بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] قالوا إن “الذِّكر” يشمل القرآن أصالة، وقد يشمل السنة العملية من باب التبع، لكن ليس في النصوص تصريح بأن (أحاديث النبي المروية) محفوظة كما حفظ القرآن، لهذا، يقول بعض العلماء إن الأحاديث المروية قد خضعت للتمحيص والنقد والتمحيص السندي والعقلي، لأنه وقع فيها الوضع والخطأ والزيادة والنقصان.
- الشاطبي نفسه يفرّق بين القرآن القطعي وبين السنة الظنية، ويوجب ردّ السنة إلى القرآن حتى تُقبل، ولا يكتفي بصحة سند الرواية كمعيار لقبولها كما فعل أهل الحديث.
ثالثًا: ما موقف الإمام الشاطبي من استقلال السنة بالتشريع؟
الشاطبي لا يصرّح بنفي “استقلال السنة بالتشريع” ، لكنه يقيّد قبول أي حكم في السنة بثلاثة شروط تقريبًا:
- أن لا يخالف نصًا قرآنيًا قطعيًا.
- أن يكون له وجه اتصال بالقرآن (إما بالتخصيص أو البيان أو التفصيل أو القياس أو غير ذلك).
- أن لا يكون مخالفًا لمقاصد الشريعة الكلية التي يُستنبط معظمها من القرآن.
وعليه فإن الشاطبي لا يقول بوضوح إن “السنة لا تستقل بالتشريع”، ولكنه يرى أن كل ما في السنة يجب أن يكون له وجه رجوع إلى الكتاب، إما نصًا أو مآلًا أو مقصِدًا، أو أن يكون سكوت القرآن عنه دالًا على إمكان تشريعه، وهذا بمعنى نفيه استقلالها بالتشريع.
وعبارته: “وقد تقدّم في أول كتاب الأدلة أنّ السنّة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقُّف عن قبولها” توضح ميله إلى اشتراط اتصال السنة بالقرآن قبولًا أو سكوتًا.
وقوله: “يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة ، بل بما يكون مسكوتا عنه في القرآن” يفتح بابًا لقبول بعض “الزيادات الجزئية” بشرط ألا تخالف القرآن ومقاصده، وهو ما قد يُفهم منه أن الشاطبي يُجيز زيادات تشريعية مشروطة وليست مستقلة استقلالًا تامًا.
لكنه يقول أيضًا: “فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور” أي أن الموافقة هي الشرط الأساسي، وبالتالي فهو لا يُسلّم باستقلال السنة استقلالًا كاملًا.
النتيجة عند الشاطبي:
السنة لا تُنشئ أحكامًا تشريعية مستقلة تمامًا عن القرآن، بل يجب أن تكون:
إما راجعة إلى أصله، أو موافقة له، أو غير مخالفة ومسكوتًا عنها.
رابعًا: هل يوجد غير الشاطبي من قال بعدم جواز استقلال السنة بالتشريع؟
نعم، بعض العلماء السابقين والمعاصرين ذهبوا إلى هذا المعنى أو قريبًا منه كأبي حنيفة، وأبي زيد الدبوسي الحنفي، وابن خُوَيِزِ مِنْدَاد المالكي، وإبراهيم النظام (من المعتزلة) ومن المعاصرين: جمال الدين القاسمي، ومحمد رشيد رضا، ومحمد عبده، وطه جبر العلواني، وعبدالله القيسي، وعمار الحريري، ويحي محمد. وغيرهم كثيرون.
وهو المنهج الذي يعتمده وقف السليمانية/مركز بحوث الدين والفطرة برئاسة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بايندر (المشرف العام على هذا الموقع المبارك) وفريق البحث في المركز، إذ يرون أن السنة ليست مصدرًا مستقلًا في التشريع، بل لا بد أن تعكس جوهر القرآن، وإلا فالتوقف عن الاحتجاج بها حتى يتبين أصلها في كتاب الله تعالى.
خامسًا: هل يُعد هذا الطرح مخالفًا لما عليه جمهور العلماء؟
عدم استقلال السنة بالتشريع وربطها دائما بكتاب الله تعالى هو منهج كبار الصحابة الكرام، حيث لم يكونوا يقبلون أي رواية فيها تعارض مع القرآن بالرغم من قرب زمنهم من نبينا الكريم وعدم ظهور الوضع في الحديث في زمانهم، وهو منهج كبار الفقهاء أيضا كأبي حنيفة ومالك بن أنس.
ومع تقدم الزمان بدأ الميل إلى استقلال السنة بالتشريع لا سيما عند أهل الحديث ومن سار على منهجهم من الفقهاء، ومع ذلك وضعوا شروطا لقبول الرواية منها:
1_ أن تكون ثابتة السند.
2_ أن لا تكون مخالفة لنص قرآني.
3_ أن تكون صحيحة المعنى والسياق.
وبالتالي فإن تلك الشروط لو طُبقت ستؤدي إلى النتيجة ذاتها (أي عدم استقلال السنة بالتشريع)، لكن الحال يحكي عدم تطبيق تلك الشروط عند الاحتجاج، فنجد بعض الفقهاء يحتجون بروايات تخالف القرآن نصا ومضمونا ومقصدا بحجة صحة إسنادها، وهم بذلك يظنون الانتصار للسنة، وما علموا أنهم يخالفون الحق في هذا الباب.
*وللمزيد حول المنهج القويم في فهم موقع الحديث من القرآن ننصح بالاطلاع على المقالات التالية:
الكتاب والسنة أم الكتاب والحكمة
مصطلح السُّنَّة بحسب القرآن والتراث
هل تُعدُّ أحاديث النَّبيِّ من الوحي


أضف تعليقا