مناط التكليف للإنسان ثلاثة: العقل والقدرة والإرادة، لأنَّه بدون العقل لا يستطيع فهم المطلوب منه، ولأنه لا يتصور تكليف العاجز، قال سبحانه:
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة 2/256)
أي بقدر طاقتها، فما كان خارج الوسع يخرج من دائرة التكليف أصلا. أما الإرادة فهي جوهر الامتحان، ولا تتحقق دون حرية في الاختيار، فكان الاختيار الحر الفيصل في اعتبار التكليف نافذا شرعا، فلا يثاب أو يعاقب على الفعل إلا إن صدر عن اختيار بإرادة حرة[1].
الحريَّة هي مصدر الإبداع في الإنسان ومنبع الابتكار، ولا أدلَّ على ذلك من مقارنة القرآن بين الحرِّ والعبد منوها إلى أنَّ حريَّة الإنسان هي الأساس في تميزه وفعاليته، بينما العبودية لا تعدو كونها قتل لحيوية الإنسان وقدرته على المبادرة، يقول الله تعالى:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، هَلْ يَسْتَوُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (النحل 16/75)
فالإنسان مسؤول عمَّا يفعل ومحاسب على كلِّ عمل يقوم به:
{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} (الانشقاق 84/6)
وقد أعطى الله تعالى الإنسان القدرات اللازمة لدخول الامتحان:
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} (البلد 90/8-10)
لذلك كانت حريَّة الإنسان شرطا للتكليف، لأنَّها الأداة التي تمكِّن الإنسان من القيام بالفعل الذي يعبر عن إرادته في كل مجال من مجالات التكليف سواء أكان التكليف بالأمر أو النهي.
وعلى ذلك لا ينبغي أن تكون هناك سلطة من دولة أو مؤسسة مهما كان نوعها أو توجهها تقف حائلا بين الفرد واختياره، ويستثنى من هذا الحكم المجمل حالتان:
الأولى: إذا كان اختيار الشخص فيه إلحاق الضرر بغيره من الناس أو بنفسه، فهنا يصح للقضاء أو لأولي الأمر التدخل في اختياره ومنعه من الإقدام عليه، ومثال ذلك لو أراد السَّرقة أو أقدم على الغش أو حاول أن ينتحر، فللسلطة النافذة حقُّ التدخل في اختياره، بالرغم من كون ذلك مصادرة لحريته في الأمر الذي أقدم عليه، ذلك أنَّ حريَّة العبد تنتهي عندما يجنح إلى الضرر الظاهر بالغير أو بنفسه، لأنَّ الضَّرر مرفوع بالجملة[2]، وهي مسؤولية الفرد والجماعة.
الثاني: إذا طلب الشخص من الآخرين مساعدته في الوصول إلى قرار صحيح، وهنا يكون التدخل في حرية الشخص بناء على طلبه، ويكون هذا في الفتيا والاستشارة.
يقول القرافي:” اعلم أنَّ العبادات كلَّها على الإطلاق لا يدخلها الحكم ألبتة بل الفتيا فقط فكلُّ ما وُجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط فليس لحاكم أن يحكم بأنَّ هذه الصلاة صحيحة أو باطلة، ولا أنَّ هذا الماء دون القلتين فيكون نجسا…بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا إن كانت مذهب السامع عمل بها، وإلا فله تركها، والعمل بمذهبه”[3]
إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من قبيل الحالتين السابقتين، وإنما هو حالة مستقلة تقتضيها المصلحة العامة والخاصة، وبالرغم من كون صورته تُعُّد تدخّلا بالحرية الشخصية للآخرين إلا إنها من حيث الجوهر ليست كذلك، لأنَّ النَّصيحة ليست ملزمة، كما إنها تُعبِّر عن حرص النَّاصح على مصلحة المنصوح، فالنُّصح للآخرين بجوهره دعمٌ لهم وتبصيرٌ لهم بالصواب، وهو أبعد ما يكون عن التدخل السلبي في الحريَّة الشخصيَّة للآخرين لا سيما إذا أداه الناصح كما أرشد له قوله تعالى:
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة 2/83).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر ابن قدامة، موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي (المتوفى: 620هـ)، روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الحنبلي، الناشر: مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الطبعة الثانية 1423هـ-2002م ، 1/ 154-156
[2] علي حيدر خواجه أمين أفندي (المتوفى: 1353هـ) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، تعريب: فهمي الحسيني، الناشر: دار الجيل، الطبعة: الأولى، 1411هـ – 1991م، المادة 20، 1/37
[3] أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ) الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق، 4/50، الناشر: عالم الكتب الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ عدد الأجزاء: 4