حبل الله
العوامل الأخلاقية المؤثرة في اهتداء الإنسان من منظور القرآن الكريم

العوامل الأخلاقية المؤثرة في اهتداء الإنسان من منظور القرآن الكريم

أ.د عبد العزيز بايندر

الأخلاق جمع الْخَلْق والخُلْق والْخُلُقُ. قال تعالى لنبيه:  ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى ‌خُلُقٍ ‌عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]   وقال :  ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]

والخَلْقُ في اللغة إيجاد الشيء قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2] وتقديره بعد خلقه جعله كل شيء موصوفا بأوصاف خاصة. وهذا يجعل الله بارئا ومصورا وبديعا، قال تعالى:

﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الحشر: 24]

وقال: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117]

وقال: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾  [عبس:17-19]

وقال: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 6]

قال الله تعالى في سبب خلق السماوات والأرض:

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: 7]

الذين خلقهم الله تعالى للابتلاء هم الإنس والجن فقال سبحانه:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]

الروح التي نُفخت في الإنس والجن

الرُّوح هي الملكة التي تُحمَّلُ للإنسان بعد اكتمال خلقته جنينا في بطن أمِّه. تلك الملكةُ كأنَّها جسدٌ ثانٍ لكنَّه خفيٌّ لا نشاهده إلا بأماراته الخاصة. قال الله تعالى:

﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾. (السجدة:7-9)

والآيات التَّالية تعطينا مزيدا من التَّفاصيل:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً (بويضة ملقحة) فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (في بداية رحم الأم). ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. (المؤمنون: 12-14)

يُظهر التَّعبير “ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ” أنَّ تمايز الجنين البشري عن أجنَّة الحيوانات الأخرى يتمُّ بعد الانتهاء من خلق بُنية جسمه، فاكتمال خلقة هذه الأعضاء يجعلها صالحة لتحميل الرُّوح. ونفخُ الرُّوح في البدن يشبه تحميل نظام التَّشغيل للحاسوب. كما أنَّ نظام التَّشغيل يُحمَّلُ للحاسوب بعد إتمام صُنعه، فكذلك الرُّوح تُنفَخُ في البدن بعد تمام تخلُّقه وتهيُّئِه لاستقبال الرُّوح.

والقرآن الكريم لا يطلق على الجنين وصف الإنسان إلا بعد نفخ الروح فيه، قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ ‌خَلْقًا ‌آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12-14]

ويبقى الإنسان بعد نفخ الروح في بطن أمه ستة أشهر، قال تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف:15]

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان:14]

وفصال الولد عن أمه يكون بعد إتمام الرضاعة . قال تعالى:

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ  [البقرة:233]

وإذا فكرنا في هذه الآيات لوجدنا أن الولد يبقى في بطن أمه بعد نفخ الروح ستة أشهر، حيث يحمل وصف الإنسان منذ نفخ الروح فيه، وهذا يجعل الأم تحمله وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ.

والولد لا يتعلم شيئا وهو في بطن أمه. قال تعالى:

﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:78]

الحركة اليوميَّة للرُّوح

تستخدمُ الرُّوحُ البدنَ كمسكن لها. عندما ينامُ البدن تخرُج منه الرُّوح وتعود إليه حينما يستيقظ. أمّا البدن الميت فهو كالحاسوب الـمُحطَّم، لا تعود إليه الرُّوح حتى يُبعث من جديد يوم القيامة. والآيةُ التَّاليةُ تؤكِّدُ هذا الأمر:

﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الزمر:42)

بحسب هذه الآية فإنَّ في كلِّ إنسي وجني نفسَين؛ الأولى هي البدن، والثَّانيةُ هي الرُّوح. والبدنُ ينامُ أو يموت، لكنَّ الرَّوح لا تنام ولا تموت. والمعلومات المتعلقة بالنفس تحمٌل على الروح ولكنها لا تشعر بمرور الوقت في نوم البدن ولا في موته. وقد نام أصحاب الكهف 309 سنوات [الكهف:25] لكنَّهم عندما استيقظوا لم يدركوا كم لبثوا في كهفهم . قال الله تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (الكهف:19)

