السؤال:
كتب الله أجركم وبارك في جهودكم.. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والقبول والإخلاص..
اطلعت على موقعكم وقرأت أكثر المقالات، وأعجبت بها وبالذات تأثرت بمسألة عدم علم الله بأفعال العباد قبل أن يعملوها كما في مقالة (معركة بدر والقدر) وإنما تتم الكتابة والإذن بحدوث الفعل أو عدم حدوثه حين وقوع الحدث.
ولكن لدي سؤال شغلني وأتمنى أن أجد جوابه لديكم..
السؤال هو: لماذا النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل البشر فيما يتعلق بالقرب إلى الله إذا كان الله قد عصمه من الخطأ وأعانه على قرينه فأسلم؛ فأصبح يأمره بالخير بدلًا من الشر؟.
ولماذا قال الله على لسان رسوله: (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) يعني: الفرق بيننا وبينه أنه فقط يوحى إليه؟ بينما يوسوس لي الشيطان أنه مختلف عنا، فهو ليس بشرًا مثلنا، فإذا كان قد عصمه الله، وليس لديه قرين يزين له الشر، فلماذا لا يكون أحد الصحابة أو الصالحين أعلى مقامًا منه لأنه يجاهد نفسه الأمارة بالسوء؟
وإذا كان الاصطفاء الإلهي لنبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه وجعله خاتم الأنبياء وأشرفهم بسبب أنه أفضل الخلق عملا ومعرفة بالله قبل نزول الوحي عليه، فإذا كان هذا القول صحيحا، فهل يصح أن نقول أن الله لا يعلم أفعال العباد قبل وقوعها؟
وهناك أيضا مسألة التبشير بالنبي.. فمثلا في آية الميثاق على النبيين والأقوام السابقة أنه إذا حان وقت ذلك النبي المبشر به فعلى الأنبياء وأقوامهم اتباعه، وتظهر الآية وكأن وقته غير معلوم،
قال سبحانه وتعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81]
وتوجد آيات تدل على أن الرسول المبشر وقته معلوم قبل أن يأتي وأيضا مع ذكر اسمه كقوله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6]
فكيف نفهم هاتين الآيتين؟
وبارك الله فيكم.. وكتب الله أجوركم وزادنا وزادكم علما وهدانا الى الصراط المستقيم..
الجواب:
يسرنا اطلاعك على موقعنا وقراءتك المستمرة لمحتوياته .. نسأل الله تعالى أن ينفعك بما قرأت وأن يزيدك علما.
الجواب: لا يوجد آية قرآنية واحدة تقول بأن نبينا الكريم هو أفضل البشر أو أنه سيدهم، لذلك لا يصح وصفه بهذه الأوصاف.
أما اصطفاؤه للنبوة فهو كغيره من الأنبياء محض اختيار من الله تعالى، يخلقهم الله تعالى مهيئين لهذه المهمة العظيمة، يقول الله تعالى عن موسى:
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 41]
واختيارهم للنبوة لا ينفي عنهم صفة العباد المكلفين، فهم مبتلون بالنبوة أن يأتوها كما أراد الله تعالى منهم، حيث يغلب على الأنبياء النجاح في هذه المهمة لكن يصدف أن يفشلوا ببعض متطلباتها.
فقد خرج يونس من بلده مهاجرا بعدما يئس من إيمان قومه دون أن يأذن الله تعالى له بذلك، فالتقمه الحوت عقوبة له لكنه نجا من بطنه بعد أن أقر بخطئه واستغفر ربه:
﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 139-144]
ويحذر الله تعالى نبينا الكريم من أن يقع في خطأ يونس عندما يئس من إيمان قومه:
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم: 48-50]
لم يرد في القرآن الكريم ولا في أقوال النبي أنَّ الأنبياء معصومين عن الخطأ، إلا أن الاتجاه الفقهي العام يؤكد بشكل جازم أن الأنبياء معصومين عن الخطأ، وقد استدلوا بأدلة تصلح حجة عليهم لا لهم، كقولهم: كيف لغير المعصوم أن يكون قدوة؟ والحقُّ أنه كيف للمعصوم أن يكون قدوة لغير المعصومين.
إن زعم العصمة للنبي ظاهرُه مدحٌ وباطنُه قدح، لأنَّ قبول عصمة النبي وأنَّه لا يجوز عليه الخطأ مُؤدَّاهُ نزع القدوة عنه؛ لعدم قدرة غير المعصوم على الاقتداء بالمعصوم، لكنَّ المسلمين بغفلتهم عن كتاب الله وبعدهم عن الحكمة تلقفوا هذا الزعم ظانِّين أنهم يحسنون لنبيهم.
أورد القرآن الكريم أنَّ الله تعالى عصم نبيَّه من النَّاس بقوله:
﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة، 67)
هذه الآية صريحة بأنَّ الله تعالى عصم نبيَّه من الناس، وهذا يقتضي أن لا يتمكن أعداؤه منه بضر قاهر ومانع له من أداء مهمَّته. وبالرغم من دلالة الآية الصريحة على ذلك إلا أنَّ المسلمين تقبَّلوا المفتريات على نبيِّهم بأنَّه سُحر فكان يُخيَّل إليه أنَّه فعل الشيء ولم يكن فعله[1]، كما زُعم أنَّه مات بفعل السُّم الذي وضعته له يهودية بخيبر قبل موته بسنوات..
