حبل الله
تأملات قرآنية: (يأجوج ومأجوج)

تأملات قرآنية: (يأجوج ومأجوج)

د. عبدالله القيسي

يقول تعالى:

﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. ‌وَاقْتَرَبَ ‌الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 96-97].

هذه الآية ليس فيها دلالة صريحة على أن الفتح الوارد في الآية هو خروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان كما يذهب له المفسرون، وإنما لها دلالة أقرب لو تأملنا الآية في ضوء سياقها، وفي ضوء آيات أخرى اشتركت معها في المعنى، أي على قاعدة تفسير القرآن بالقرآن.

الفتح المقصود بالآية هو خروجهم زمن النفخة الثانية في الصور، وهو وقت خروج الناس جميعاً من قبورهم، وهناك عدة قرائن تؤيد هذا المعنى:

– إذا تأملنا قوله تعالى في هذه الآية: ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ مع قوله تعالى في سورة يس ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ ‌يَنْسِلُونَ﴾ [يس: 51]، عرفنا أن المعنى واحد، وكلمة ينسلون لم تستخدم في القرآن كله إلا في هذين الموضعين.

فإذا نفخ في الصور خرجوا من الأجداث والقبور، ينسلون إلى ربهم، أي: يسرعون للحضور بين يديه، ولذا جاء بعدها ﴿‌وَاقْتَرَبَ ‌الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ وهو الوعد بالحساب، ثم بعدها تقول الآية ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ وهذا الفزع الذي صورته الآية لا يكون إلا يوم القيامة، فعيونهم مِن شدة الفزع مفتوحة لا تكاد تَطْرِف، يدعون على أنفسهم بالويل في حسرة: يا ويلنا قد كنا لاهين غافلين عن هذا اليوم وعن الإعداد له، وكنا بذلك ظالمين، وهي تشبه ذات الموقف الذي ذكرته سورة يس بعد الآية السابقة ﴿قالُوا ياوَيْلَنا مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدِنا، هَذا ما وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ﴾.

ثم تقول الآية بعدها ﴿إنْ كانَتْ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هم جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ﴾، ولو رجعنا إلى آية سورة الكهف التي تحدثت عن يأجوج ومأجوج فسنجد ما يؤكد هذا المعنى، إذ تقول الآية:

﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا. وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾ [الكهف: 97-101]،

فقوله تعالى ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ يؤكد أن المقصود هو خروجهم عند النفخ في الصور، وأن الوعد الحق هو ما ذكرته الآية: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾.

وأما مصيرهم بعد بناء السد فهو مصير كل إنسان، الموت ثم البعث عند النفخ في الصور، وإنما خصصت الآية الحديث عن خروجهم عبرة لكل قرية ظالمة أنها ستعود للحساب والجزاء يوم القيامة، ولذا جاءت الآية السابقة لذكرهم في سورة الأنبياء بتأكيد هذا المعنى:

﴿وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: 95]،

والمعنى أن أي قرية أهلكها الله بسبب كفرها وظلمها، فإنها لن ترجع إلى الدنيا مرة أخرى؛ ليستدركوا ما فرطوا فيه. ثم بعد هذه الآية جاء ذكر يأجوج ومأجوج كمثال لقوم كانوا مفسدين في الأرض، فلما قضى عليهم الموت كما يقضي على كل إنسان، لن يعودوا مرة أخرى قبل يوم القيامة، وإنما سيخرجون مسرعين بعد النفخة إلى الوعد الحق الذي ينتظرهم.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.