حبل الله
الكفر والتكفير

الكفر والتكفير

الباحث: د. عبد الله القيسي

الكفر في اللغة مصدر الفعل كفر، يقال كفر يكفر كفراً وكفراناً، ومعنى كفر: ستر وغطى، قال ابن فارس: “الكاف والفاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية”( )، يقال كفر الشيء كفراً؛ أي غطاه وستره، ويقال كفر الزارع البذور بالتراب؛ أي غطاها وسترها، فهو كافر، وكفر التراب ما تحته؛ أي غطاه، وكفر الليل الأشياء بظلامه؛ أي غطاها وسترها، وكفر الدرع بالثوب؛ أي غطاه بثوبه، وكفر نعمة الله؛ أي جحدها وسترها، ومنه سمّيت الكفارات بهذا الاسم؛ لأنها تكفّر الذنوب؛ أي تسترها؛ مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وغير ذلك.

واستعمل الكفر في القرآن فيمن يغطي على الحق ويجحده، فجاء مقابلاً للإيمان، أي عدم الإيمان بالله، ورسالته. فالكافر: هو مَن يغطي على الحق ولا يؤمن به.

وعلى هذا التعريف فإن أصناف الناس ستكون ثلاثة لا اثنان، فالصنف الأول: مَن آمن بالرسالة وهم المسلمون، والصنف الثاني: من كفر بالرسالة وهم الكفار، والصنف الثالث: من لم تصلهم الرسالة أو وصلتهم غير مبينة (مُشوّهة)، وهؤلاء لا يمكن أنْ نُطلقَ عليهم كفارًا ولا مسلمين وأقرب لفظ ينطبق عليهم أنهم (غير مسلمين)، وهناك فرق بين الفريق الثاني والثالث سيأتي بيانُه.

أما الأول وهم المسلمون، فالجميع يعرفهم، وإن كان مصطلحُ الإسلام يحتاج لمزيد دراسة بعد أنْ ضيَّقه القوم، ولذا سأكتفي هنا بالوقوف على أسباب الكفر في القرآن ليتضح من خلاله الإسلام، (فبضدها تُعرف الأشياءُ) كما يقال، والمُتأمِّل في آياتِ القرآن الكريم التي تتحدث عن أسباب الكفر سيجد أنَّ القرآنَ أطلق لفظَ الكافر على فريقين:

الفريق الأول: من وصله البلاغُ المبين ثم لم يؤمن به رغم معرفته بأنه الحق، إما عنادًا أو خوفًا أو طمعًا، وهذا ينطبق على فرعون وملائه الذين قال الله تعالى فيهم:

﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:14]،

وهو ينطبق كذلك على فريق من أهل الكتاب ذكرهم في آية أخرى فقال تعالى:

﴿وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:89]،

وقال تعالى:

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:146].

الفريق الثاني: مَن عُرضَ عليه البلاغُ المبين فأعرضَ عن استماع الحق واستكبر إما عنادًا أو خوفًا أو طمعًا، وهذا ينطبق على فريق آخر من المشركين ومن أهل الكتاب وينطبق عليهم قوله تعالى:

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت:26]، وقوله:

﴿إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ * وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال:22-23]

وقوله تعالى:

﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا، وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً، وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146].

وربما كان وصف “المغضوب عليهم” في القرآن منطبقاً على الفريق الأول، ووصف “الضالَّين” منطبقاً على الثاني.. ونفهم من السياق القرآني أن هؤلاء صنفين: صنف محارب، وصنف غير محارب، وكل صنف له طريقة في التعامل.

