حبل الله
الدعاء على الأبناء؛ الأسباب والنتائج والحلول

الدعاء على الأبناء؛ الأسباب والنتائج والحلول

السؤال:

والدتي عندما تكون صائمة هي ووالدي في شهر رمضان لا ينفكوا من الدعاء علي، ولما يفطروا يدعوا علي أيضا، مع العلم أني أحاول أبرهم على قدر المستطاع، لكنهما يدعوا علي بسبب مشاكلي مع إخوتي أو لأن صوتي عال على إخوتي، فتقول أمي (يا رب تموتي بحق رمضان ، يا رب تتشلي (أن تصاب بالشلل) ،ربنا يبتليك بمصيبة ، يا رب تتشكي في قلبك (قلبي ابتدأ يوجعني هذه الأيام).

عندما أطلب من أمي أن تدعو لي فلا تقبل.

فهل ربنا سيستجيب دعاءها علي؟ وإخوتي يعلون صوتهم عليها ويدعون عليها ولكنها لا تدعو عليهم، ولو دعت فليس كما تدعو علي .

فكيف أجتنبها لأنها كل ما تراني تدعو علي.

الجواب:

بداية، إن المؤمن الحق لا ينبغي أن يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء على أحد إلا إذا ظلمه، قَالَ اللَّهُ تعالى:

﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ النساء (148)

والأصل هو الدعاء للوالدين والأبناء والمؤمنين، كما في الآيات التالية:

﴿‌رَبِّ ‌اغْفِرْ ‌لِي ‌وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28]

﴿‌وَأَصْلِحْ ‌لِي ‌فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]

﴿‌رَبَّنَا ‌وَاجْعَلْنَا ‌مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 128]

ومسألة الدعاء على الأبناء نوع من أساليب التربية السيئة الذي _للأسف الشديد_ يلجأ إليه كثير من الآباء والأمهات لتخويف الأبناء وإجبارهم على الطاعة ظنًا منهم أن الأبناء سوف يخضعون لهم خوفًا من تحقق الدعاء عليهم، لكن هذا الأسلوب لا يتوافق مع أمره تعالى بالبر والعفو والإحسان قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التغابن (14)

والعداوة بين أفراد الأسرة الواحدة تكون على شقين:

الأول:  يتعلق بالتقصير في حق الله تعالى بسببهم؛ فمن شدة حب الزوج بزوجه وأولاده وتعلقه بهم قد يتنج عنه معصية الله تعالى من أجل إرضائهم وتوفير احتياجاتهم.

الثاني: يتعلق باختلاف الطبائع بين الأزواج والأبناء والآباء وما يسببه ذلك من نزاع وشقاق – كما في حالة السائلة الكريمة – وفي كلا الحالتين يحذرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نقع فيهما حتى لا ينقلبوا يوم القيامة أعداء، وأمرنا في الحالة الثانية بالعفو والصفح والغفران عن زلاتهم حتى لا تنقلب الحياة جحيما.

ورغم أن الآباء حين يدعون على أبنائهم بالعذاب أو المرض أو الموت يكون ذلك مجرد قول باللسان لا يرجوه القلب ويأبى تحقيقه، ولو تحقق شيء منه لكان هؤلاء الآباء هم أشد الناس حزنًا عليهم ويشعرون بالندم على ما دعوا ويظنون أن ما أصابهم هو نتيجة دعائهم السيء على أبنائهم، ولكن الله تعالى نبأنا أنه لا يقبل من الدعاء والعمل إلا بشرط بيّنه سبحانه في قوله:

﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة (27)

ولو كان دعاء الآباء وغيرهم يتحقق لما بقي على الأرض أكثر الأبناء والجيران والأقارب.

