السؤال:
المعذرة على السؤال.. لكن ما جدوى فريضه الحج فعلا؟ كونه يتشابه مع الكثير من العبادات الوثنية؟ ما الجدوى من الطواف حول الكعبة فعلا؟ هل ما قيل من مباهاة الله بعبادته صحيح؟ لأني لا أبتلع هذا، فالله ليس بحاجة لأحد ليعبده من الأساس، بالإضافة أنه أثناء الحج نجد التحرش والسرقة! فلا يوجد للأسف أي طهارة في أي مكان يوجد فيه بشر.. هل المقصود زيارة أرض كان فيها الأنبياء مثلا؟ هل الحجر الأسود من الجنة فعلا؟ وهل الأمر مهم حتى لو كان كذلك؟ المعذرة لو بدت الأسئلة تبدو مسيئة لكني فعلا لا أستطيع فهم فائدة الحج لجهل مني وعدم ثقتي بأي مصدر إلا بعد الاقتناع.
الجواب:
بداية لا داعي لاعتذار السائلة إن كان مقصدها الوقوف على الحكمة والفهم وليس مجرد الشك أو الطعن في الغايات النبيلة والأهداف القويمة لأوامره تعالى، فالسؤال ليس جديدًا وهو من الوساوس التي يلقيها الشيطان في صدر الإنسان المؤمن حتى يرده عن دينه أو يلبسه عليه.
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي أن نوضح بعض النقاط المشار إليها في السؤال التي ذكرناها مرارًا وتكرارًا ونؤكد عليها ألا وهي:
- وجوب التفرقة بين الإسلام كدين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده وبين سلوكيات المنتسبين إلى هذا الدين، فالدين حجة عليهم ولكنهم ليسوا حجة على الدين.
ولذلك علينا أن نفرق بعين البصيرة بين من يؤدي شعيرة الحج طاعة لله تعالى خالصة لوجهه الكريم وبين من حول تلك الشعائر إلى مجرد عادات خالية من الجانب الروحي والخُلقي، فالحج ليس وحده ما ينطبق عليه ما يدور في خلد السائلة من المخالفات التي تقع من بعض الحجاج – وإن كان في الحقيقة يصدر من قلة قليلة وليس كما تتصوره السائلة الكريمة – فكافة الأوامر والعبادات نجد من يخالف مقاصدها سواء متعمدًا أو مخطئًا، فمن الناس من يصلي رياء، ومنهم من يتصدق منة وأذى، ومنهم من لا يمسك لسانه عن السب والشتم في صيامه، ومنهم من يستغل منصبه، ومنهم من يرتشي ويستحل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك.
وعندما نرى مثل تلك المخالفات فاللوم عندئذٍ يقع على مرتكبيها وليس على الدين نفسه وإلا فقد افترينا الظلم على رب العالمين كمن يفتري عليه تعالى أمره بالفاحشة:
﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف (28)
- علينا فهم المعنى الحقيقي لكلمة الإسلام التي جاءت من التسليم الكامل واليقين التام أن أوامر الخالق العظيم هي الخير ذاته:
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة (285).
