السؤال:
أشكركم على مجهوداتكم الرائعة ورحابة صدركم.. سؤالي هو عن آية سنة التدافع:
﴿الَّذينَ أُخرِجوا مِن دِيارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلّا أَن يَقولوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذكَرُ فيهَا اسمُ اللَّهِ كَثيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ ﴾[ الحج: ٤٠ ]
ما هو التفسير الأقرب للصواب لهذه الآية وفق منهجكم؟ وهل سنة التدافع سنة إلهية؟ وهل التدافع يعني بأن الحروب والصراعات بين الحضارات لن تنتهي أبدًا؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بك أخا كريما، شكرا لكلماتك الطيبة.. سؤالك عميق ويحتاج شيئا من التفصيل.
التفسير الأقرب للصواب هو الذي يعتمد على منهج تفسير القرآن بالقرآن (القرآن يفسر بعضه بعضًا، مع الاستفادة من تطبيقات النبي الكريم وأقواله)
﴿الَّذينَ أُخرِجوا مِن دِيارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلّا أَن يَقولوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾
الآية تتحدث عن الظلم الذي وقع على المؤمنين الذين أُخرجوا من ديارهم لا لشيء إلا أنهم قالوا “ربنا الله” وهم أصحاب النبي ﷺ الذين أُخرجوا من مكة. والآية عنهم إلا أن دلالتها لا تقتصر عليهم بل تتعدى إل كل الاحوال المشابهة وإلى قيام الساعة، لأن العبرة في نصوص القرآن لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما قرره الأصوليون.
﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ﴾
أي: لولا أن الله يَدفَعُ أهل الباطل بوجود أهل الحق الذين يقاومونهم ويجاهدونهم، لفسدت الأرض وهدمت معابد الناس، سواءً كانت للنصارى (صوامع، بيع)، أو لليهود (صلوات)، أو للمسلمين (مساجد). وهذا فيه دلالة على حماية الدين عمومًا، (حرية الاعتقاد).
﴿لَهُدِّمَت صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذكَرُ فيهَا اسمُ اللَّهِ كَثيرًا﴾
ذكر أماكن العبادة كلها للدلالة على أن وجود قوة تقف في وجه الطغيان تحفظ للناس حرياتهم ومعتقداتهم، وتمنع الظلم والفساد.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾
أي من ينصر دينه ويقيم شريعته ويدافع عن قيم الحق والعدل، فإن الله وعده بالنصر.
إذن، ما المقصود بـ “سنة التدافع”؟
سنة التدافع سنة إلهية كونية، ثابتة في التاريخ ويصدقها الواقع، وهي من أعظم أسباب حفظ الأرض من الفساد.
التدافع يعني الصراع بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين أهل الإيمان وأهل الطغيان.
يقول الطاهر ابن عاشور في تفسيره:
“هذه الآية تعني أن من سنن الله أن يقع بين البشر صراع وتدافع، فيسخر الله بعضهم لدفع الظلم عن بعض، ليبقى للناس مجال لعبادة الله.”
وأشار إلى أن “التدافع” لا يقتصر على السيف (القتال)، بل يشمل كلمة الحق والموقف الشجاع والفكر والسياسة.
هل هذا يعني أن الحروب والصراعات بين الحضارات لن تنتهي؟
نعم، بالمعنى العام، هذا الصراع سيبقى قائمًا إلى قيام الساعة، لأن الدنيا دار ابتلاء، كما قال الله:
﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: 20]
ولأن من مقتضيات وصف الإنسان بالخليفة وجود الاختلاف بين الناس الذي يولد الصراع على النفوذ، قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118-119]
لكن ليس المقصود أن الحرب المسلحة واجبة أو مطلوبة لذاتها، بل المقصود أن التدافع يأخذ أشكالًا كثيرة: بالكلمة. بالدعوة. بالعلم. بالجهاد المشروع. بالمواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فهذا التدافع لا يكون عدوانًا، بل دفاعًا، وإصلاحًا، وردًا للظلم، كما في قوله تعالى:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]
سنة التدافع ليست جديدة، بل منذ أن بدأ الوحي، فهناك من يقاومه ويحاربه، والله يُهيئ من يثبت ويُدافع عنه.