وكذلك الحال في الميت فإنه لا يدري كم لبث ميتا عند بعثه. قال الله في الذي مات مئة عام ثم بعثه[1]:

﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ [البقرة: 259]

الآيةُ التَّاليةُ تُبيِّن الموضوع بشكلٍ مباشر:

﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النحل:77)

هناك تشابهٌ كبير بين الإحياء بعد الموت وبين الاستيقاظ من النَّوم. بحسب الآيات المتقدِّمة فإنَّ أولَّ من مات من البشر وآخر من مات منهم يملكان ذات التَّصور فيما يتعلق بالفترة التي قضياها في مرحلة الموت.

قبل قيام السَّاعة تكون الأنفس كلُّها ميتة، لكنَّ أرواحَهم باقيةٌ لأنَّ الملائكة أخذتها إلى السَّماء كما تقول الآية:

﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَ(معهم) الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[2] (المعارج 70:4)

ولا تفتح أبواب السماء للذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها. قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾  [الأعراف: 40]

وعند البعث يوم القيامة يؤتى بالروح وتُزَوَّج ببدنها كما بيَّنه قولُه تعالى:

﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾. (التكوير:7)

لهذا السَّبب فإنَّ المبعوث يوم القيامة يظنُّ أنه قد أفاق من النَّوم. يشرحُ هذا قولُه تعالى:

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾. (يس: 51-52)

ومفهوم الآيات السالفة ينفي وجود عذاب القبر قطعا[3].

المخالفة في خلق الإنس والجن

والله تعالى جعل المخالفة صفة أصيلة في الإنس والجن الذين خلقهم للابتلاء، قال سبحانه:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾  [البقرة:30]

والخليفة : من يخلف غيرَه أو يخلفه غيرُه، لأنه بصيغة فعيل يأتي بمعنى الفاعل والمفعول، والتاء للمبالغة. وكون آدم خليفة بمعنى أنه يخلفه غيرُه لأنه كان الإنسان الأول، فأصبح كل واحد من ولده خليفته.

والخليفة من الخَلف، ومن معاني الْخَلف التَّغَيُّرُ. وهذا المعنى هو الموافق لخلقة الإنسان الذي يخالف غيرَه ويخالفه غيرُه فيصبحان مختلفين، قال الله تعالى:

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود:118- 119]

والإنسان يخالف الله أيضا في أوامره ونواهيه، وقد قال تعالى:

﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾  [النحل:4]

والجن كالإنس في المخالفة لأن الله خلقهم للامتحان مثل الإنس، والمخالفة أيضا في خلق الملائكة لأنهم من الجن. ودليل هذا الأمر قول الملائكة في آدم عند إخبار الله إياهم بأنه جاعل في الأرض خليفة:

﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]

ولا يمكن أن يقولوا هذا القول إلا إذا كانت كلمة الخليفة بمعنى المخالفة، لأنهم يعلمون نتيجة المخالفة في الجن الذين ليس فيهم دم يسفكونه، وقول الله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾  [البقرة:30] بيان الله أن ما قالوه صحيح ولكن في خلق آدم شيء لا يعلمه الملائكة فبينه الله في قوله:

﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة:31-33]

وإن غيب السموات والأرض هو العلم الذي علمه الله تعالى لآدم وقد غاب عن الملائكة . أما الذي كان الملائكة يكتمونه فهو حسدهم لآدم على ما أعطاه الله من العلم. ثم ابتلى الله الملائكة بقوله:

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾  [البقرة:34]

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا  (في الْمَلَإِ الْأَعْلَى) فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف:12-13]

والآيات التالية قد فصلت أن الله أبعد إبليس من الْمَلَإِ الْأَعْلَى:

﴿قُلْ (يا محمد): مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص:69 – 83]

وقد فصل الله تعالى في تلك الآيات أن إبليس كان في الْمَلَإِ الْأَعْلَى إلى أن أصبح من الشياطين، لأنه عندما أبى واستكبر صار من الكافرين فأخرجه الله وأبعده عن الْمَلَإِ الْأَعْلَى، لأنه محفوظ من كل شيطان مارد. قال تعالى:

﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ. لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾  [الصافات:6-10]

وتلك الآيات تفصل أن إبليس كان من الملائكة، لأنه لو لم يكن منهم لقال: لست منهم فلست مأمورا بالسجود إجابة لقوله تعالى: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ [ص:75] .

