السؤال:
ما هي الطريقة المثلى للتعامل مع النساء الأجنبيات في الدراسة والعمل والزمالة والصداقة؟ والتي لا إفراط فيها ولا تفريط؟ بدون تشدد مريض، أو انفتاح مقرف.
الجواب:
بداية فإن القرآن الكريم لم يحرم الاختلاط بين الذكر والأنثى بل إن كل الآيات تدل على وجود هذا الاختلاط:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات (13)
ذلك التعارف اللازم لتبادل العلوم والثقافات والأفكار ونقل الخبرات الذي يثري الفكر ويسهم في نشر المعرفة وقيام الحضارات بما في ذلك التبادل التجاري والمالي، ويندرج تحته كذلك التعاون على البر والتقوى، ولا ينبغي لنا أن ننسى أن هذا التعارف قد نتج عنه أكبر آياته تعالى في خلقه وهي آية الزواج التي تتم من خلال هذا التعارف بين الذكر والأنثى.
ولأهميته عني به سبحانه وتعالى وسن له سننه ووضع له قواعد التعامل في كل أشكاله بداية من علاقة القرابة بين أبناء وبنات الأعمام والأخوال وعلاقة الجيرة أو الزمالة في الدراسة أو العمل، فعند استقراء الآيات التي تحدثت عما يجب فعله عند الاختلاط بداية من غض البصر من كلا الطرفين والتزام اللباس الشرعي وعدم الخضوع بالقول والضرب بالأرجل (ويقصد به آداب المشي والحركات الظاهرة) نستنبط عدم وجود مسمى الصداقة (بالمعنى الدقيق) بين الرجل والمرأة الأجنبية عنه.
وذلك لأنه على الرغم أن علاقة الصداقة مذكورة في كتابه تعالى إذ أن الصديق من الذين أحل سبحانه دخول بيته والأكل منه كما جاء في قوله:
﴿..أَوْ صَدِيقِكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًاۚ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةًۚ﴾ النّور (61)
لأن الصداقة تتطلب أمورًا ويترتب عليها آثار لا تتوافق مع حدوده تعالى التي وضعها بين الذكر الأنثى من زملاء العمل أو الدراسة.
فالصديق هو السند لصديقه في السراء والضراء مما يستلزم وجودهما معًا أكثر الأوقات أو على الأقل تواصلهما عبر وسائل التواصل والإسرار لبعضهما البعض ومشاركة كلا منهما في حل مشكلاته، وتقديم النصح له فيما يتعلق بتفاصيل دقيقة في حياتهما غير نطاق العمل والدراسة، ومن ثم اطلاعهما على بعض الأسرار والجوانب الشخصية.
وشكل هذه العلاقة من الممكن بل من الطبيعي والمنطقي وجودها بين امرأتين أو رجلين تربطهما علاقة الصداقة التي تتميز بأنها صميمية، وكذلك توجد هذه العلاقة بين الرجل والمرأة المحارم كالتي بين الأخ وأخته وبين البنت وأبيها أو خالها أو عمها وبين الزوج وزجته أو بين الأم وابنها، ويتخلل ذلك بعض التلامس من العناق والتهامس والمرح واللعب والاطلاع على أحوال الآخر.
ولكن من الصعب أن تصير كل تلك الأمور بين رجل وامرأة غربين حدد القرآن الكريم شكل تعاملهما ولباسهما ووضع قيودًا على مجرد النظر من كليهما للآخر:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا..﴾ النّور (30: 31)
فأمره تعالى بغض البصر يستلزم أن ما فوقه أدعى للاجتناب.