وعلى ذلك فإن كان الأبناء صالحين ويعاملون آباءهم بالإحسان الذي أمرنا به الله تعالى بقوله:

﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ الإسراء (24)

إن كانوا كذلك فلا ينبغي أن يُخشى دعاءهم وأن يتيقن أن هذا الدعاء هو تفريغ لطاقة الغضب لدى بعض الآباء وأنهم يحبون أبناءهم ولا يتمنون لهم الشقاء بأي حال من الأحوال، وها هو نبي الله نوح الذي انخلع قلبه على ابنه وخاف عليه من الغرق في الطوفان وناداه رغم كفره لينقذه:

﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ هود (42)

وفي الوقت نفسه يجب على الأبناء النصح لآبائهم ودعوتهم بالتي هي أحسن، فربما يجهلون أن الدعاء بالسوء غير مقبول على أحد وأنه نوع من البغي لا يرضاه الله تعالى حيث نهانا عنه في قوله:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النحل (90)

أما بالنسبة للألم الذي تشعر به الفتاة في قلبها نتيجة دعاء أمها عليها فغالبًا هو نتيجة الحالة النفسية السيئة التي تمر بها الفتاة وتوجسها من عاقبة الدعاء عليها بمرض قلبها، وهي حالة معروفة في الطب بما يسمى بالاضطرابات النفس جسمية التي يشعر بها الإنسان عند شعوره بالخوف أو القلق أو الحزن، ولا يمنعها ذلك أن تعرض نفسها على طبيب كي تطمئن على حالتها الصحية.

وأما عن كيفية تجنب ذلك فعليها بخفض صوتها وخاصة في وجود والديها امتثالًا لأمره تعالى بخفض الصوت:

﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ لقمان (19)

والإحسان إلى والديها والصبر على إخوتها قدر المستطاع؛ فإن كانوا كبارًا فهو نوع من الاحترام وإن كانوا صغارًا فهو نوع من الشفقة عليهم، ولتبدأ هي بتقديم الأسوة الحسنة لهم جميعًا ولتضع نصب عينيها قصص الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى لنا ليكونوا الأسوة الحسنة في كيفية التعامل مع الآباء والأبناء والإخوة بالصبر والتغافل والصفح.

فها هو الصديق يوسف عليه السلام يتذكر نعمة ربه ويغفر لإخوته من بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته الذين دبروا لرميه في الجب وما تلا ذلك من بيعه بثمن بخس ثم دخوله السجن، ولكنه بعد ذلك عفا عنهم:

﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ يوسف (92).

وها هو خليل الرحمن لم يفكر أن يدعو على أبيه الذي لاقى منه صنوفا من العذاب النفسي والجسدي أو أن يرد عدوانه بالمثل، بل أخذته الرحمة والشفقة واللطف في معاملته ثم دعا له رغم كفره وسوء المعاملة التي تلقاها منه:

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ مريم (47)

وإن فعلت ذلك فسوف يتحسن الوضع بمشيئة الله تعالى، وإن استمر الوضع فعليها باللجوء إلى الله تعالى والاستمرار في الإحسان والدعاء لوالديها والرحمة والمغفرة ولإخوتها بالهداية والرشاد ولنفسها قبل الجميع، فالصبر والتغافل والصفح ليس ضعفًا بل قوة إيمان وإحسان، ودفع السيئة بالحسنة من أعظم ما يناله المؤمن لأنه يحول العداوة إلى محبة ومودة مصداقًا لقوله تعالى:

﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فصّلت (35).

وختامًا: فإن كل إنسان في هذه الحياة مبتلى، وخاصة المؤمن الحق، وللابتلاء صور كثيرة منها ما يكون في النفس أو في الوالدين أو الأبناء أو المال، وفي الوقت نفسه علمنا سبحانه وتعالى كيف نتغلب على البلاء:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة (155)

وما تعاني منه الفتاة السائلة هو نوع من الخوف الذي يواجه بالصبر والاستعانة بالعلاج الأمثل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة (153)

وينبغي للمؤمن أن يصبر على والديه ابتغاء مرضاة الله تعالى وطاعة لأمره الذي أمرنا بالمعروف معهما ولو كانا كافرين:

﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَاۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لقمان (15)

والله سبحانه وتعالى لن يضيع عمل المحسنين:

﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ هود (115)

ولتتيقن أنها إن غفرت لأبويها ولإخوانها فإن الله تعالى سيغفر لها:

﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النّور (22)

وسيؤتيها خيرا مما فقدته في الدنيا والآخرة قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا، نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الصف (10_ 13)

ومجاهدة النفس إرضاء له سبحانه هو نوع من الجهاد وتجارة مع الله تعالى لا خسارة فيها، وأرباحها تعود على المؤمن في الدنيا قبل الآخرة كما بينت الآيات الكريمة من سورة الصف.

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله  www.hablullah.com

الباحثة: شيماء أبو زيد

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.