والدليل الآخر فيه قول الله تعالى :  ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾  [الكهف:50]

وإذا فكرنا في الذي لم يفسق من الجن لوجدنا أنهم الذين سجدوا لآدم من الملائكة .

وهذه الآيات أيضا تؤيد كون الملائكة من الجن :

﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ (بين الله) وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾  [الصافات:158]

﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ. وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف:15-19]

﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الصافات:149-152]

وهاتان الآيتان تبينان أن كل من فعل ما فعله إبليس صار مثله حتى لو كان ملكا مقربا أو نبينا مرسلا[4]:

﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا. فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾  [النساء:172- 173]

مخالفة آدم وحواء

وعلم الله آدم الأسماء كلها [البقرة: 31] والاسم ما يعرف به ذات الشيء، فوصل آدم به إلى المعلومات التي لا تعلمها الملائكة فحسدوه، ولذلك أمرهم الله بالسجود لآدم، وقد علَّم الله آدمَ هذا العلم بالقلم [العلق:4-5] مما سهل وصول هذه المعلومات إلى أولاده. وهذا ما يظهر من قول نوح عليه السلام لقومه:

﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾  [نوح:15- 16]

ولم نجد في القرآن من وصل إلى هذه المعلومات والمشاهدات بعد قوم نوح.

وبين الله تعالى ما الذي حصل مع آدم وزوجته بعد سجود الملائكة لآدم في هذه الآيات:

﴿وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35]

ثم حذر الله تعالى آدم من إبليس وأنذره بقوله :

﴿يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ [طه:118-119]

والجَنّة التي أسكن الله آدم وزوجته فيها هي حديقة في الدنيا مليئة بالأشجار، لأن الله تعالى جعل آدم خليفة في الأرض [البقرة: 30] وليس في السماء، ثم

﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾  [الأعراف: 25]

ويؤيد هذا قوله تعالى:

﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 266]

وكل هذه النعم التي أنعمها الله على آدم جعلته مستغنيا، وقد قال تعالى :

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:6-7]

لأن المستغنى لا يكتفي بما في يده فيريد الزيادة دائما، وقد استغل الشَّيْطَانُ هذه الصفة فيه فوَسْوَسَ له ولزوجه ووجههما إلى هدفين لم يصلا إليهما بعد فقَالَ:

﴿يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾  [طه:120]

إن آدم يعلم أنه لن يخلد في الدنيا وليس بيده ٍمُلك لا يبلى، وبهذه الطريقة جعله إبليس ناسيا ما أنذره الله منه:

﴿فَأَكَلَا مِنْهَا (الشجرة التي حذرهما الله تعالى منها) فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾  [طه:121]

﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه:115].

﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾  [البقرة: 35 – 37]

وقد جاء بيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه في هاتين الآيتين:

﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:22-23]

الدين والفطرة

الدِين والدَين من نفس المصدر وفيهما جِنْسٌ مِنَ الِانْقِيَادِ وَالذُّلِّ .  والدَين يجعل الإنسان منقادا لدائنه طوعا أو كرها.  إن كل نفس لتعلم أن الله خالقها، وخالق كل شيء لا يُمكن إنكاره، قال الله تعالى:

﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون﴾ [الزخرف:87]

﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت:61-63]

وهذا يجعل الإنسان مضطرا لتسليم نفسه لله وهو محسن،  ولكن مبدأ المخالفة الموجود في طبيعة خلقه يجعله مخالفا لله في بعض الأمور. وبعض الناس يخالفون مثل إبليس، وبعضهم مثل تابعيه، وبعضهم يخالفون مثل مخالفة آدم وحواء. والذين أسلموا أنفسهم لله طوعا قليلون جدا، قال تعالى:

﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾  [آل عمران:83].

