حبل الله
مصرف الغنائم والفيء

مصرف الغنائم والفيء

الباحث: د عبد الله القيسي

الغنائم هي ما يُؤخذ من مال الحربي قهراً عن طريق القتال، وقد جاءت آية تقسيم الغنائم في سورة الأنفال بعد السؤال الذي ذكرته أول السورة، وهو سؤال المؤمنين عنها وكيف تقسم:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:1].

فكانت الإجابة أن حكمها لله أولا يحكم فيها بما يريد، ثم للرسول يقسمها بينكم كما أمر الله، فأمرها مفوض إلى الله ورسوله، وكأن الآية تقرر أن هذا الأمر عائد إلى النبي في مقام ولاية الأمر، ثم ترشده الآية الأخرى لكيفية تقسيم تلك الغنائم:

﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنفال:41].

فتكون الآية قد خصت من الغنيمة خمساً ينفقه النبي في تلك الأقسام التي ذكرتها بما يراه مناسباً ويحقق المصلحة، بينما يذهب أربعة أخماس الغنيمة للجنود المقاتلين.

أما آية الفيء فجاءت تخاطب المقاتلين الذين حصلوا على غنيمة من دون قتال، ومن ثم فلن يحصلوا على أربعة أخماسها كما في الغنائم التي جاءت بعد قتال. وعليه فإن توزيع الفيء سيكون على أسس مختلفة، إذ سيحصل المقاتل على نصيب يحدده النبي في مقام ولاية الأمر (الإمامة) لا في مقام الرسالة، وقد حثته الآية أن يوزع جزءا من الفيء على من ذكرتهم الآية وعليهم أن يسلموا بما سيوزعه ويأخذوا ما أعطاهم منه ويتركوا ما نهاهم عنه:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.

فإذا قيل لمَ لم يذكر سهم المقاتلين في الآية، قلنا إن الأمر واضح لا يحتاج إلى ذكر مثلما لم يذكر أيضاً في آية الغنائم لأن الخطاب أساساً لهم بقرينة ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) وقرينة ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، والآية تبين فلسفة توزيع المال في الإسلام، وكانت كفيلة ببيان معنى آيتي الفيء والغنائم بدون تكلف.

وفي سياق آية الفيء نجد أن الآية تحاول تعويض المهاجرين -الذين تركوا ديارهم وأموالهم-من مالٍ لم يأت بدماء المقاتلين، وتحاول ترضية غير المهاجرين من مقاتلي وسكان المدينة المنورة (الأنصار)، بإضفاء بعض الأوصاف المدحية عليهم فكأنما تقول الآية: إن هذا الفيء للمسلمين جمعياً، إلا أن فقراء المهاجرين تحديداً أحق به، أما أنتم يا من تبوأتم (الدار والإيمان) فقد علم الله فيكم أنكم تؤثرون غيركم وتحبونهم ولا تجدون في صدوركم حاجة مما أوتي غيركم، وهذه صفات المفلحين.

وهذا المعنى لذي القربى يوافق روح الإسلام ومقاصده من العدل والمساواة بين أفراده وإعطاء كل ذي حق حقه، كما يدفع عن ديننا أي شبهة قد يستغلها أعداؤه بأنه يحابي أحداً بدون حق.

أما مصارف الخمس في الغنائم فقد اختلفت فيه المذاهب بعد موت النبي كالتالي:

المذاهب السنية:

  1. أبو حنيفة وكل أهل الرأي: سهم الرسول وسهم ذوي القربى سقط بموت النبي عليه السلام، والثلاثة الأسهم الباقية يوزعها ولي الأمر على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
  2. مالك والحسن البصري والثوري: يرجع الخمس في الغنائم لولي الأمر يصرفه في مصالح المسلمين.
  3. الشافعي: يقسم خمس الغنائم لخمسة أقسام كالتالي: سهم الله ورسوله لمصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى لبني هاشم فقيرهم وغنيهم، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل من جميع المسلمين.

وأما مصارف الفيء فاختلف فيها على رأيين:

الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعي في القديم وأحمد في رواية إلى أن الفيء لا يخمس، وأنه يوضع في بيت مال المسلمين، ويصرف في مصالحهم العامة[1].

الثاني: وذهب الشافعي في الجديد ورواية عن أحمد إلى أن الفيء يخمس كما الغنائم[2].

قال ابن المنذر: ولا تحفظ عن أحد قبل الشافعي في الفيء خمس، كخمس الغنيمة[3]. وقال ابن رشد: “وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي”[4].

فالخمس عند الشافعية يذهب لأصحاب خمس الغنيمة وقد تقدم بيانهم، والأربعة الأخماس المتبقية تذهب للأجناد المرصدين للجهاد[5].

