حبل الله
يعملون السوء بجهالة

يعملون السوء بجهالة

الباحث: د. عبدالله القيسي

يقول الله تعالى:

﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [النساء:17-18].

ما هي الجهالة التي حصر الله سبحانه التوبة لأصحابها؟

ذكر المفسرون ثلاثة أوجه في تفسير الجهالة:

الوجه الأول: كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة.

الوجه الثاني: أن يأتي الإنسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه، وقد علمنا أن الإنسان إذا أقدم على ما لا ينبغي، مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات، فإنه يصح أن يقال على سبيل المجاز: إنه جاهل بفعله.

الوجه الثالث: أن يكون المراد منه أن يأتي الإنسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونها معصية، لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونها معصية، فإنه على هذا التقدير يستحق العقاب[1].

نقد هذه التفاسير:

نقد الوجه الأول: إذا كان كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة، فلم جاء الحصر بـ (إنما)، والمعروف أن الحصر فيه استثناء، فمن هم الذين استثنوا في هذه الآية وقد أدخلتم كل العاصين، ألا يخالف هذا قواعد اللغة الأساسية؟

نقد الوجه الثاني: يقول أن الجهالة ليست في الفعل وإنما في عاقبته، نقول: هل كل العاصين يعرفون عاقبة معاصيهم أم لا، فإن قالوا نعم فقد وقعوا فيما وقع فيه أصحاب الوجه الأول من إلغائهم لاستثناء الحصر، وإن قالوا إن هناك فريقا يعرف وفريقا لا يعرف، فكيف سيكون حال من يعرف عاقبة ذنبه، هل نخرجه من دائرة قبول التوبة؟ لم يقل بهذا أحد، وعموم الآيات التي تتحدث عن التوبة تفتح المجال للجميع للتوبة، حتى لو وصلوا إلى مرحلة الإسراف في الذنوب:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزمر:53].

ومما ينتقد على الوجهين الأولين أنهما حملا لفظ الجهالة على المجاز، وحمل اللفظ على الحقيقة أولى، ما لم توجد قرينة تصرفه إلى المجاز.

نقد الوجه الثالث: مع أنه حمل اللفظ على الحقيقة فهو أقرب من سابقيه، إلا أنه ينتقد على هذا الوجه أنه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل السوء وهو لا يعلم أنه سوء، وهذا يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوءاً ألا تكون توبته مقبولة، وذلك باطل بالإجماع، ومخالف للآيات التي تتحدث عن التوبة وتفتح المجال للجميع للتوبة كالآية السابقة.

وقد حاول أصحاب الوجه الثالث سد هذه الفجوة بطريق القياس، وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة، فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى، وهذا يجعلنا نعود إلى المشكلة الأولى: إذا كان المتعمد والجاهل مقبول توبتهما فلمن الاستثناء إذن؟ ولماذا الحصر (إنما) ولماذا ذكر الجهالة؟ وهذا يجعلنا أيضاً نستبعد المعنى الثالث كسابقيه.

المعنى القريب:

الجهالة هنا هي جهالة الموت، فالتوبة مفتوحة لكل عاصٍ لم يعرف متى يأتيه الموت، وكل الناس لا يعرفون متى سيأتيهم الموت فهم في جهالة، إلا فريق واحد ليس في جهالة، وهم أولئك الذين حضرهم الموت فهم في سكراته وأيقنوا أنهم ذاهبون، ويحاولون في تلك اللحظة أن يتوبوا ولكن لا تنفعهم توبتهم، كما ذكر الله تعالى عن فرعون.

ما يؤيد هذا المعنى:

  • يوافق السياق القرآني لقبول التوبة من جميع العصاة.
  • لا يخالف قواعد اللغة، فهناك استثناء لفئة لا يدخلها عموم قبول التوبة.
  • يوافق سياق الآية التي بعدها والتي ترتبط بها تماماً، وبمقارنة بسيطة بينهما نعرف ذلك.

فالآية الأولى تقول (إنما التوبة) والثانية تأتي بالعكس (وليست التوبة).

والآية الأولى تقول لمن التوبة:

﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾

والثانية تذكر من لا يستحق التوبة وهم:

﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾

فجاء مقابل الجهالة عبارة (حضر أحدهم الموت)، فعرفنا بالمقابلة أن الجهالة هي لمن لم يحضره الموت، لأن من حضره الموت لا يستطيع أن يعمل الذنب أصلاً فلا تقبل توبته، أما من لم يحضره فلديه القدرة على الذنب، فإن تاب ولديه القدرة على الذنب قبلت توبته.

أو كما قال الرازي: ” المانع من قبول التوبة أن الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال، ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه، ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب، لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار، لا تكون مقبولة”[2].

  • ومما يؤيد هذا المعنى للآية هو الشرط الثاني لقبول التوبة بعد الجهالة وهو قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾، وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب هو حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، فهم يتوبون قبل قرب حضور الموت وهذا آخر وقت لهم للتوبة، وهذا يبين أن الجهالة هي جهالة حضور الموت.
  • وأما معنى (من) في قوله: ﴿مِن قَرِيبٍ﴾ فقد ذكروا فيها معنيين والراجح الذي يوافق السياق: أنها للتبعيض: أي يتوبون بعض زمان قريب، كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد.
  • أما المعنى الآخر وهو أنها لابتداء الغاية، أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية، فهو مخالف للآيات التي تفتح باب التوبة حتى حضور الموت، وهي كثيرة في القرآن، فلو أن الإنسان تاب من معصية عملها قبل سنين فإن باب التوبة مفتوح.
  • وقبول التوبة ورفضها في الدنيا تشمل توبة المسلم العاصي والكافر، فمن تاب منهم قبل حضور الموت قبلت توبته، والآية واضحة في توبة المسلم العاصي، أما أن الآية تشمل أيضاً توبة الكافر حين حضور الموت فقرينته قوله تعالى:

﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر:85]،

وقال عن فرعون:

﴿حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين﴾ [يونس:90، 91].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر التفسير الكبير للرازي ج10ص5.

[2] انظر التفسير الكبير للرازي ج10ص9.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.