وعلينا أن نتذكر دائمًا أن السمع والطاعة هما الميثاق الذي أُخذ علينا بمجرد إيماننا بما جاء في كتابه تعالى وأنهما أول درجة في سُلم التسليم والإيمان، قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ:
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ المائدة (7)
ومن دواعي السمع والطاعة أن ننفذ كل ما جاء من الأمر أو النهي دون سؤال لماذا؟! لأنه سُبْحَانَهُ:
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ الأنبياء (23)
والمؤمن الحق يتبع أمر ربه حتى لو لم يدرك الحكمة في وقتها اقتداء بأولي العلم الذين قال الله تعالى فيهم:
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران (7)
ثم بعد ذلك يتسنى لنا أن نتساءل عن الحكمة من وراء تلك الأوامر والنواهي ليس بهدف اشتراط الإيمان أو الشك في جدواها وماهيتها وإنما بهدف بث اليقين في القلوب عن علم ومعرفة، ولنا الأسوة الحسنة في الخليل إبراهيم الذي كان أمة في إيمانه وقد طلب من ربه أن يطمئن قلبه:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ البقرة (260)
وبالرغم من أن جميع أوامر الخالق العظيم فيها الخير والصلاح لعباده في الدنيا والآخرة لكنه تعالى فصَّل لهم في كتابه كل ما يحتاجونه من العلم:
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ الإسراء (12)
وقد فصل كل شيء وبينه:
﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ..﴾ النساء (165)
وبالنسبة لجدوى فريضة الحج فإن الله تعالى قد بيَّن الجدوى (الحكمة) منها كما بيَّنها في كافة المناسك والعبادات:
﴿ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ الإسراء (39)
ولا يدرك الحكمة إلا من سعى إليها وبحث عنها:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ البقرة (269)
فبيَّن حكمة الصلاة:
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ العنكبوت (45)
كما بين الحكمة من الصيام:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة (183)
ومن الصدقات:
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ التوبة (103)
ومن غير ذلك من العبادات.
وأعلى مراتب الحكمة أن يوقن الإنسان أن ما يفعله في حياته شكرًا كان أم كفرًا فهو لنفسه وعليها وليس لرب العالمين:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ لقمان (12).
وإذا جئنا إلى الحج وقبل أن نبيَّن الحكمة من ورائه نجيب عن السؤال المتعلق بالوثنية، فالوثنيون هم الذين أرادوا تقليد مناسك الحج الخالصة لوجهه تعالى ليجعلوا لأنفسهم أوثانًا من دون الله تعالى وذلك كمن أراد هدم الكعبة ليطوف الناس بكعبته!!
فالله سبحانه وتعالى هو أعلم بعباده الذين خلقهم من تراب ثم نفخ فيهم من روحه، ولهذا فهو سبحانه الخبير البصير بعباده كما يعلم حاجتهم إلى العبادات الروحية محسوسة الأثر كالصلاة والصيام والصدقة وما تبثه في النفس من طمأنينة وتقوى وتزكية فهو كذلك يعلم حاجتهم إلى العبادات المادية الملموسة الأثر والتي تعود بالنفع الروحي والمادي معًا؛ وذلك ليشعر الإنسان بالتوازن بين خلقته وفطرته وروحه.
ومن رحمته تعالى فقد جعل لهم بيتًا يغذي هذا الجانب المادي لديهم ووجههم فيه إلى اللجوء للخالق وليس للمخلوق ووضعه لهم في بقعة مباركة تكون قبلة تهفو إليها نفوسهم وتتوق إليها أرواحهم:
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران (96)
وذلك بدلًا من أن يتركهم فريسة سهلة للشيطان الذي يلعب بدوره على هذه الناحية المادية لدى البشر ويدعوهم إلى تلمس تلك المادة في عبادة الأوثان التي تضرهم ولا تنفعهم:
﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ العنكبوت (17)
ونهانا عن اتخاذ الأوثان سواء من الناس أو القبور أو غيرها مما يتخذه البعض ويبررون ذلك بالتقرب بها إلى الله تعالى:
﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ العنكبوت (25).
ويتضح هذا المعنى في الحج نفسه عندما حذرنا رب العالمين أن نفعل فيه الرجس أو نلحقه بشكل من أشكال الوثنية فقال تعالى:
﴿ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ الحج (30)
إن من يتحدثون عن الوثنية لم يدركوا بعد أن فريضة الحج لم تفرض من أجل اللجوء لإنسان حتى لو كان نبيا أو من أجل الطواف ببناء من حجارة كما يحدث في الوثنية، وإنما أمر بزيارته والصلاة فيه تعظيما لله وتنفيذا لأمره، أما المكان فقد اكتسب الحرمة من أمر الله تعالى بزيارته وإعماره بالحج والعمرة والصلاة باعتباره أول بيت وضع لعبادة الله في هذه الأرض:
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96-97]
وبالرغم من حرمة المكان إلا أن إخراج أهله منه أعظم عند الله تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ البقرة (217)
ولو كان الأمر متعلقًا بوثنية البيت لكانت عمارته وكساؤه وزخرفته والخدمات المقدمة له وسقيا القادمين إليه أعظم من عمارته بالحج والعبادة، ولكن الأمر على العكس تمامًا، حيث يقول تعالى:
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ، فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ التوبة (18: 19).
