حبل الله
ألا يعد الدعاء لشخص ما بالهداية ظلماً لأن الله سيهديه إلى النور دون غيره؟ وهل مصير الطفل والمجنون ينافي مبدأ الاختبار؟

ألا يعد الدعاء لشخص ما بالهداية ظلماً لأن الله سيهديه إلى النور دون غيره؟ وهل مصير الطفل والمجنون ينافي مبدأ الاختبار؟

السؤال:

الدعاء لشخص ما بالهداية ألا يعد ظلماً لأن الله قد هداه إلى النور دوناً عن شخصٍ آخر؟ أليس الشخص الآخر الذي سَيُخلد بالنار نفس الشخص الأول وإلا ما الذي يميزه وأين الاختبار؟ معاذ الله طبعاً وإنما للسؤال.

سؤال آخر، ما مصير الطفل والمجنون وهل ينافي مصيرهما مبدأ الاختبار وهل سيحاسب البشر على اختلافات أعمارهم و…، فمنهم من طال عمره وبالتالي طالت صلاته وصومه.. إلخ؟

الجواب:

في البداية نتساءل، من الذي حكم باستجابة الله تعالى للدعاء بالهداية لأحد وبالتالي يميزه عن غيره ويضع عنه الاختبار ويعذب الآخر بالخلود في النار؟ فإن السائل الكريم يتساءل وكأن هذا القول حقيقة مسلَّم بها ولذلك بنى عليها سؤاله الذي نسب الظلم فيه لله تعالى – دون قصد منه – وكان عليه أن يتيقن مما يُقال حتى يبني عليه اعتقاده.

ويبدو أنه كأكثر الناس قد خلط بين مفهومي الإرادة والمشيئة ولذلك تشتت عقله وشك في عدل رب العالمين الذي ﴿لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ يونس (44) وسنوضح الفرق بينهما من خلال ربطهما بمسألتي الدعاء والهداية.

إن الإرادة تختص بما يريده الإنسان ويرغبه ويتمناه لكنه لم يحققه بعد، وذلك بخلاف المشيئة التي تنقل الشخص من مجرد الإرادة إلى ساحة الإيجاد سواء أكان الشيء موجودًا على مستوى الفكر والاعتقاد أو تخطاه إلى الأفعال والأعمال وذلك عن طرق الأخذ بالأسباب، هذا فيما يتعلق بالإنسان.

أما فيما يتعلق برب العالمين فإن الأمر مختلف حيث أن إرادته كافية في إيجاد الشيء إذ لا يحتاج سبحانه وتعالى إلى أسباب تحقق أمره فـــــــــ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يس (82) وأما مشيئته فتكون في خلق الأسباب التي يتخذها عباده كما سنبين فيما بعد.

وإذا طبقنا هذا الكلام على السؤال سوف ندرك التالي:

  • أن الدعاء يتعلق بالإرادة، فإذا أراد الإنسان شيئًا فإنه يتوجه بشكل تلقائي إلى ربه سبحانه وتعالى ليحقق له طلبه ومراده عن طريق دعائه ومناداته سواء قبل الأخذ بالأسباب أو بعده.

والإنسان المؤمن يدعو ربه في أشياء يريدها وقد تكون خارجة عن استطاعته كطلب الذرية:

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ آل عمران (38)

وكالنجاة من الكرب:

﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ الشعراء (169) ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ الأنبياء (76)

والشفاء من المرض:

﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء (83)

وقد يدعو الإنسان ربه في أشياء داخلة في استطاعته راجيًا التوفيق والقبول من ربه كقوله:

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ البقرة (127) وقوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ إبراهيم (40)

والأمثلة على ذلك كثيرة باختلاف النعم والخيرات التي يريدها الإنسان أو حتى على اختلاف السوء الذي يريد صرفه عنه:

﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ فصّلت (49)

وهنا ملمح ينبغي بيانه، أن الدعاء والاستجابة لا يقف عند المؤمنين وحدهم وإنما يستجيب الله عز وجل من غير المؤمنين كذلك:

﴿كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ، وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ الإسراء (20)

لكن الفرق بينهما أن المؤمن يدعو ربه في جميع أحواله كمن وصفهم الله تعالى بقوله:

﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ الأنعام (52)

أما غير المؤمن فينطبق عليه قوله تعالى:

﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ فصّلت (51).

