حبل الله
أبدية الجنة والنار

أبدية الجنة والنار

لم يختلف أحد في أبدية الجنة غير الفرقة الجهمية. قال الله تعالى:

«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا» (النساء، 4 / 57).

وقال صلى الله عليه وسلم:

(يا أيها الناس!… أن المرد إلى الله، إلى جنة أو نار، خلود بلا موت، وإقامة بلا ظعن).[1]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يُدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يؤذن مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار: لا موت، كل خالد فيما هو فيه).[2]

وقد جاء الحديث مبينا خلود الجنة والنار حيث نفى الموت عن أهلهما واستعمل كلمة الخلد التي تدل على الاستمرار والدوام.

ولكن اختلفت الآراء حول موضوع أبدية النار وعذابها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم. منهم من قال إن النار ستنتهي ولا يبقى فيها أحد. ومنهم من قال إنها باقية إلى الأبد. وقد قام ابن القيم بجمع معلومات وافرة حول المسألة في كتابه حادي الأرواح.[3] وكذلك فعل بعض الباحثين المعاصرين مستفيدين من ابن القيم وغيره ممن اهتموا بالموضوع.[4]

والأصل في مثل هذا الموضوع أن يكون المرجع هو القرآن الكريم. قال الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ» (النساء، 4 / 59).

وهذا من مقتضيات الإيمان بالكتاب، لذا ختمت الآية بقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر».

وقد وصف القرآن الكريم مكث الكفار في النار وعذابها بـ “الأبد” و”الخلد” مما يدل على الاستمرار والدوام.[5] قال الله تعالى:

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» (النساء، 4 / 168-169).

والآية المذكورة وغيرها من الآيات تفيد أبدية النار وعذاب أهلها. ومع ذلك يستدل البعض على انتهاء النار وخروج أهلها منها بمثل قوله تعالى:

« لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا» (النبأ، 78 / 23)،

ذلك أن كلمة “الأحقاب” مهما امتدت الا أنها تبقى محدودة في الزمن وتنتهي، والصحيح أنه يفهم منها الوعيد. والوعيد هو التهديد بعقوبة معينة ولكن لا يمنع أن يعفو عن تلك العقوبة. ولكن حين نقرأ الآية مع لاحقها يتبين المقصود من الأحقاب. قال الله تعالى:

«لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا؛ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا؛ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا؛ جَزَاءً وِفَاقًا» (النبأ، 78 / 23-26)؛

فهذه الآيات لا دليل فيها على فناء النار، إذ غاية ما تفيده أن أهل النار يمكثون أحقاباً من الزمن في نوع من العذاب هو الحميم والغساق، ثم ينتقلون منه إلى آخر بدليل قوله تعالى: «هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ» (ص، 38 / 57-58). ومعلوم أن عذاب أهل النار أنواع، وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن.

أما ما روي عن الصحابة مثل “ليأتين على جهنَّم زمان، ليس فيها أحد” و”يأتي على النار زمان تخفق أبوابها، وينبت في قعرها الجرجير” لم يثبت صحته. وعلى فرض صحته يقصد بهم عصاة المسلمين، فإنه يخرج منها آخر من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فتخبو وتخفق أبوابها وينبت في قعرها الجرجير، أما دركات النار المعدة سجناً وعذاباً للكفار فهي أبدية وعذابها لا ينقطع.

وهناك  احتمالات في المسألة يمكن عرضها على الكتاب المحكم واحدة بعد الأخرى، نوردها مع ما يقوله المحكم تجاهها:

  1. يحتمل أنها تخبو، فإذا المحكم يقول:

«كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا» (الاسراء، 17 / 97).

ومعلوم أن كلما أداة من أدوات التكرار بلا خلاف.

  1. يحتمل أنها تأكلهم حتى لا يبقى منهم شيء، فإذا المحكم يقول:

«كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا» (النساء، 4 / 56)، فلم يبق لهذا الاحتمال نصيب بموجب هذه الآية.

  1. يحتمل أنهم يخرجون منها هاربين، فإذا المحكم يقول:

«كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ» (الحج، 22 / 22)،

فلم يبق لهذا الاحتمال أيضاً نصيب من الاعتبار.

  1. يحتمل أنهم يموتون فيها والميت لا يحس ولا يتألم، فإذا المحكم يقول:

« إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى» (طه، 20 / 74) »، ويقول أيضا: « يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ» (إبراهيم، 14 / 17)،

فلم يبق لهذا الاحتمال نصيب من الاعتبار.

  1. يحتمل أنهم يتعودون حرها فلم يبق يؤلمهم لتعودهم عليه، فإذا المحكم يقول:

«فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا»، ويقول: «إن عذابها كان غراماً»،

والغرام: الملازم، ومنه جاء تسمية الغريم، ويقول المحكم: «فسوف يكون لزاما»، فلم يبق لهذا الاحتمال أيضاً نصيب من الاعتبار.

وعلى هذا فلم يبق إلا احتمال واحد وهو أنه لا يقع شيء من ذلك كله، وأنها أبدية وعذابها لا ينقطع. والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أنظر: مجمع الزوائد، 5 / 56.

[2] البخاري، كتاب الرقائق 51؛ مسلم، الجنة 40؛ الترمذي، الجنة 20.

[3] ابن قيم الجوزي، حادي الأرواح، القاهرة 1971، ص. 282-314.

