حبل الله
تنقيح التراث ومسألة التعصيب في الميراث

تنقيح التراث ومسألة التعصيب في الميراث

السؤال:

أنا فتاة من المغرب، ما قادني إليكم هو تساؤلي حول مسألة التعصيب في الإرث التي وردت في الفقه الإسلامي، هذه المسألة تسببت في ظلم شديد، حيث إنني عايشت تجربة جارتي التي توفي أبوها فجأة وخلف وراءه ابنته زينب وأختها وأمها. في يوم الجنازة فوجئوا بأبناء عمومة لهما، يأتون لتقاسم الإرث بمجرد أن استُكمِلت مراسم الدفن. بعد أن ذهب المشيعون، سقطت الأم أرضا من هول فاجعة الفقدان المفاجئ لزوجها، فإذا بأبناء العمومة يعترضون على حملها إلى المستشفى بسيارة المتوفى بدعوى أن هذه السيارة لم تعد ملكا للأسرة. بعد ذلك ذهب أبناء العمومة يهرعون إلى البنك ليمنعوا سحب أي درهم من حساب الهالك قبل تقسيم الإرث. فوجئت البنتان وأمهما أنهن بين عشية وضحاها أصبحن لا يملكن من أمرهن شيئا، وأن البيت الذي أمضين فيه زهرة عمرهن، بل وشاركن في نفقاته، يجب أن يباع كي يقتسمن ثمنه مع أشخاص آخرين، فأبناء عمومة زينب استحلوا بيع منزل الأسرة واقتسام المال الزهيد الذي تمتلكه بموجب قاعدة التعصيب، فرميت البنات و الأم إلى الشارع، فتلك الأموال لا تكفيهن حتى لشراء مسكن صغير. أليس هذا ظلما وطغيانا باسم الشريعة؟.

سؤالي هو لماذا الشيوخ يقبلون ويحمون هذه التشريعات، فقد طالب العديد من العلماء بإلغاء التعصيب فاتهموا بالكفر و الزندقة والتآمر على هذا الدين.

أليست أخطر مؤامرة على هذا الدين أن نصوره دينا ظالما، فهناك العديد من مثل هذه المسائل كمسألة الاستغلال الجنسي لملك اليمين والرق التي فتنتني في ديني شخصيا فأصبحت محاطة بالشكوك.. ولله الحمد فقد وجدت في موقعكم ما يشفي غليلي..

لكن السؤال المطروح هو لماذا الأئمة حرفوا دلالات القرآن في كثير من المسائل، هل ذلك كان عمدا أم جهلا؟ فعلماء الشيعة أباحوا الزنى بنكاح المتعة، وعلماء السنة أباحوه بملك اليمين.

ولماذا يصرون على عدم تنقيح الموروث الفقهي؟ والمعضلة الكبرى هي ترجمة تلك الكتب للأجانب حيث تسببت في فتنة شديدة، فقد رأيت العديد ممن ارتدوا بسبب هذه الترجمات.

و قبل أن أنهي كلامي أريد تقديم الشكر لكم على هذه المجهودات الجبارة، فقد كنتم سبب هدايتي وعودتي لطريق الله تعالى.

الجواب:

إن مسألة تنقيح الموروث وما سماه البعض بتجديد الخطاب الديني وما إلى ذلك من الدعوات للعودة إلى كتاب الله تعالى لا تقبلها المؤسسة الدينية الرسمية في بلاد المسلمين ولا تروق للكثير من القائمين على هذا الأمر، وهم الذين نصبوا أنفسهم حماة الدين والمدافعين عنه؛ وذلك لأن التغيير يتعارض مع شياطينهم الذين يريدون لهم أن يتركوا كتاب الله تعالى ليتحاكموا إلى الطاغوت. وقد نبأنا تعالى عن أخبارهم:

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ البقرة (170)

ولو بحثنا عن أهم أسباب ظهور تلك الروايات المفتريات على الله تعالى وعلى رسوله نجدها نشأت لأهداف سياسية لإعطاء الشرعية لبعض الأمراء والسلاطين.

ومن هنا ظهر فريق من علماء الدين الموالين الذين استفادوا من السلطة، فبدلًا من أن يكون مرجع اختلافهم كتاب الله تعالى كما أمرنا:

﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ الشورى (10)

فقد قسموا دين الله تعالى إلى فرق ومذاهب ما أنزل الله بها من سلطان، واستدل كل فريق على صحة رأيه بروايات مفتريات، وأكبر دليل على افترائها تضاربها فيما بينها وتناقضها مع كتاب الله تعالى، فنجد في المسألة الواحدة كثيرًا من الآراء التي بلغت العشرة أو أكثر ما بين حلال وحرام ومكروه ومندوب ومستحب .. إلخ! تلك الفرق التي نهى الله تعالى نبيه عنها:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ الأنعام (159).