المذاهب الشيعية:

أما المذاهب الشيعية فالفيء والغنيمة عندهم سواء وتقسيمها كالتالي:

  1. الإمامية: يوزعون الخمس وما ألحقوه بالخمس كالتالي: سهم الله وسهم رسوله وسهم ذي القربى تفوض للإمام من آل البيت، وسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل على بني هاشم فقرائهم وأيتامهم[6].
  2. الزيدية الهادوية: يوزعون الخمس وما ألحقوه بالخمس كالتالي: سهم الله لمصالح المسلمين، وسهم الرسول للإمام من آل البيت، وسهم ذوي القربى لبني هاشم فقيرهم وغنيهم، وسهم اليتامي والمساكين وابن السبيل يصرف للهاشميين ممن انطبق عليه ذلك فإذا لم يوجد هاشمي يصرف لغير الهاشمي[7].

ونلاحظ من خلال المقارنة بين تلك المذاهب الآتي:

–    أن جمهور المذاهب السنية لم يحتسب سهماً خاصاً لبني هاشم، واعتبروا أن لفظ ذي القربى لا يشمل ذرية بني هاشم وإنما هو خاص بمن كان في زمن النبي وسقط بموته، ففرق بين معنى ذوي القربى وبين الذرية، واعتبروا تصريف الخمس عائد على ولاة أمر المسلمين، ويستدلون بما عمله أبو بكر وعمر فقد وزعوه على مصالح المسلمين ولم يخصوا بني هاشم بسهم خاص وإنما هم كبقية المؤمنين.

–    أن الإمام الشافعي هو الوحيد الذي أقر بخمس الخمس لبني هاشم في تأويل لا تحتمله الآية، مما أوقعه في تناقضات وإشكالات كثيرة، منها: أنه لم يفرق بين الذرية والأقارب رغم اختلافها لغة وشرعا. وأنه جعل السهم بين فقير قرابة النبي وغنيهم بشكل متساو، وهذا يخالف مقاصد الإسلام في توزيع المال وتقريب الهوة بين الفقراء والأغنياء، ويخالف ما قالوه من أنها بديل عن تحريم الصدقة عليهم، فإن قلنا إنها تعويض للفقير فكيف تكون للغني!! ومنها أنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين في ذلك السهم، قياساً على الميراث، رغم الفارق بين الميراث والغنيمة.

– أن المذهبين الشيعيين ذهبا بأكثر من نصف الخمس لبني هاشم، ولم يكتفوا بالغنيمة والفيء فقط وإنما أدخلوا فيها ستة أصناف أخرى ليست من أموال الكفار المحاربين وإنما من أموال المؤمنين.

فتحدث المذهب الإمامي عن سبعة أصناف يؤخذ منها الخمس ويصرف كما ذكرت سابقاً وهي:

  1. الغنائم المأخوذة في الحرب.
  2. ما خرج من الأرض من معادن، ذهب فضة رصاص، بترول غاز ..الخ.
  3. الركاز، وهو كل مال مدفون تحت الأرض.
  4. ما يخرج من البحر، كاللؤلؤ والمرجان.
  5. الذمي الذي اشترى أرضاً من مسلم يجب عليه دفع خمسها.
  6. كل ما يزيد عن حاجة الإنسان، تجارة وصناعة ووظيفة وعمل يومي، أملاك، هدايا.
  7. المال الذي اختلط فيه الحلال بالحرام. اختلاس وسرقة[8].

أما المذهب الزيدي الهادوي فتحدث عن سبعة أصناف يؤخذ منها الخمس:

1)  غنائم الحرب

2)  صيد البر والبحر

3)  ما استخرج من البر والبحر، معادن وذهب وفضة وزيت وغاز ونفط ..الخ.

4)  الركاز

5)  الخراج

6)  مال المعاملة

7)  ما يؤخذ من أهل الذمة[9].

وإدراج هذه الأصناف ضمن الغنائم مغالطة واضحة وقياس لا يصح، لأن الغنائم مأخوذة من حربي وتلك من أموال الناس، والهدف من توسيع مفهوم الغنيمة هو توسيع الثروة لسهم بني هاشم، وهذا يتصادم مع مقصد الآية التي جاءت في سياق الفيء ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ [الحشر:7]. إذ سيجعل المال دُولة في فئة الهاشميين، وهذا ما يتصادم مع مبدأ الإسلام في المساواة للناس جميعاً.

أما المذاهب السنية التي تحدثت عن زكاة الركاز بأنه الخمس فلم تخصص منه سهماً لبني هاشم وإنما جعلته في مصالح المسلمين العامة أو في مصارف الزكاة الثمانية.

مصرف خمس الركاز بحسب المذاهب السنية:

1- الأحناف والمالكية: يخمس ويصرف في مصرف الغنيمة، أي مصالح المسلمين.

2- الشافعية: يخمس ويصرف في مصارف الزكاة الثمانية.

