الباحث: د. عبدالله القيسي
يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة: 6].
هذه الآية بينت ببساطة ما يعمله المؤمن إذا أراد أن يقوم للصلاة طاهراً، إذ عليه أن يغسل وجهه ويديه إلى المرافق وأن يمسح رأسه، ويغسل رجليه إلى الكعبين عطفاً على غسل الأيدي وبعضهم رأى المسح للرجلين عطفا على مسح الرأس، وربما كانت حكمة الله أن نستخدم ما كان ميسرا لنا في حضرنا وسفرنا وصحتنا ومرضنا، فنختار الرأي المشهور بالغسل في الأوقات الطبيعية ونختار الرأي الآخر في الأوقات الاستثنائية، والتخيير بين الغسل والمسح رأي منسوب لابن جرير الطبري[1].
وإذا تأملنا في الآية سنجد أنها تلخص لنا نواقض الطهارة تلك في شيئين فقط، بينما أغرقتنا كتب الفقه في مئات من الصفحات التي تتكلم عن الوضوء ونواقضه، حتى تضخمت بما لا حاجة إليه، ونواقض الطهارة في الآية كالتالي[2]:
جاء أحد منكم من الغائط: وأصل الغائط ما انخفض من الأرض وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه[3]. ويدخل في ذلك كل ما يخرج من السبيلين من بول وبراز ورائحة.
أو لامستم النساء: واللمس هنا كناية عن الجماع ويدخل فيه ما خرج من مني ومذي وودي.
هذه هي نواقض الوضوء المتفق عليها، وكل ما عداها مختلف فيه أو عائد إليها، فمن تكلموا عن الإغماء أو النوم العميق أو غيره كأحد نواقض الطهارة فبسبب احتمال ما قد يخرج من رائحة من النائم أو المغمى عليه دون علمه، فالمسألة عائدة للآية نفسها ولذا ألزموه الطهارة.
الآية 6 من سورة التوبة التي صدرنا بها هذه المقالة تتكلم عن رخصة مهمة لست أدري كيف غفل عنها المفسرون رغم وضوحها. حاولت البحث عن أسباب ذلك فلم أجد إلا المشكلة التي استشرت في كتب التفاسير، وهي الدخول على القرآن بعد تكوين المذهب، ليصير القرآن تابعا لرؤية المذهب لا العكس. ولست أدري لماذا عد المفسرون هذه الآية من المعضلات والمشكلات؟ هل لأنها لم تطابق مذاهبهم في عدم جواز التيمم للسفر؟ أم لأنها خالفت رواياتهم؟ وقد وجدت الإجابة لدى العلامة رشيد رضا حيث يقول: “والله إن الآية ليست معضلة ولا مشكلة، وليس في القرآن معضلات إلا عند المفتونين بالروايات والاصطلاحات، وعند من اتخذوا المذاهب المحدثة بعد القرآن أصولا للدين يعرضون القرآن عليها عرضا، فإذا وافقها بغير تكلف أو بتكلف قليل فرحوا وإلا عدوها من المشكلات والمعضلات[4]“.
قد يقول قائل: هذا مخالف للمذاهب كلها، وهل يخفي معناها على الفقهاء الكبار؟! أقول: لقد وضعتمونا في موقف بين خيارين، إما رد هذا المعنى الواضح والطعن في بلاغة القرآن وبيانه، أو تجويز الخطأ على الفقهاء، وأعتقد أننا نتفق أن الثانية أهون. ومما يطمئن القلب أني بعد تأملي لهذه الآية وجدت الأستاذين محمد عبده ورشيد رضا قد ذكرا ذلك في تفسير المنار.
خلاصة معنى الآية:
يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأنتم على غير طهارة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم مع المرافق (والمِرْفَق: المِفْصَل الذي بين الذراع والعَضُد) وامسحوا رؤوسكم، واغسلوا أرجلكم مع الكعبين (وهما: العظمان البارزان عند ملتقى الساق بالقدم).
وإن أصابكم الحدث الأكبر فتطهروا بالاغتسال منه قبل الصلاة.
- فإن كنتم مرضى.
- أو كنتم على سفر، (ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل).
- أو فقد الماء في الحضر عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين (الصغرى أو الكبرى) وما ينقض هذه الطهارة أحد شيئين:
1) أن يأتي أحدكم الغائط ليقضى حاجته (ولفظ الغائط يشمل كل ما خرج من السبيلين من بول وبراز وريح، فإحدى هذه ناقضة للوضوء).
2) أو جامع أحدكم زوجته (يشمل المني والمذي والودي ومجرد الجماع دون إنزال). وكل ما جاء من نواقض للوضوء فمختلف فيه والراجح عدم دخولها، إلا النوم العميق فإنه مظنة خروج ريح دون معرفة الرجل فتلحق بالسبب الأول.
(فتيمموا) فاضربوا بأيديكم وجه الأرض، وامسحوا وجوهكم وأيديكم منه.
ما يريد الله في أمر الطهارة أن يُضَيِّق عليكم، بل أباح التيمم توسعةً عليكم، ورحمة بكم، إذ جعله بديلا للماء في الطهارة، فكانت رخصة التيمُّم من تمام النعم التي تقتضي شكر المنعم; بطاعته فيما أمر وفيما نهى.
- وخلاصة المعنى أن التيمم يجوز في ثلاثة أحوال: المرض أو السفر أو فقد الماء في الحضر عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين.
الأدلة:
- هذا المعنى موافق للسياق القرآني الذي يجعل رفع الحرج والعسر مداراً للرخص، فالسفر مظنة المشقة، يشق فيه غالباً كل ما يؤتى في الحضر بسهولة، ولذا رخص للمسافر قصر الصلاة وترك الصيام، وهذه الرخصة الصريحة أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر، أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء، وأن الصلاة كاملة دون قصر أقل مشقة من ذلك؟
- كما أن هذا المعنى تؤيده اللغة: فقواعد اللغة تجعل التقييد في مثل هذه الآيات إما عائدا على الجميع وإما عائدا على أقرب مذكور، نلاحظ هنا أنهم لم يعملوا إحدى القاعدتين، لأنهم إن أعادوه على الجميع فسيدخل التقييد للمرضى، وهذا لا يصح، لأن المرض عذر قائم بذاته، واشتراط فقد الماء في حق المرضى لا فائدة له، لأن الأصحاء مثلهم فيه، فيكون ذكرهم لغوا يتنزه عنه القرآن، وكذلك المسافرين، فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم باتفاق، فلولا أن السفر سبب للرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة، أما ما عللوه فهو ضعيف ومتكلف. وأما عودة التقييد على عبارة (أو لامستم النساء) فلا تحتمله اللغة لأنه سيجعل من يأت الغائط حتى لو وجد الماء يحق له التيمم، وهذا مخالف للمنطق واللغة والكل متفق عليه. إذن لا يصح أن يكون تقييد فقد الماء إلا لمن فقد الطهارة بإحدى الناقضين لها.
- أما ما يستدلون به من سبب النزول (أنهم كانوا في سفر ولم يكونوا بجوار ماء) فلا يعارض هذا المعنى، وسبب النزول لا يغير مدلول الآية، بدليل أن الآية قد شملت المرضى ولا ذكر لهم في واقعة سبب النزول، فلا يوجد مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده، وليس فيها دليل أن كل الجيش كان فاقدا للماء، ولا أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل التيمم لفاقدي الماء دون غيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر تفسير ابن عاشور ج4ص154.[2] لمن أراد المزيد حول الآية انظر “رخصة غابت قرون، التيمم في السفر” من هذا الكتاب.