وما زال الأمر مستمرًا إلى وقتنا هذا للاستحواذ على أعلى المناصب واعتلاء عرش الإعلام ومن ثم كسب المال والشهرة بالإضافة إلى حشد المؤيدين وكسب المحبين الذين يعتمدون عليهم في تسهيل أعمالهم ومصالحهم، وهؤلاء يدركون جيدًا أنهم إذا تمسكوا بالحق وخالفوا ما ورثوا فلن تكون لهم الكلمة العليا وسينفلت زمام الفتوى من بين أيديهم، ولا يتسحي هؤلاء أن يحللوا ويحرموا ما يتماشى مع السياسة وما يرونه في مصلحة حكامهم على الرغم من أن حق الفتوى لم تمنح لأحد من الرسل والأنبياء الذين كانوا يتبعون ما أنزل إليهم من ربهم، وقد كان الخطاب واضحًا جليًا لرسوله الكريم:

﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ الأنعام (106)

وذات الأمر متعلق بنا أيضا:

﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ الأعراف (3)

أما الذين يبدلون كلام الله تعالى ووحيه بحجة أن هذا كلام الرسول وسنته فحجتهم داحضة عند ربهم، فهذا هو الرسول الكريم نفسه يقول ردًا على من أراد أن يفعل فعلتهم:

﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يونس (15)

فكما يظهر فإن النبي نفسه لم يكن له حق التشريع وإنما كان ينتظر الجواب عن كل التساؤلات من لدن الحكيم العليم إن لم يكن قد نزل قرآن بشأن المسألة، وكل الآيات تشهد بذلك عندما يُوجه للرسول التساؤلات فتتنزل الآيات بالسؤال والإجابه معًا والأمثلة على ذلك كثيرة:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ…﴾ فيكون الرد بـــــ ﴿قُلْ﴾

وقد توعدهم ربهم جَلَّ في عُلاه:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًاۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ البقرة (174)

وإذا جئنا لمسألة الفتوى المتعلقة بالنساء وبتقسيم الميراث خاصة نجد قوله تعالى:

﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ..﴾ النساء (127)

وقوله:

﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ، وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌۘ﴾ النساء (176)

ولا عجب أن تختتم الآية الكريمة بقوله تعالى:

﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾

والمخاطب الأول فيها هو الرسول نفسه لأنه المتلقي للوحي، فكيف يُدَّعي بعد ذلك أن له وحيًا غير القرآن يورث الأعمام وأولادهم في حالة وجود للميت ولد (كلمة ولد تعني الفرع الوارث سواء أكان ذكرًا أم أنثى وسواء أكان ابنًا أم حفيدًا).

فهذه الآية تهدم ما زعموه على لسان النبي الكريم من تقسيم للميراث بغير ما أنزل الله به من سلطان وما ذكروه من مسألة العصبة!

وبالنسبة للسائلة الكريمة التي تسأل عن كيفية التغيير والرجوع إلى كتاب الله تعالى، فالحقيقة أنه ليس سهلًا، ولو كان الأمر سهلًا ميسرًا لما عانى الرسل والأنبياء من تكذيب قومهم وإيذائهم، ومع ذلك فإن التغيير قادم لا محالة عاجلًا أم آجلًا، وهذا هو وعد الله تعالى لعباده المؤمنين المتمسكين بكتابه. قَالَ الله تعالى:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاۚ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ النّور (55)

إذا كان تغيير الفكر صعبًا على مستوى الجماعات في الوقت الحالي فهنا يتعين على الأفراد الذين أدركوا الحقيقة أن يوصلوا ما علموا من الحق إلى كل من يمكنهم تبليغهم امتثالًا لقوله تعالى:

﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ ق (45)

وعليه أن يبدأ بالمقربين من ذوي العقول والألباب. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ:

﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ الشعراء (214)

ومتبعًا الأسلوب الأمثل:

﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل (125).

وأن يتحمل في سبيل ذلك كثيرًا من المشاق – كل على قدر استطاعته – كاتهامه بإنكار السنة والكفر والإلحاد، وهذا التحمل نوع من الجهاد امتثالًا لقوله تعالى:

 ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ (القرآن) ‌جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52] 

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ، فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ الحج (78)

وإذا تعذر عليه القيام بذلك فعليه بنفسه مصداقًا لقوله:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ المائدة (105)

*وللمزيد حول مسألة التعصيب ننصح بالاطلاع عل الفتوى ذات الصلة على الرابط التالي https://www.hablullah.com/?p=7098

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله  www.hablullah.com

الباحثة: شيماء أبو زيد

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.