  • أما بالنسبة للهداية فهي تتعلق بالمشيئة، لأن الهداية مترتبة على السعي والأخذ بالأسباب ولا تقف عند حد الإرادة، بمعنى أن الإنسان عندما يدعو ربه بالهداية فهو ما زال في مرحلة (الإرادة) فإن تخطاها إلى مرحلة (المشيئة) تحققت هدايته وذلك بأن يسلك الطريق إليها ويطرق جميع أبوابها بدءًا من التفكر والتأمل إلى البحث والتدبر حتى يصل إلى الإيمان واليقين مستعينًا بربه عن طريق الدعاء.

ويتضح الأمر بشكل جلي في أول أدعية القرآن الكريم الذي جاء في فاتحة الكتاب عندما علمنا الرحمن الرحيم الدعاء فيها بقولنا:

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الفاتحة (6)

فلم يتوقف الأمر هنا عند الدعاء؛ إذ بيَّن لنا تعالى في الآيات التالية لها مباشرة سبيل هذا الطريق المستقيم في قوله:

﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ البقرة (2)

وكذلك لم يتوقف الأمر عند حمل الكتاب وحفظه وإنما بفهمه وبتطبيقه عن طريق التصديق والعمل به:

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ البقرة (4)

ليبين بعدها أن هؤلاء هم المهتدون:

﴿أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ البقرة (5)

ولنأخذ على ذلك مثال آخر بالنصر فقد أنبأنا تعالى أنه:

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال (10)

فإن أراد الإنسان أن ينتصر على أعدائه فعليه أن يحول تلك الإرادة إلى مشيئة وذلك بالسعي والأخذ بأسباب النصر، فعندما دعا المؤمنون ربهم أن يحقق وعده وينصرهم قالوا:

﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ آل عمران (194)

فجاء الرد منه تعالى:

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ آل عمران (195)

فلم يقل تعالى (أني لا أضيع دعاء داع منكم) وإنما ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ وذلك لأنهم قبل الدعاء قد أخذوا بالأسباب التي بينها في الآية نفسها من الصبر على الأذى والهجرة إليه تعالى والقتال في سبيله القائم على إعداد العدة التي بينها تعالى لهم بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..﴾ الأنفال (60)

وكذلك هنا ملمح غاية في الأهمية فيما يتعلق بمشيئة الله تعالى التي قد يُساء فهمها عندما نقرأ قوله تعالى:

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ يونس (99)

وكذلك قوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ التكوير (29)

فقد يظن البعض أن الله تعالى قد شاء الهداية لفئة من الناس دون غيرها، لأنه لو شاء ذلك لكل الناس لآمنوا جميعهم، وكذلك مشيئة الناس لا تتحقق إلا بعد مشيئته!!

ولكننا بتلاوة الآيات المتعلقة بالموضوع يتضح الأمر بشكل جلي، فإن القول بأن (مشيئة الإنسان لا تتحقق إلا بعد مشيئته تعالى) لا يعني أن الله تعالى هو من يختار ويحدد من يريد هدايته من البداية، ولكنها تعني أنه لولا مشيئتة تعالى في خلق الأسباب التي تعين الإنسان على الهداية وذلك بإرساله الرسل وإنزاله للكتب والذكر فليس له أن يشاء ويهتدي، وهذا ما دل عليه السياق نفسه:

﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ التكوير (29)

إذ كيف للإنسان التذكر والتقوى إن لم يؤتَ السبيل إليها ممن يملك القدرة على ذلك؟:

﴿إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ الإنسان (29: 30)

لأنه سبحانه وتعالى وحده أهل للتقوى التي يريدها المهتدي:

﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ المدّثر (56).