﴿وَمَا ‌أَكْثَرُ ‌النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]

وقد عرَّف الله دينه بالفطرة والخلق في قوله:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]

والفطرة في اللغة الشّق، والشق قانون الله في الخلق، لأنه فطر السموات والأرض كما فطر الإنسان فقال:

﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 14- 15]

وإنَّ تعريف الله تعالى دينه القيم بالفطرة يجعل الطاعة موافقة للفطرة فيصبح الإنسان بها في راحة وسعادة وسكينة بعيدا عن الخوف، قال الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13- 14]

وأما مخالفة الفطرة فتجعل الإنسان في ضيق وخوف، قال تعالى:

﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾  [البقرة: 81]

إن الذين يتخلقون بأخلاق تخالف الفطرة إنما يتخلقون بخلق أحدثوه بعيدا عنها، والله ينذرهم دائما وفق قوله:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾  [الشمس: 7- 8]

وقوله:

﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 125]

فإن لم يقبلوا إنذاره واستمروا في مخالفة الحق يحدث الله فيهم طبعا جديدا مخالفا لفطرتهم، قال تعالى:

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾  [النحل: 106 – 109]

وهم يحسبون أنهم مؤمنون، ولكنهم لا يسلمون وجوههم لله، بالرغم من أن قلوبهم قد استيقنت الحق، لأنهم يظنون أن الاستسلام للحق يحول دون منافعهم، وقد قال الله فيهم:

﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 36- 37]

﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ  [الأعراف:30]

وحالهم في الآخرة سيكون مثل حالهم في الدنيا، فقد قال تعالى:

﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 18 – 19]

الكفر

الكُفْرُ في اللّغة ستر الشيء، ويقال للزارع كافرا لأنه يستر البذر بالتراب، وقد قال تعالى:

﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ [الحديد: 20]

والزارع يعلم ما ستره من البذر، وكذلك الكافر يعلم ما ستره من الحق، لأنه لا يكون كافرا إلا بعد معرفته الحق واستيقانه بمشاهدته الآيات البيانات وإيمانه بها، لكنه لما وجد الإيمان مخالفا لمنافعه ستره، وهذا يجعله مضطرا إلى الكذب والإنكار. قال تعالى:

﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾  [آل عمران: 86 – 89]

وباب التوبة مفتوح حتى إذا حضر الموت، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء:17، 18]

والذين كفروا بعد إيمانهم يعرفون الحق ويريدون اتباعه أحيانا، قال تعالى:

﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ (الحجر 15:2)

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾  [المؤمنون: 99- 100]

وكل كافر مشرك، قال تعالى:

﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 151]

والمشركون يعلمون أن حالهم سيء جدا، ولتبرير شركهم يجعلون الله تعالى مسؤولا عنه:

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ، كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148]”

وقال تعالى:

﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾  [آل عمران: 106]

وقال الله في الذين ماتوا وهم كفار:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ [آل عمران: 90]

وتوبتهم التي لن تقبل منهم هي ندمهم وقولهم عند الموت كما في قول الله تعالى:

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99- 100]

والبرزخ هو الموت الذي يمنع رجوع الروح إلى البدن حتى يحييه الله في الآخرة.

وقد بين الله تعالى حال الكفار باستعارة تمثيلية في قوله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 6- 7]

فالختم هنا ليس على الحقيقة وإنما ضرب من المجاز، وهو ناتج عن الإصرار على الخطأ، قال تعالى:

﴿وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾  [ الزخرف : 76 ]

ولو كان الختم على الحقيقة لما تجاوزه أحد فيعود إلى الحق، لذا كان باب التوبة مفتوحا حتى لمن خُتم على قلبه، وهذا من كمال عدل الله سبحانه. قال الله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾  [النساء: 40]

النفاق

وبعض الكافرين يخفون الكفر ويظهرون الإيمان فيصبحون منافقين، قال تعالى:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:8- 9]

ومثاله ما فعله بنو إسرائيل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام. قال الله تعالى:

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:40-42]

وقد شاهدوا الحق وهو كتاب من عند الله مصدق لما معهم (القرآن) فلم يؤمنوا به، وبذلك قد نقضوا عهدهم مع الله، فقال تعالى:

﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾  [البقرة:89- 90]

