الآية 102 سورة البقرة ربما تظهر معنى آخر للسحر، ولذلك استدل بها البعضُ على أن حقيقةَ السحرِ هو التأثير على العقل بواسطة تلبس الجني في الإنسان، أو بمعنى آخر هو تسخير الجن لإحداث أثر ما يغلب أن يكون ضارًا بشخص آخر.. فهل الآية تخدم فعلاً هذا المعنى أم لا؟ دعونا نتوقف عندها..
يقول تعالى: ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[البقرة: ١٠٢].
وهذه الآية لا تصلح دليلاً لما ذهبوا إليه للآتي:
أولاً: هذه الآية ليس فيها أي دليل على دخول الجن في الإنسان، فهي لا تفسر عملية السحر بأنه دخول للجني في الإنسان فمن أين أتوا بذلك المعنى؟
ثانيًا: جاءت حول الآية روايات إسرائيلية مختلقة هي التي رسخت أوهامًا حول الآية بينما لم تنص على ذلك الآية.
ثالثًا: فسروا الشياطينَ في الآية بأنهم شياطين الجن، بينما جاء اللفظ مطلقًا، فيحتمل أن يكون شياطين الجن ويحتمل أيضًا أن يكون شياطين الإنس يقول تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112] ، والأقرب في هذا السياق أن الشياطين هم شياطين الإنس لعدة قرائن، منها أن الآية تتحدث عن فريق من اليهود، وهناك آية أخرى وصفت علماء اليهود في علاقتهم مع المنافقين بالشياطين لما كانوا يقومون به من خداع وتلبيس حول نبوة محمد عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14] ، وقرينة أخرى أن الآية ذكرت أن الشياطين يعلمون الناس السحر، فالسحر هنا كان يُعَلَّمُ تعليمًا، والتعليم لا تقوم به الجن لعموم الناس وإنما يقوم به الإنس أو بالتحديد علماء وأحبار اليهود.
رابعًا: أكثر ما يستدلون به في وصف السحر هو قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ [البقرة: 102] . أولاً: هذه الجملة ليست معطوفة على السحر وإنما معطوفة على «ما أنزل على الملكين»، ثانيًا: لا يوجد في الآية ما يدل على أن التفريق يكون بقوى غيبية، والأولى أن نذهب لتفسير الآية بما هو متوفر من أدوات مشاهدة في التفريق بين الزوجين، إذ تستطيع وسائل الوسوسة البشرية والدسائس والخدع ووصف كل واحد منهما بأوصاف تجعل القلوب تتنافر ثم تفترق، وهذا ملاحظ فيما نراه في المجتمعات، والآية تطلق على ذلك علما “فيتعلمون” بمعنى أنهم صاروا يدرسوه ويتعلموه مستفيدين من خبرة بعضهم، ولو كان الأمر استخدامًا للجن لما احتاجوا للتعليم.
خامسًا: هناك اختلاف حول “ما” هل هي موصولة أم نافية؟ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾، ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾، والمشهور عند المفسرين -وهو الراجح- أنها موصولة، وهناك من اعتبرها نافية فكان للآية معنى آخر، وسواءً كانت موصولة أم نافية فإنها لا تؤكد ما ذهبوا إليه من معنى للسحر.
فيكون ملخص الآية على أن “ما” موصولة هو أن الملكين كانا يُعلِّمَانِ اليهودَ المكايدَ والدسائسَ ليكيدوا بها البابليين الظالمين وليخففوا من الظلم الواقع بهم، وكانوا يأمرون الناسَ بعدم الكفر بهم عند تعليمهم، وبالفعل تعلم اليهودُ منهم ما يستطيعون به إثارةَ الدسائس والتفرقة بين أي متلازمين، ولكن نجاح ووقوع هذه الخدع مرتبط بإذن الله، أي وفق السنن الطبيعية الجارية في الحياة، فإذا لم يكن وفق تلك السنن فإنه لا يقع.
أما ملخص الآية على إن “ما” نافية فسيكون أنه لم ينزل شيء على الملكين ببابل هاروت وماروت، ولم يعلما أحدًا شيئًا من السحر الذي يدعون أنه أنزل عليهم، فلم ينزل عليهما شيء ليقولا إنما نحن فتنة، وبالتالي فكيف يتعلمون منهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه؟
سادسًا: بداية الآية تذكر أن فريقًا من اليهود ترك كتابَ النبي محمد عليه السلام ليتجه إلى كتب أخرى كتبها أحبارٌ يهود ونسبوها إلى أيام سليمان زاعمين أن تلك الكتب تعطيهم قوةً معينةً وربما زعموا أنها تعطيهم ما أعطيه سليمان من قوة في تسخير الجن والريح له، والآية تبين أن سليمان لم يكفر باعتبار صنيعهم كفر، وأن ما عنده معجزة من الله له، والمعروف أن اليهود لم يعترفوا بنبوته وإنما اعتبروه ملكًا فقط، فلا غرابة أن يشكوا في كونه من عند الله.
ومن هذا التصور في الفكر اليهودي ربما تسربت فكرة استخدام الجن من قبل الإنس، وما أكثر ما تسرب من الثقافة اليهودية إلى الإسلامية عبر جسر الأحبار الذين أسلموا بعد زمن النبي، ثم صار لتلك الثقافة روايات تؤكدها، وهذا ما سأناقشه في رواية سحر النبي عليه السلام من قبل يهودي.
*من مقالة د. عبدالله القيسي أوهام الناس في السحر والاتصال بالجن ولقراءة المقالة كاملة يرجى الضغط على العنوان


أضف تعليقا