3- الحنابلة: يخمس، وفي مصرفه لأحمد روايتان:

الأولى: يصرف في مصارف الزكاة، وهي المصارف الثمانية، وهي الأقرب لمذهب أحمد، والثانية: يصرف في مصارف الفيء، وظاهر مذهبه في الفيء أنه يصرف في مصالح المسلمين[10].

وكذلك المعادن وهي كل ما في باطن الأرض وظاهرها من معدن سواء كان جامداً أو سائلاً، ويدخل فيه الذهب والفضة والرصاص والغاز والنفط وغيره، لم تجعل المذاهب السنية فيه سهماً خاصاً لبني هاشم، واختلفوا في زكاته بين ربع العشر وبين الخمس كالتالي:

زكاة المعادن ومصرفها في المذاهب السنية:

1- مالك والشافعي وأحمد: زكاة المعادن ربع العشر، ويصرف في مصارف الزكاة.

2- أبو حنيفة: زكاة المعادن الخمس، ويصرف في مصالح المسلمين[11].

وهنا نلاحظ إن وهم التشابه في مصطلح الخمس والقول بإجماع بين المذاهب مغالطة واضحة، ففرق بين المذاهب السنية التي تتحدث عن زكاة في الركاز والمعادن تذهب لمصالح المسلمين ومصارف الزكاة الثمانية، ومن يتحدث عن خمس في الركاز والمعادن وكل ما في ظاهر البر والبحر وباطنه من سائل وجامد ليذهب أكثر من نصف الخمس لبني هاشم، أي ما يعادل 10% وأكثر بحسب تقسيمهم.

أما المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه، فقالت المذاهب السنية كلها لا زكاة فيه، ولا زكاة في صيد السمك، عدا ما قاله أبو يوسف من الحنفية، فقال: في اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر خمس، ويصرف في مصالح الناس[12].

وقال ابن قدامة: “وأما السمك فلا شيء فيه بحال، في قول أهل العلم كافة، إلا شيء يروى عن عمر بن عبد العزيز. رواه أبو عبيد عنه. وقال: ليس الناس على هذا، ولا نعلم أحدا يعمل به. وقد روي ذلك عن أحمد أيضا. والصحيح أن هذا لا شيء فيه؛ لأنه صيد، فلم يجب فيه زكاة كصيد البر، ولأنه لا نص ولا إجماع على الوجوب فيه، ولا يصح قياسه على ما فيه الزكاة، فلا وجه لإيجابها فيه”[13].

وقال الشوكاني تعليقاً على رأي الزيدية: “اعلم أن هذه الشريعة المطهرة وردت بعصمة أموال العباد، وأنه لا يحل شيء منها إلا بطيبة من أنفسهم، وأن خلاف ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وقد ثبت في الكتاب والسنة أن الله سبحانه أحل لعباده صيد البر والبحر، فما صادوه منهما فهو حلال لهم، داخل في أملاكهم كسائر ما أحل الله لهم، فمن زعم أن عليهم في هذا الصيد الحلال خمسة أو أقل أو أكثر لم يقبل منه ذلك، إلا بدليل يصلح لتخصيص الأدلة القاضية بعصمة أموال الناس، وينقل عن الأصل المعلوم بالضرورة الشرعية، ولم يكن ها هنا دليل قط، بل إيجاب ذلك سببه توهم دخول الصيد تحت عموم قوله تعالي: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]، وهو توهم فاسد وتخيل مختل”[14].

وأما الخراج والجزية وما يؤخذ من مال الذمي فقالوا تصرف في مصارف الفيء، ومصارف الفيء كما عند الفقهاء جميعاً تصرف في مصالح المسلمين، ولم يقل بتخميسها أحد قبل الشافعي كما قال ابن المنذر.

وأنا هنا لا أدافع عن منظومة الفقه السني، ولي ملاحظات عدة على تفصيلات كثيرة، ولكني هنا أبين الفوارق المهمة التي تزيل الالتباس والتدليس من ادعاء إجماع المذاهب السنية والشيعية على الخُمس دون بيان اختلافاتها ودون تفريق بين مصارفها وهو الأهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر الموسوعة الفقهية 11/59.

[2] انظر الموسوعة الفقهية 32/232.

[3] المغني (6/455).

[4] بداية المجتهد (2/165).

[5] انظر الموسوعة الفقهية 11/59.

[6] الفقه على المذاهب الخمسة لمحمد جواد مغنية (1/297).

[7] التاج المذهب لأحكام المذهب (1/229-230). البحر الزخار 16/236.

[8] الفقه على المذاهب الخمسة لمحمد جواد مغنية (1/294).

[9] التاج المذهب لأحكام المذهب (1/227).

[10] انظر الموسوعة الفقهية 23/108. 32/232. 35/151.

[11] انظر الموسوعة الفقهية 23/98-99. 38/197.

[12] الاستذكار (3/154).

[13] المغني (3/56).

[14] السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ص 270.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.