وقد أظهر بعضهم الإيمان وكتم كفره فأصبحوا منافقين، فقال الله للمسلمين:

﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾  [البقرة:75-77]

الكفار والمنافقون كلهم يحسبون أنهم مهتدون. قال تعالى:

﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:30]

المماثلة في الجزاء

المماثلة هي المبدأ الأساسي في الجزاء في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى عن الجزاء في الدنيا:

﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل:126]

﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40]

﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾  [البقرة:194]

والاعْتِدَاءُ: مجاوزة الحقّ. وأخذ الحق من المعتدى يكون بإنهاء اعتدائه وإيقاع مثله عليه جزاء سيئته بمثلها. وقد قال الله في مشركي مكة الذين أخرجوا المسلمين منها:

﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ [البقرة: 191]

المماثلة هي المبدأ الأساسي أيضا في جزاء الآخرة، قال الله تعالى:

﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾  [الأنعام:160]

﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾  [غافر: 40]

وبين الله تعالى في هذه الآيات أن جزاء مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ضعفا سيئته في الآخرة:

﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ، قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ. وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف:38-39]

والعذاب الشديد أيضا ضعفا العذاب في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى:

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾  [آل عمران:56]

لأن شدَّة العقوبةَ مضاعفَتها، وهو كتشدُّدِ الحرْف تضَعُّفه وإدغامه.

وقد بينت الآيات أن المماثلة هي المبدأ الأساسي في الجزاء في الدنيا والآخرة، وكلاهما يوافقان الفطرة.

الخلاصة

خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَبْلُوَ الإنس والجن. وجعل غير الإنس والجن مطيعا له طوعا، قال تعالى:

﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت:9-11]

وجعل الله الفطرة دينه فقال:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30]

ثم قال:

﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾  [آل عمران:83]

وجعل الإنس والجن أحرارا في قرارهم فقال:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:256]

ولم يجعل الله أحدا من الإنس والجن معصوما[5] فقال:

﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾  [الزمر:65، 66]

﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾  [الأحقاف:9]

﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا. فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء:172- 173]

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]

ومن لم يصل إليه كتاب الله لا يكلف إلا بالإيمان بالله وحده وبالعمل الموافق لفطرته.  قال تعالى:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾  [فصلت:46]

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾  [الجاثية:15]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  الآية تتحدث عن عزير عليه السلام، انظر مقالة عبد العزيز بايندر، هوية عزير عليه السلام

[2]  مفهوم الوقت بالنسبة لله تعالى يختلف عن مفهومنا له. ألف سنة بالنسبة إلينا هي عند الله تعالى يوم واحد (الحج 22:27). ولأن الناس كلهم يكونون موتى يوم القيامة فإن اليوم الذي تصعد فيه الروح والملائكة إلى السماء المقدر بـ 50000 هو السنين بالنسبة لله تعالى. ولأن السنة القمرية هي المعتبرة عند الله تعالى فإن كل سنة تساوي 354 يوما. وهكذا فإنَّ الألف سنة تساوي 17 مليون 700 ألف يوم، وبالنسبة إلينا فإن 50000 سنة التي بين القيامة والبعث فإنها تعادل 17 مليارا و700 مليون سنة تقريبا. هذا الزمن يعلمه الله تعالى، أمَّا البشر فلا يستطيعون إدراكه أصلا ويمرُّ بالنسبة إليهم كيوم أو بعض يوم. وأولئك الذين يجبرون النَّاس على قبول الاعتقاد في القدر بالرُّغم من أنَّه يتعارض مع القرآن لا يزال يتعيَّن عليهم التَّمسُّك بالافتراء القائل بأنَّ أفعال الله تعالى منزَّهةٌ عن الزَّمان.

[3]  للمزيد حول الموضوع انظر مقالة شيماء أبو زيد: مسألة عذاب القبر ونعيمه

[4]  للمزيد حول الموضوع انظر مقالة جمال نجم  الجن والملائكة

[5] للوقوف على التفاصيل المتعلقة بعصمة  الأنبياء والملائكة انظر هل الأنبياء معصومين عن الخطأ؟  و  عصمة الملائكة

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.