ومن هنا فشكل العلاقة بين الرجل والمرأة غير المحارم محصور في نطاق التعارف الذي نبأنا به العليم الخبير في قوله:
﴿لِتَعَارَفُوا﴾
والذي يقوم على شرط التقوى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
والتقوى مطلوبة على كل مستويات التعارف لكنها بين الغرباء أدعى وأحرى لكثرة ما يجب أن يراع من حدود الله، ولهذا نجد نهيه جل وعلا عن الأخدان في قوله:
﴿وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ النساء (25)
ويحدث هذا كنتيجة طبيعية للمواعدة في السر بين الرجل والمرأة بعيدًا عن نظر الأهل الذي نهى الله عنه كذلك:
﴿وَلَٰكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ البقرة (235)
والاستثناء في الآية لمن يريد قول المعروف، وبهذا فتحت الباب أمام أنقياء النوايا وأغلقته أمام مرضى القلوب الذي أثبت الواقع أن كل من ابتعد عن هذا المنهاج القويم وابتغى العوج فقد ضل ضلالًا بعيدًا ذكرًا كان أم أنثى.
ولنضرب على ذلك مثالين من القرآن الكريم يمثلان نموذجين حيين يحدثان في الواقع بشكل أو بآخر منذ بدأ التعارف والاختلاط إلى وقتنا هذا وحتى قيام الساعة.
- النموذج الأول وضح كيفية الاختلاط الصالح وأثره ونتائجه، ونجده في خروج المرأة للعمل عندما اضطرت لذلك بسبب شيخوخة الأب في قوله تعالى عن رسوله موسى ﷺ:
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، قَالَ مَا خَطْبُكُمَا، قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ القصص (23)
فعندما رأى ذلك الفتى القوي الأمين الفتاتين لم يجد أمامه إلا سؤالهما عن سبب وقوفهما جانبا رغم كل ما يعانيه من تعب من أثر المطاردة والغربة والوحدة، وفي الوقت نفسه أجابت الفتاتان بكل أدب وحياء عن سؤاله، مع ملاحظة وجود الرعاء الآخرين الذين رأوا الفتاتين لكنهم لم يفسحوا لهما المجال حتى تسقيا وهما تقفان على جانب الطريق تنتظران ذهاب الرعاء، فنتج عن ذلك أن أعجب الشيخ الكبير (والد الفتاتين) بأخلاقه وعرض عليه بنفسه أن يُنكحه إحدى ابنتيه – وربما رأي الأب ميول إحداهما وإعجابها بالقوي الأمين في حديثها عنه – فجمع الله تعالى بين صاحب الخلق وبين صاحبة الحياء بمساندة الأب، وهذا هو التعارف المبني على التقوى من كليهما بلا تجاوز في نظرة أو كلمة ولا تهامس أو تلامس.
- النموذج الثاني يوضح نتائج الاختلاط غير المنضبط بغياب التقوى وأثره وعواقبه في امرأة تناست بيتها ولم تصن كرامتها ولم تحفظ غيبة زوجها وطاوعت شغفها برجل أعجبها:
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يوسف (30)
وكادت أن تضله وتزل قدمه:
﴿لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ يوسف (24)
ولو طبقنا هذين النموذجين على الواقع الحالي سوف نتساءل عن الفتيات والنساء اللاتي يخرجن للدراسة أو العمل وتراهن في وسائل المواصلات يقفن والعرق يتصبب منهن والرجال والشباب الأصحاء يجلسون ولا يهتز لهم جفن كــ (الرعاء) ولا نرى فيهم ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ من تأسى بالقوي الأمين.