[4] أنظر: يوسف شوقي ياوز، الموسوعة الإسلامية الصادرة من قبل وقف الديانة التركية، مادة: العذاب، 4 / 302-309.

[5] أنظر: تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 6 / 426.

 

التعليقات

  • ما أتيت به من استدلالات يمكن الرد عليها.
    أولا كلامك

    \\قوله تعالى: « لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا» (النبأ، 78 / 23)، ذلك أن كلمة “الأحقاب” مهما امتدت الا أنها تبقى محدودة في الزمن وتنتهي، والصحيح أنه يفهم منها الوعيد. والوعيد هو التهديد بعقوبة معينة ولكن لا يمنع أن يعفو عن تلك العقوبة. ولكن حين نقرأ الآية مع لاحقها يتبين المقصود من الأحقاب. قال الله تعالى: «لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا؛ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا؛ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا؛ جَزَاءً وِفَاقًا» (النبأ، 78 / 23-26)؛ فهذه الآيات لا دليل فيها على فناء النار، إذ غاية ما تفيده أن أهل النار يمكثون أحقاباً من الزمن في نوع من العذاب هو الحميم والغساق، \\

    أقول ليس في ما ذكرت دليل على أن تلك الأحقاب خاصة بنوع من العذاب فقط.
    فقد تعددت التفاسير في الآيات. فالطبري أورد رواية تنتهي بالربيع (وإن كانت ضعيفة سندا) على أن الاستثناء من الشراب هو الحميم والبرد الغساق فجعله استثناء متصلا في الجهتين. فيحمل الأمر هنا على ما يشربه أهل جهنم خلال فترة مكثهم.
    وذكر الرازي في تفسيره ((المسألة الثانية : في قوله : ( بردا ) وجهان :

    الأول : أنه البرد المعروف، والمراد أنهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابا يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة عن بواطنهم، والحاصل أنهم لا يجدون هواء باردا، ولا ماء باردا .

    والثاني : البرد هاهنا النوم، وهو قول الأخفش والكسائي والفراء وقطرب والعتبي، قال الفراء : وإنما سمي النوم بردا لأنه يبرد صاحبه، فإن العطشان ينام فيبرد بالنوم، وأنشد أبو عبيدة والمبرد في بيان أن المراد النوم قول الشاعر :

    بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن رشفاتها البرد ))

    فيكون الكلام هنا عن البرد الذي فيه راحة.

    وذكر

    ((المسألة الرابعة : ذكروا في الغساق وجوها :

    .
    وثانيها : أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق، وهو الذي يسمى بالزمهرير . ))

    وبذلك تجتمع عليهم في تلك الأحقاب عقوبة البرد مع الحر ويكون الغساق استثناء من البرد.

    اذا فلا يمكن أن تلغي كون احتمالية الأحقاب هنا مدة زمنية مؤقتة ولا أن تجزم بأن الكلام عن نوع عقوبة من عقوبات جهنم.

    …. يتبع

  • \\ثم ينتقلون منه إلى آخر بدليل قوله تعالى: «هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ»\\
    ومن قال لك أن هذا يقتضي أن يكون الشكل الآخر في فترة زمنية لاحقة؟ من الممكن أن تجتمع كل تلك الأصناف من العذاب في نفس الأحقاب.

    \\ يحتمل أنها تخبو، فإذا المحكم يقول: «كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا» (الاسراء، 17 / 97). ومعلوم أن كلما أداة من أدوات التكرار بلا خلاف\\

    لا تنفي تلك الآية أن النار تفنى في النهاية بإفناء الله لها. ولكن فيها أن الله يزيدها سعيرا كلما خبت خلال الفترة التي تكون قبل فنائها.

    \\يحتمل أنها تأكلهم حتى لم يبق منهم شيء، فإذا المحكم يقول: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا» (النساء، 4 / 56)، فلم يبق لهذا الاحتمال نصيب بموجب هذه الآية\\

    أيضا يحتمل أن يكون هذا قبل فناء جهنم نفسها.

    \\. يحتمل أنهم يموتون فيها والميت لا يحس ولا يتألم، فإذا المحكم يقول: « إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى» (طه، 20 / 74) »، ويقول: « يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ» (إبراهيم، 14 / 17)، فلم يبق لهذا الاحتمال نصيب من الاعتبار\\

    يحتمل أن يقيد هذا أيضا بفترة البقاء في جهنم. فطالما أن جهنم لم تفنى فلن يموتوا فيها.

    \\وعلى فرض صحته يقصد بهم عصاة المسلمين، فإنه يخرج منها آخر من بقلبه مثقال ذرة من إيمان، ويخبو وتخفق أبوابها وينبت في قعرها الجرجير، أما دركات النار المعدة سجناً وعذاباً للكفار فهي أبدية وعذابها لا ينقطع\\

    الكلام في الرواية كان عن جهنم ككل. بغض النظر عن سندها.

    في النهاية فحتى لو اقتنع معك الجميع بأن جهنم لن تفنى فهذا لن يغير إرادة الله تعالى لو أراد أن يفنيها. وحتى لو اقتنعت أنت معي واقتنع غيري بفنائها فهذا لن يغير إرادة الله تعالى لو لم يرد افنائها.

    ولذلك الأولى لنا العمل لدخول الجنة. أما فناء أو عدم فناء جهنم الخاصة بالكفار فهذا أمر في علم الله تعالى وإن عرفناه فسنعرفه في الآخرة بمشيئة الله تعالى.

    والله تعالى أحكم وأعلم في الصواب.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.