ولنا أن نعقد مقارنة بسيطة بين بيت الله الحرام وبين تلك القبور أو أماكن العبادة المتواجدة سواء عند المسلمين أو أهل الكتاب أو غيرهم التي يأتيها كثير من الناس من كل حدب وصوب ويبذلون المال من أجلها، فإن تلك الأموال لا تعود بالنفع على الفقراء والمساكين لكنها _في الحقيقة_ تعود على الدجالين والمحتالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل تحت دعوى تحقيق أحلامهم واستجابة دعواتهم بتلمس جدرانها والتمسح بقضبانها والتوسل بموتاها أو حتى الأحياء القائمين عليها باستحواذهم على القرابين والعطايا.
وهذا بخلاف الحج الذي لم يفرض حتى من أجل استجابة الدعوات وطلب الأمنيات – كما يعتقد البعض – فاستجابة الدعاء ليس بحاجة إلى أن تقطع إليه المسافات وتُنفق له الأموال وقد قال جَلَّ وعَلَا:
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ق (16)
وإلا كان غير القادر على الحج محرومًا من استجابة دعائه ومن التقرب لربه الذي قال:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ البقرة (186)
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ غافر (60)
كما أن الحج لم يفرض من أجل تحقيق المجد لرب العالمين وإن كان مستحقًا لذلك، أو من أجل مباهاته بعباده كما يُفترى عليه من تلك الروايات التي جعلت رب العالمين في حاجة إلى خلقه ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ والعجيب في أمر المباهاة أنها تكون أمام من؟ أمام عباد الله تعالى من الملائكة وهم الذين لا يعصون ربهم ويفعلون ما يؤمرون وهم الذين ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ الأعراف (206).
وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل نحن المخلوقين موضع مباهاة لخالقنا؟! أم أن العكس هو الصحيح؟! ألا ينبغي علينا أن نتباهى نحن بعبادتنا له جل جلاله؛ تلك العبودية التي منحتنا التحرر من عبودية المخلوق سواء أكان بشرًا أم حجرًا أم شهوة أو مالًا، وقد كان سبحانه وتعالى قادرًا على أن يجعل كل أهل الأرض مؤمنين ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًاۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ يونس (99) ولو كفر كل أهل الأرض فـ ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ آل عمران (177)
فصاحب الفضل والمنة هو الله تعالى الذي يرد على القائلين بمثل هذا القول:
﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ الحجرات (17)
ويكفي للرد على هذا الافتراء قوله تعالى في أمره بالحج:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران (97)
وهذا يقودنا إلى رد المزاعم المتعلقة بالحجر الأسود من روايات تمجده وتدعي أنه من الجنة وتجعل منه وثنًا داخل الكعبة، والمتفكر في تلك الروايات نفسها يدرك أنها مفتراة دون الحاجة إلى دليل يدحضها. ويكفي قولهم أنفسهم أن عمر بن الخطاب أدرك أنه مجرد حجر لا يضر ولا ينفع وقوله – على زعمهم – لولا أنه رأى الرسول يقبله ما قام عمر بتقبيله!! (حاشا النبي أن يكون قد فعل ذلك).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل كان عمر بن الخطاب _مهما بلغ عقله وإدراكه_ أعظم من عقل وإدراك الرسول المصطفى المؤيد بالوحي أنه مجرد حجر لا يضر ولا ينفع ورغم ذلك قبله وأمر الناس بفعل ذلك! ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾!
والحقيقة أن الرواية إن صدقت في شيء فقد صدقت فقط في عبارة أنه (حجر لا يضر ولا ينفع) ولذلك لا ينبغي للحجاج والمعتمرين أن يزيدوا على أنه مجرد حجر قد وضع كإشارة على بداية وانتهاء الطواف، وعفا الله عمن فعل غير ذلك عن جهالة.