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]
الحكمة من تشريع دفع الظالمين تبينها الآيات التالية:
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]
بحسب الآية تكمن الحكمة من تشريع دفع الظالمين فيما يلي:
- حفظ الدين.
- منع تسلط الظالمين.
- بقاء التوازن في الأرض.
- التمحيص والابتلاء ليظهر الصادق من الكاذب.
والآية التالية تؤكد على المعنى السابق:
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]
هذه الآية شبيهة جدًّا بآية سورة الحج، وقد نزلت في سياق الحديث عن طالوت وجالوت، وبيّن الله تعالى فيها أن بقاء الحق لا يكون إلا بمدافعة الباطل.
فالآيتان (الحج: 40، البقرة: 251) تشتركان في توضيح سنة التدافع، مع اختلاف السياق، لكن الرسالة واحدة: الحق لا ينتصر وحده، بل لا بدّ من أناس ينصرونه.”
إن الباطل بطبيعته لا يثبت، لكن لا يزول إلا عندما يأتي الحق ويُعلَن ويُدافَع عنه.
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]
الذين يدافعون الباطل هم الذين يستخلفهم الله في الأرض، لأنهم لا يعتزلون، بل يصلحون الأرض ويأمرون بالخير ويدفعون الشر:
﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]
إن الظلام لا يتبدد إلا بالنور، وما على أهل الحق سوى الاستعداد التام لإبقاء النور وقادا، فإن فعلوا فإن الباطل يزهق ويخبو:
﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18]
القرآن مليء بذكر الصراعات بين الحق والباطل:
مثل: نوح وقومه، هود وعاد، صالح وثمود، موسى وفرعون، إبراهيم والنمرود، محمد ﷺ وقريش
كلها نماذج من سنة التدافع، حيث يختبر الله المؤمنين ويمحّصهم، ثم ينصرهم:
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34]
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]
أحاديث نبوية تتعلق بسنة التدافع
1_ «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[1]
هذا الحديث يُجسد معنى التدافع اليومي… كلنا مطالبون بأن نكون جزءًا من دفع الباطل، كلٌّ بما يستطيع.
2_ «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا»[2]
الحديث يصف مشهدًا رمزيًا: لو سكت أهل الحق عن أصحاب المنكر، غرقت السفينة بمن فيها، فلا بقاء للأمة إلا بالتدافع وإقامة الحق.
3_ «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»[3]
فيه بشارة أن التدافع لن ينتهي، ولكن أيضًا أن الحق لن يُهزم، بل سيبقى من يُدافع عنه، ظاهرين غالبين.
فوائد تربوية وإيمانية
أ_ أن النصر من عند الله، وليس من القوة وحدها:
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]
وهذا يعطينا اليقين أن من ينصر الله بإخلاص، فالله يتولى أمره.
ب_ أن الظلم لا يدوم: فالله لا يترك الأرض للظالمين، بل يقيم من يردعهم، في أوقات ومراحل مختلفة من التاريخ.
ت_ أن المدافعة واجبة على المؤمنين: بالعلم، بالكلمة، بالدعوة، بالعمل الصالح… كل حسب قدرته.
ث_ أن الإسلام ليس دين اعتزال أو سلبية، بل دين حركة ومشاركة، يسعى لإصلاح الأرض وليس تركها للظلم.
الخلاصة:
- التدافع سنة إلهية ثابتة في الحياة البشرية.
- لا يعني هذا أن الصراعات المسلحة لن تتوقف، بل أن الصراع بين الحق والباطل بأشكاله المختلفة سيبقى.
- التدافع وسيلة لحفظ الدين والعدل، ولولاه لعمّ الظلم وفسدت الحياة.
- الله ينصر من ينصره، شرط الإخلاص والعمل بالحق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح مسلم (1/ 69 ت عبد الباقي)
[2] صحيح البخاري (3/ 139 ط السلطانية)
[3] صحيح البخاري (9/ 101 ط السلطانية)