ولكنه تعالى أراد لنا الهداية فخلق ويسر لنا أسباب الهدى والضلال:

﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ الشمس (8)

والإنسان هو الذي يشاء لنفسه ما يريد:

﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ النحل (93)

فالفاعل للفعل (شاء) هو الله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ أما الفاعل للفعل (يشاء) هو الإنسان، وهذا يعني أنه لو تُرك الأمر لله تعالى وحده في هداية البشر – دون اختيار منهم – لاهتدوا وآمنوا كلهم جميعًا وهذا هو معنى قوله:

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾

ولكن الإنسان هو المخير بين الهدى والضلال فسييسر له تعالى في كلا الحالتين، ففي حالة اختار الهداية:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت (69) ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ محمد (17)

وإن اختار الضلال فلن يختاره على جهل بعد وضوح الآيات وإنما سيكون ضلاله على علم:

﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ الجاثية (23)

فرب العالمين لا يظلم عباده الذين ضلوا وإنما:

﴿فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ الأعراف (30).

وهنا يتضح استفسار السائل الكريم حول استجابة الدعاء للآخرين بالهداية، إذ أن دعاءنا لهدايتهم لن يستجاب له إلا بمشيئة الإنسان – المدعو له – بنفسه وبسعيه وبالتمسك بنور ربه:

﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة (16)

ولو تحققت الهداية بالدعاء وحده لآمن ابن نبي الله نوح ﷺ وما كفر أبو الخليل إبراهيم، فالهداية لا تأتي بالإكراه:

﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾

ولا حتى بالمحبة:

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ القصص (56)

كما أن الإرادة وحدها لا تكفي لهداية الإنسان ولو قالها بلسانه ودعا لكنه لم يشأ بتقديم السعي فلن تنفعه إرادته حيث قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ الإسراء (19)

ولن ينفعه دعاء غيره ولا حتى دعاءه لنفسه:

 ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُواۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ البقرة (201: 202)

فلم يقل تعالى (أولئك لهم نصيب مما دعوا) وإنما قال ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾.

ومن ثم فإنه تعالى لا يميز بين عباده إلا بميزان واحد يحدده الإنسان ويختاره:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات (13)

والإنسان الذي اهتدى يدرك ذلك جيدًا وهو يحمد ربه في دنياه وآخرته:

﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ، وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الأعراف (43)

أما بالنسبة للسؤال عن العمر، فهو تعالى أعلم بعباده وهو الذي قدر بينهم الموت ويحدد موعده:

﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ..﴾ الحج (5)

وليس طول العمر أو قصره دليلا على كثرة الأعمال الصالحة أو قلتها، فمن الرسل والأنبياء من عاش إلى ما يقرب الألف سنة ومنهم من مات شابًا أو كهلًا، والإنسان الذي شاء لنفسه الصلاح سيدوم عليه سواء أمات صغيرًا أم كبيرًا:

﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ مريم (31)

وكذلك من شاء لنفسه الضلال.

فليس بالضرورة أن طول العمر دلالة على حسن العمل، فمن الناس من طال عمره وحسن عمله، ومنهم لو عمر ألف سنة فلن ينفعه مع سوء عمله قَالَ سُبْحَانَهُ:

﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ البقرة (96)

ومن عدله تعالى ورحمته بعباده أن المدة التي يمكث فيها الإنسان في حياته الدنيا كافية لهدايته لئلا يقول أحد لو مد الله في عمري لاهتديت قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا:

﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ فاطر (37)

والإنسان الذي يوقن بربه حق اليقين يعلم أنه لا يرضى لعباده الكفر وأنه لم يخلقهم ليعذبهم وأنه في تقدير الموت رحمة لا يعلمها إلا هو، فقد يموت الصغير قبل أن يكبر ويعصي، وقد يطول عمره لحسن عمله أو لمنحه فرصة التوبة أو أنه يملي ويمهل للظالمين فهو سبحانه:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك (2).

أما بالنسبة للطفل والمجنون فلا عقاب عليهما، إذ أنهما ليسا محلًا للتكليف لنقصان الفهم والإدراك اللذان يبنى عليهما الاختبار في الاختيار، فكما نبأنا العليم الخبير أن الأطفال يطوفون في الجنة على أهلهم بقوله سُبْحَانَهُ:

﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ الطور (24)

والمجنون كذلك قد رفع الله تعالى عنه الحرج في الدنيا ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ الفتح (17) ومن رحمته سبحانه أنه ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة (286)

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله  www.hablullah.com

الباحثة: شيماء أبو زيد

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.