لا توجد رواية أكذب من تلك التي يُزعَم فيها أنَّ النّبيَّ قال لعائشة عند احتضاره للموت «يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ»[2]
و(الأبهر) عرق مرتبط بالقلب إذا انقطع مات الإنسان، وهو بمعنى الوتين الوارد في الآية السابقة. وكأن مفتري هذه الرواية أراد القول أنَّ النَّبيَّ محمدا قد افترى على الله تعالى فكانت عاقبته أن قطع وتينه (أبهره). وقد تعمَّد مفتري الرِّواية أن يأتيَ بلفظٍ غير لفظ الوتين الوارد في الآية حتى لا ينتبه النَّاس إلى ذلك بسهولة.. وكأنِّي به أراد تكذيب آيتين صريحتين متعلقتين بالنبي، أولاهما المذكورة آنفا (المائدة، 67) وثانيهما قوله تعالى:
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة، 44-47).
فمصطلح العصمة قد استُعمل في كتب التراث مرتين بشكل خاطئ، الأولى عند قبول عصمة النبي من الخطأ بالرغم من وجود أدلة في القرآن تبطل هذا الزعم، والثانية عند عدم قبولهم عصمة النبي من الناس بالرغم من نص القرآن على عصمته منهم، كزعمهم أنه سُحر ومات بسبب سُمٍّ قد وضعته له امرأة يهودية.
عند قراءة ما يتعلَّق بالنَّبيِّ في القرآن وكذلك في سيرته نجد أنَّه لم يكن معصوما من الخطأ، فقد صدر منه أخطاء كانت سببا كافيا لعتاب الله تعالى إياه كما حصل في اتِّخاذه الأسرى يوم بدر، ولم يكن ذلك الخطأ زلَّة بسيطة كما يدَّعي بعض المفسرين بل خطأٌ جليّ. نفهم هذا من قوله تعالى:
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال 67-68)
أما العصمة الحقيقيَّة فكانت عصمته من الناس، التي تعني أنَّ الله تعالى سيحميه ولن يجعل أيدي أعدائه تنال منه. وقد رأينا عناية الله به من يوم مبعثه إلى يوم قُبض، ورغم ما كان يمر به من امتحانات ومواقف صعبة إلا أن يد العناية الإلهية كان ظاهرة في كل محنة[3]، وقد أتمَّ ما كُلِّف به قبل موته من تبليغ للرسالة ونصح للأمة وإظهار للقدوة[4].
أما آيات التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فلا شك أنها تسلط الضوء على ضرورة أن يؤمن أتباع الأنبياء السابقين بالنبي الخاتم عند مبعثه، والخطاب الموجه للأنبياء في سورة آل عمران هو للتأكيد على ضرورة أن يؤمن أقوامهم بالنبي القادم، وهذا لا يعني احتمال أن يأتي هذا النبي في زمانهم أو قبل أحدهم ، فهذا متعذر مع وصفه بالنبي الخاتم، لكن كان ذلك لإظهار جلال الأمر وأنه لازم لهم على ألسنة أنبيائهم فلا يتركونه بحجة اتباعهم للأنبياء قبله، فها هم الأنبياء قبله يؤكدون لأقوامهم ضرورة الإيمان بالنبي القادم، وهذا ما يعرف بمسألة الإصر[5].
فقد اختار الله تعالى الزمان والمكان اللذين سيبعث بهما خاتم النبيين، وقد كان أهل الكتاب يعرفون ذلك، وقد سكن فريق منهم المدينة لهذا الغرض عسى أن يكون منهم، لذلك عاتبهم القرآن عتابا شديدا لما كفروا به بقوله تعالى:
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89]
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20]
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] روى البخاري بإسناده عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَوَعَاهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: ” أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي، أَتَانِي رَجُلاَنِ: فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِيمَا ذَا، قَالَ: فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ ” فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: «نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ؟ فَقَالَ: «لاَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ. (صحيح البخاري، باب صفة إبليس وجنوده، 3268)
[2] رواه البخاري معلقا عن عائشة، باب مرض النبي ووفاته 4428 . (الطعام) الشاة المسمومة التي أهدته إياها امرأة يهودية في خيبر (الأبهر) عرق مرتبط بالقلب إذا انقطع مات الإنسان
[3] تعرض النَّبي لحوادث ومواقف كانت كفيلة بأن تنهي حياته سواء قبل الهجرة أو بعدها، ففي معركتي أحد وحنين _مثلا_ انفضَّ النَّاس عنه وكاد يكون وحيدا أمام أعدائه الذين ما شنوا الحرب إلا لاستئصاله ودعوته، إلا أن عصمة الله إياه حالت دون مرادهم.
[4] انظر مقالة جمال نجم (قتل النبيين والنبوة) https://www.hablullah.com/?p=3106
[5] انظر مقالة جمال نجم (خاتم النبيين ورسالته الخالدة) https://www.hablullah.com/?p=2280