حبل الله
عدالة الصحابة

عدالة الصحابة

السؤال:

ما هو موقفكم من عدالة الصحابة؟ ومقولة أن (الصحابة كلهم عدول)؟

كما هو معلوم أن الأمة أجمعت على ذلك بسبب تشريف الله تعالى لهم في القرآن الكريم، وقد قرأت الآيات الكريمة التي يستدلون بها لكن لم أفهم منها أن الله تعالى قطع بعدالة الصحابة، لعل ذلك لقلة علمي، لكن لم أرَ أن الآيات الكريمة تدل على عدالتهم وإنما تمدح أفعالهم ومآثرهم، ولا أعلم إن كانت هذه الآيات التي يُستدل بها عادة شاملة لجميع الصحابة أم لا..

قرأت على موقعكم أنكم لا تكتفون بدراسة السند بل يجب أن يوافق الحديث القرآن ولا يعطل أحكامه..
لكن إذا كان جميع الصحابة عدول فهل يسعكم رد الحديث المحكوم بصحته لعدالة الراوي؟ وما هي ضوابطكم في الاستدلال على موافقة القرآن من عدمه؟ ماذا لو كان ساق الآية التي تستدلون بها أو غرضها مختلف؟ وكيف يمكن القطع بمعنى وغرض الآية وسبب نزولها إن كانت عدالة الصحابة محل نقاش وبالتالي لا يمكن القطع برواياتهم عن أسباب النزول أو فهمهم للآية مثلا؟

أنا أختكم وجدت في موقعكم ما أراح نفسي وأجاب على بعض أسئلتي، لكن تبادر إلى ذهني هذا السؤال. جزاكم الله خيرا.

الجواب:

هنالك ثلاثة تعريفات للصحابي:

الأول: هو كل من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به ولو رآه مرة واحدة. وهو تعريف المحدثين.

الثاني: هو من طالت صحبته مدة يثبت معها إطلاق الصاحب عليه عرفاً. وهو تعريف الأصوليين.

الثالث: هو من طالت صحبته ومجالسته على طريق التبع له والأخذ عنه والتعلم منه. وهو تعريف المعتزلة أو فريق منهم.

وكلمة صحابي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلق على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي من مكة إلى المدينة، وعلى الأنصار من أهل المدينة الذين نصروا النبي وآوَوْه وحاربوا معه، وقد نص القرآن عليهم في الآية:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} (التوبة: 100)،

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} (الأنفال:74).

ومن اللافت أن القرآن لم يطلق عليهم مصطلح الصحابة وإنما أطلق عليهم مسمى: (الذين آمنوا معه)، قال تعالى:

{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 214]،

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التوبة: 201].

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29].

والخلاصة أن القول بأن “كل الصحابة عدول”، حكم بالجملة على جيل الصحابة بأكمله، وفي ذلك تجاوز لحقائق ثابتة في القرآن الكريم، إذ تحدثت آيات كثيرة أن فئة ممن أظهروا صحبة النبي كانوا في الحقيقة من المنافقين.

وواضح أن ذلك الحكم جاء كردة فعل على من هاجم الصحابة أو حكم عليهم -إلا قليلا منهم- بالردة بعد موت النبي عليه السلام كما قاله متعصبو الشيعة الإمامية، وكلا المنهجين برأيي كان مغالياً في حق الصحابة، والصحيح أن الصحابة ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم، وهذا هو منهج القرآن ذاته، فحين حكم القرآن على المجتمع النبوي بالخيرية كان ذلك الحكم للعموم الذي يغلب خيره على شره، وليس على سبيل الاستغراق لكل فرد، إذ سنجد آيات تصرح بعدم تساويهم على درجة واحدة، يقول تعالى:

{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد 10].

فالقرآن وضع معيار الهجرة في سبيل الله، ومعيار الإنفاق في سبيل الله، ومعيار القتال في سبيل الله، للمفاضلة بين الذين آمنوا بالنبي عليه السلام، وهي معايير عملية أخلاقية يتقدم فيها صاحب الخير والعمل الصالح من أي جيل كان، فالخير ليس مرتبطاً بزمن أو مكان، وإنما هو معيار عام في كل زمان ومكان، قد يتقدم فيه المتأخر ويتأخر فيه المتقدم.

