حبل الله
المقصود بذكر الله تعالى وتسبيحه واستغفاره

المقصود بذكر الله تعالى وتسبيحه واستغفاره

السؤال:

فهمت من حضراتكم أن أحد معاني الذكر هو الاستحضار، فتعلمت أن ذكر الله هو استحضار وجوده عز وجل والانتباه لكل ما حلله وحرمه في كل أفعالنا وتعاملاتنا فنتقي الله تعالى.

أما ما نتلفظ به من ذكر عددي مجرد عن استحضار تلك المعاني ونحن نظلم فلانا ونغش فلانا ونتكبر على فلان، فهو لغو لا فائدة منه.

سؤالي هل الذكر والتسبيح مثلا مئة مرة إلخ هو من الأحاديث التي صحت عن نبينا بترديد الاستغفار مئة مرة وسبحان الله مئة مرة وأذكار الصباح والمساء لأن بعضها ينص على أن من قال كذا وكذا فله كذا وكذا من الحسنات، فهل من قال دون أن يطبق ينفعه ذلك القول. وإذا استغفر مئة مرة وهو لا يعترف بذنبه أصلا وقد يكرر الذنب لكنه يردد الاستغفار فهل ينفعه.

الجواب:

إن الذكر والتسبيح والاستغفار من المعاني القرآنية التي أسيء فهمها وساعد على ذلك ما روي حولها من الروايات المفتراة على الله تعالى ورسوله والتي تخالف الكتاب ليس في المعنى فقط وإنما في اللفظ كذلك.

فالروايات التي تحدثت عن الذكر والتسبيح ساوت بينهما في المعنى وجعلتهما بمعنى القول أو التلفظ، أي مجرد تمتمات على اللسان ورصدت لها الأجر العظيم وأدخلت صاحبها جنات النعيم بمئة لفظ وألف قول وما إلى ذلك، وهذا في الحقيقة قد أساء لمعنى الذكر والتسبيح، بل نستطيع القول بأنها استهانت بجلاله سبحانه عندما جعلت من اسمه تعالى مجرد تميمة وحصرته في أعداد بعيدة كل البعد عن خشيته سبحانه وتقواه.

وبما أن الكتاب تبيانٌ لكل شيء فقد بيَّن لنا سبحانه أن تلك الأقوال لا علاقة لها بحقيقة الاستغفار والذكر والتسبيح إلا إذا اقترنت بالقلب فتزكيه وبالجوارح فيعمل الصالحات وبالتوبة النصوح فيبتعد عما حرم الله تعالى وذلك بدليل قوله:

﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَاۚ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الفتح (11)

فهم يريدون استغفارًا من النبي الكريم لعلمهم بإخلاص قلبه، وظنوا أن الله تعالى سيتقبل استغفار النبي لهم، ولكنه تعالى هو أعلم بهم وقد نبأ رسوله عما في قلوبهم.

وتكرر الأمر في حادثة أخرى أراد النبي أن يستغفر لمن يلمزون المطوعين فكان الرد منه تعالى:

﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة (80)

إذًا فليست العبرة بما يتم التلفظ به ولا بعدده، وإنما بصدق القلب والإسراع في التوبة والإقلاع عن الذنب، والآيات في ذلك كثيرة نذكر منها:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ آل عمران (135)

﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ هود (90).

فالذكر هو استحضار وجود الله تعالى وتذكر تعاليمه المنزلة في كتبه في كل أقوالنا وأفعالنا، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعلا:

﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ يس (11)

﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ﴾ عبس (4)

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ الأعراف (201)

فهذا هو الذكر المنبثق من الكتب السماوية ومن آيات الكون العظيم. وقد أدرك هذا المعنى خليل الرحمن منذ صباه عندما نظر في الآيات الكونية من حوله وعلم أنها تذكره بوجود الخالق العظيم:

﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ، قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ، وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ الأنعام (80).

وإذا تذكر الإنسان واتبع الذكر قاده إلى معنى التسبيح الحقيقي كما أراده لنا رب العالمين، إذ أن التسبيح كذلك ليس مجرد قول باللسان خاليًا من السير على منهج الله تعالى وسننه سواء أكانت مقروءة (القرآن) أو مرئية (الكون)، والدليل على ذلك نجده في قوله تعالى:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ الإسراء (44)

فالله تعالى لم يقل (ولكن لا تسمعون تسبيحهم)! وإنما قال (تفقهون) ولو تفكرنا قليلًا لفقهنا معنى تسبيحهم!

فالتسبيح من الجذر اللغوي (سبح)، والذي يسبح في الماء فهو يسلم نفسه لنظامه ويسير فيه مراعيا طبيعته الفيزيائية، وإن سبح ضد نظامه فسوف يتعثر لا محالة، وقد يؤدي به إلى الغرق. وهكذا آيات الله الكونية من السماوات والأرض وما فيهن يسبح في ملكوته، أي يسير فيه تبعًا للنظام الذي أنشأه عليه خالقه. قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا:

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ الأنبياء (33).

وإذا طبقنا المعنى نفسه بالنسبة للإنسان المسبح لربه فلا نستطيع أن ندرك معنى التسبيح بقولنا: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة أو مئة مرة باللسان ونحن بعيدين كل البعد عن كتابه تعالى الذي حولناه هو الآخر إلى تمائم وكلمات وعدد حروف لحصد الحسنات بختمه في رمضان وفي غيره دون تدبر وتطبيق في الظاهر والباطن!!

ولكننا ندرك معنى التسبيح حين نسير على منهج الله تعالى في كل قول أو عمل أو حتى نظرة أو إيماءة كما تفعل الملائكة التي لا تعصي أمر ربها فاستحقت الثناء منه جل جلاله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ الأعراف (206)

وهذا خطابه تعالى لرسوله ونحن معه عندما كذبه قومه:

﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ الحجر (97: 99)

ولم يقل له قل (سبحان الله) مئات المرات!

ونجد المعنى نفسه في قصة النبي الكريم يونس فيظن البعض أن مجرد قوله: ﴿لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ قد أنجاه، ولكن المتدبر للآيات يدرك أنه عندما التقمه الحوت شعر بالندم وأدرك خطأه وسيره خلاف إرادة ربه:

﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء (87)

فسارع بالتوبة وأعلن أنه سوف يعود ليسبح بحمد ربه حسب المنهج الرباني الذي رسمه له ولن يخرج عنه وذلك بدليل قوله تعالى عنه:

﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ الصافات (143)

ولذلك فلن يعاقبه ربه بسبب خطأ واحد حتى ولو كان كبيرًا:

﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنبياء (88).

وختامًا:

من أراد أن يكون من المسبحين والمستغفرين والذاكرين فعليه أن يعود لمنبع الذكر ومصدره في كل صغيرة أو كبيرة في حياته وأن يخشع له بالقلب والجوارح، فالقرآن ليس كتاب البركات ونيل الحسنات وحسب، وإنما هو الذكرى  ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾  ق (37).

ورب العالمين يسألنا:

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الحديد (16)

فهل من مجيب قبل أن يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه الندم:

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾  الفرقان (27_29).

ولا عجب أن تختتم هذه الآيات بشكوى رسولنا فينا:

﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ الفرقان (30).

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله  www.hablullah.com

الباحثة: شيماء أبو زيد

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.