وكذلك نرى بعض الأصدقاء من النساء والرجال وخاصة المتزوجين الذين يتناسون بيوتهم ويلهثون وراء المتزينين والمتعطرين أصحاب زخرف القول ويغيب عن كليهما أن هذا الصديق/ ة لا يُرى منه/ا إلا المظهر الأنيق والرائحة العطرة والكلام المنمق وينساقون إليهم وهم بذلك ينطبق عليهم قوله تعالى:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ المنافقون (4)
ذلك لأن أكثرهم لا يتعاملون في بيوتهم مع أزواجهم وأهلهم بهذا الشكل، ولو طلق أحدهما زوجه وتحولت تلك الصداقة التي بنيت على معصية إلى زواج لوجده ربما أسوأ بكثير من زوجه الذي كان يعيش معه وتركه من أجل الصديق/ ة ، والواقع يشهد مثل هذه التجارب ونراها رأي العين، ولا نرى فيهم ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ من تأسى بالحفيظ العليم الذي حفظ العهد مع ربه قبل أن يحفظه مع سيده:
﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾
وكذلك المثل برسولنا الكريم الذي كان رحيمًا لينًا وكان يجتمع بالنساء يعلمهن دينهن ويأخذ منهن البيعة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ..﴾ الممتحنة (12)
ويمتحن المهاجرات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ..﴾ الممتحنة (10)
ويستمع لشكواهن ويجادلهن ويحاورهن:
﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ المجادلة (1)
وكذلك يعجب بحسن من أراد الزواج منهن:
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ الأحزاب (52)
كل هذا كان يفعله النبي الكريم وفق المنهج الذي أراده سبحانه وتعالى واستحق الثناء عليه من فوق سبع سموات:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم (4).
ونحن نرى في بعض المجتمعات الآن انحلالا واضحًا أو مقرفًا – على حد تعبير السائل – ليس بسبب اختلاط الذكر والأنثى وإنما لخلط المفاهيم وإزالة الحدود في التعامل، فتحت مسمى الصداقة أصبح الرجل الغريب على علم ودراية بكل أحوال صديقته للدرجة التي قد يعرف كلاهما أدق تفاصيل حياة الآخر وعلاقة كلا منهما حتى بزوجه، فيشكو كلاهما للآخر عما يعانيه من مشكلات عائلية، ويتمنى كلاهما أن لو كان أزواجهم مثل أصدقائهم، لتبدأ المحادثات والهمسات والتلميحات ويبيتون ما لا يرضاه تعالى من القول، مما تسبب في خراب كثير من البيوت وضياع كثير من الفتيات كنتيجة حتمية لخروج تلك العلاقات عن حدودها ونطاقها من التعارف بالتقوى والتزام الآداب القرآنية والتأسي بما جاء في قصص الأنبياء والصالحين التي جاءت لأخذ العبرة والعظة والاقتداء بها امتثالًا لقوله جَلَّ وعَلَا:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ الممتحنة (6)
وختامًا:
فإن الاختلاط والتعامل بين الذكر والأنثى سنة من سننه تعالى في خلقه، وكون المرء – ذكرًا كان أم أنثى – متدينًا فلا يمنعه تدينه من التعامل بالحسنى مع كل من حوله من تقديم النصح ومد يد العون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللين والرحمة، كل ذلك يتم تحت مظلة التقوى أسوة برسله تعالى حتى لو ضل الطرف الآخر، إذ أننا لا نستطيع أن نفرض قيودًا على الآخرين في شكل لباسهم أو تعديل شخصياتهم وتغيير طبائعهم أو طريقة تدينهم وليس علينا إلزامهم بالتخلق بالخلق الحميد:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ هود (28)
ولكننا من المؤكد نستطيع إلزامهم بحدود التعامل معنا وتطبيعهم على شكل العلاقة بيننا، فإن كان شيطانًا/ ة في نفسه فلن يستطيع الاقتراب إلا بالحدود التي يضعها كل منهما، لعلمه أن الآخر قد جعل بينهما حاجزا لا يستطيع تجاوزه.
فهؤلاء هم المتقون قولًا وعملًا المستحقون لعون ربهم وتأييدهم بروح منه:
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الفتح (26)
ومن هنا فعلى كل مؤمن _كما يضبط هاتفه بضبط مصنعه ليؤدي وظائفه على أتم صورة_ أن يضبط نفسه بضبط المُصنِّع جل جلاله ليؤدي دوره في الحياة على أكمل وجه مهتديًا بهدي خالقه وتعاليم صانعه:
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ النّمل (88).
*الباحثة: شيماء أبو زيد