وآيات أخرى صنفت المجتمع النبوي، ففيه السابقون الأولون، وفيه من خلط عملاً صالحاً بعمل سيء، وفيه من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة، وفيه المنافقون، وقد جاءت آيات سورة التوبة وهي من آخر السور نزولاً لتبين تلك الأصناف كلها

يقول تعالى:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ. وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة 100-102].

وقال تعالى عن المؤمنين:

{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152]،

فهذه الآيات ذكرت ثلاثة أصناف في المجتمع، وكل صنف درجات. وهي تخالف ذلك الحكم الاستغراقي المساوي بين الجميع بدرجة واحدة.

وقد ذكرت آيات أخرى أعمالا منافية للعدالة ظهرت في بعض أفراد المجتمع منها الفسق الناتج عن الكذب، وسجل الله تلك الحادثة في كتابه لتكون قاعدة مستمرة، وهي التبيُّن حتى فيمن كان ظاهره الإيمان، يقول تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]؛

بل وسجل القرآن ما هو أعظم من الكذب وهو الإفك والافتراء، يقول تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ، وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11].

ومن أعظم ما ينقض مقولة “كل الصحابة عدول” هو وجود فئة خفية من المنافقين نص عليها القرآن لا يعلمهم الناس، ولا يعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام، فئة تظهر غير ما تبطن، ومَن حكم عليها نظر إلى ظاهرها فربما أطلق عليها مسمى “صحابة” لأنه لا يستطيع تجاوز الظاهر إلى الباطن.

والقرآن ذكر أن هناك فئتين من المنافقين، تختلفان في درجة احتراف النفاق؛ فئة تستطيع جعل ظاهرها حسناً دون ترك علامة تكشف زيف النفاق، وفئة أخرى منافقة لكنها لا تستطيع أن تجعل ظاهرها حسناً باستمرار إذ يمكن كشفها بعلامات تظهر في سلوكهم، وقد أشار القرآن الكريم للفئة الثانية في قوله تعالى:

{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

أما الفئة الأولى فأشارت إليها آية التوبة، حيث ذكرت أن هناك منافقين مردوا على النفاق في زمن النبي ولم يكن النبي عليه السلام يعلمهم، يقول تعالى:

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101].

يقول رشيد رضا:

“مردوا عليه: أحكموه وصقلوه أو صقلوا فيه حتى لم يعد يظهر في سيماهم وفحوى كلامهم، كالذين قال الله فيهم:

{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد30].”

فهذه الفئة أتقنت نفاقها حتى صار ظاهرهم غير كاشف عن باطنهم، وإذا كانت هذه الفئة قد وجدت في زمن النبي عليه السلام فمن باب أولى أن توجد في القرون التي تلته. وهذه الفئة هي أخطر فئة يمكن أن تكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، فيما عدا القرآن، لأن القرآن كتب بإشراف النبي عليه السلام عند مجموعة من كتاب الوحي، بالإضافة لحفظه في الصدور.

فإذا كان جيل الصحابة نفسه قد تخلله ذلك الاختراق بمنافقين غير معلومين فكيف بمن بعدهم، خاصة وأن النفاق يظهر في أحوال القوة للمسلمين، وهو ما كان عليه المسلمون خلال القرون الثلاثة بعد زمن النبي عليه السلام، ولما كانت الرواية في كتب الحديث رواية آحاد فبالإمكان أن يكون ذلك الراوي من أولئك الذين وصفتهم الآية بالنفاق الذي لا يعلم، والذي تمرس أصحابه عليه لدرجة قوية يصعب على المؤمن أن يكتشفهم، بل قد يراهم من خيار المؤمنين. وبهذا يكون الكذب ابتداء من الطبقة الأولى، أي طبقة الصحابة، يخرج منها المهاجرون لاستبعاد ذلك فيهم، ولأن النفاق كان في أهل المدينة. كما نصت عليه الآية.

أما بخصوص الطريقة التي يمكن اعتمادها في التفريق بين الحديث الصحيح متنا من المردود فيمكن الرجوع إلى مقالة (متى تكون الرواية عن النبي حجة ملزمة) على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=5191

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

د. عبدالله القيسي اليمني: (أساس التقديس) ص 168-171.

ابن الأمير: (ثمرات النظر) ص 111.

ابن عبد البر: (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، ج1 ص 159.

محمد رشيد رضا: (مجلة المنار) المجلد 28 الجزء 1 ص 27-28.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.