ونأتي الآن إلى الحكمة من الحج التي نستطيع أن ندركها بالعودة إلى كتابه تعالى والآيات المتعلقة بتلك الشعيرة العظيمة ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- قوله جَلَّ في عُلاه:
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ الحج (27)
فعلى الرغم من أن أداء الحج في العصر الحديث لا تبلغ مشقته كما كان في الماضي لكن تبقى فيه مشقة الطواف والوقوف بعرفة وبقية المناسك التي تهدف إلى تقوية المؤمن على الصبر وتدربه على تحمل الصعاب وتعلمه إيجاد الحلول للمشكلات التي تواجه وليس الانسياق وراء كل ما هو سهل الذي قد يجره إلى الحرام لسهولة طريقه.
- ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ، وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ البقرة (197)
يفهم من هذه الآية الكريمة أن أداء الحج يدرب الإنسان على مفارقة اللذات والشهوات في تلك الأشهر المعلومات.
- ﴿يَٓا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ المائدة (1)
يعلمنا سبحانه وتعالى أن فريضة الحج تدعو إلى الأمن والسلام لجميع المخلوقات وليس للإنسان فقط، ومن هنا فلا ينبغي إلا مد اليد بالسلام والأمن لكل المخلوقات على حد سواء في تلك الأشهر.
- ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ، ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ المائدة (97)
وقال: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الحج (29: 30)
فقد أباح سبحانه وتعالى للحجاج والمعتمرين أن يستفيدوا من مكاسب التجارة أثناء أداء فريضة الحج، وفي الوقت نفسه يتم توجيه النذور إلى مستحقيها من الفقراء في بقاع الأرض.
ووفر سبحانه وتعالى لبيته الحرام كل أسباب الأمن وزوده بالرزق الوفير الذي يعود بالنفع المادي والتجاري على كل أنحاء الأرض ما بين مصدر ومستورد وبائع ومشتر ومتصدق قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ:
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ القصص (57)
- ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ. ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج (31: 32)
ففي الحج يختبر الله تعالى مدى صدق عباده وإخلاصهم له وتجردهم عن الشرك، كما يتبين تقوى قلوبهم من خلال تعظيمهم لشعائر الله تعالى.
وختامًا: فإن الحج رحلة روحية وخُلقية ونفعية يتجلى أثرها العظيم ليس فقط على من أتمها لله سبحانه وتَعَالَىٰ بل على الناس في شتى بقاع الأرض حتى على غير المؤمنين منهم، وتُعد رحلة الحج من أعظم الأدلة على رد القائلين بالوثنية وأنهم لا حجة لهم، فهم كمن قيل فيهم:
﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ الشورى (16)
والدليل على ذلك أنه عندما دعا الخليل إبراهيم ربه قائلًا:
﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
أجاب الكريم على دعوة خليله بأن الأمن والرزق ليس فقط لأهل البيت ممن آمن بالله واليوم الآخر وإنما هي كذلك لمن كفر:
﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة (126).
وعندما وجه الله تعالى المؤمن بأن يتم حجه وعمرته له تعالى في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ البقرة (196) أو في حياته كلها ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام (162) لم يكن المراد من قوله تعالى (لله) أنها من أجله تعالى أي من أجل نفعه أو ضره وإنما النية تكون خالصة لله ، فكل ما يفعله المؤمن سواء في الحج أو في غيره هو موجه بالنية لله تعالى، لكن منفعته تعود عليه وعلى غيره، فقال تعالى عن الأضاحي التي تذبح يوم النحر:
﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ، كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ الحج (37)
فحتى التقوى لا تعود على رب العالمين نفعًا أو ضرًا وإنما التقوى تفيد صاحبها في دنياه وآخرته:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الأنفال (29)
وحتى شكره وذكره سبحانه لا يعود عليه تعالى بالنفع:
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ إبراهيم (7) ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد (28)
نسأل الله تعالى للسائلة ولنا الثبات واليقين وطمأنينة القلب.
وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة
الموقع: حبل الله www.hablullah.com
الباحثة: شيماء أبو زيد