أما الفريق الثالث: فهم الذين يمكن تسميتهم (غير المسلمين) لأنه الوصف الأنسب لهم، فإنهم أيضًا ينقسمون لعدة فئات:

الفئة الأولى: الذين لم يصلهم البلاغُ المبين ولم تصلهم الرسالاتُ فلم يعرفوا الحقَ، ولو أدخلنا هؤلاء ضمن الكافر لخالفنا أسباب الكفر في القرآن، فاللفظ لا ينطبق عليهم، لأنهم لم يكفروا بشيء، فلا رسالة عندهم كي يكفروا بها ولا تنصرف إليهم آيات الكفر في القرآن، لكنهم يدخلون في قوله تعالى:

﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:15].

والفئة الثانية: هم الذين وصلتهم الرسالةُ ولكنها كانت ناقصة أو مشوهة فلم تكن بينة واضحة، وهؤلاء لا نستطيع أيضًا أنْ نُطلقَ عليهم لفظَ الكفار بحسب تعريف الكفر السابق، إذ أنهم لم يرفضوا الرسالةَ الصحيحةَ بل رفضوا النسخةَ المزورةَ منها والمشوهة، ولذا كان وصف (غير المسلمين) عليهم دقيقًا.

وهناك فئة أخرى لم أعرف تمامًا في أي خانة يمكن أنْ نضيفَها هل إلى فريق الكفر أم فريق غير المسلمين، إذ فيها من هذا وذاك، وهذه الفئة هم الذين وصلهم البلاغُ المبين ووصلتهم الرسالةُ ولكنهم لم يؤمنوا بها لعدم اقتناعهم بها أو ببعض مفرداتها أو كان عندهم أسئلة لم يجدوا إجابةً لها فظلوا يبحثون عن الحق، وهؤلاء بحاجةٍ إلى مزيدِ تأمل لمعرفة مدى تحقق سبب الكفر فيهم وهل هُم أقربُ إلى الفئة الأولى أم إلى الفئة الثانية، وإنْ كنتُ أرى أنَّ قربَهم للفئة الثانية أولى كون أسباب الكفر لم تنطبق عليهم، ورجَّح ذلك الشيخ محمود شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة.

يقول الشيخ محمود شلتوت تحت عنوان: الحد الفاصل بين الإسلام والكفر ما نصه:

“من لم يؤمن بوجود الله، أو لم يؤمن بوحدانيته وتنزهه عن المشابهة والحلول والاتحاد.. واستباح عبادة مخلوق ما من المخلوقات.. لا يكون مسلما، ولا تجرى عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم بعضهم وبعض، وليس معنى هذا أن من لم يؤمن بشىء من ذلك يكون كافرا عند الله، يخلد فى النار، وإنما معناه أنه لا تجرى عليه فى الدنيا أحكام الإسلام.. أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشىء منها ــ بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادا واستكبارا، أو طمعا فى مال زائل أو جاه زائف، أو خوفا من لوم فاسد،

فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها. وظل ينظر ويفكر طلبا للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود في النار عند الله.

من هنا كانت الشعوب النائية التي لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم في بحثها، بمنجاة من العقاب الأخروي للكافرين، ولا يطلق عليهم اسم الكفر؛ إذ الشرك الذي جاء في القرآن أن الله لا يغفره، هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار، الذي قال الله في أصحابه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:14][1].

وهذا نص مهم للشيخ شلتوت حيث قسمهم إلى ثلاثة أصناف في بلوغ الدعوة إليهم:

الأول: من لم تبلغه الدعوة.

الثاني: بلغته الدعوة بصورة منفرة.

الثالث: بلغته بصورة صحيحة وهؤلاء قسمين:

  1. من غير أهل النظر.
  2. من أهل النظر، وهؤلاء قسمان:
  • من ظل ينظر ويفكر طلبا للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره.
  • من بلغته بوجهها الصحيح واقتنع بها ثم رفض عنادا واستكبارا أو خوفاً وطمعاً.

ولم يصبغ صفة الكفر إلا على الفريق الأخير فقط.

ولعل ما ذهب إليه الشيخ شلتوت كان استناداً لرؤية فريق من المعتزلة في هذا الباب، إذ هناك نص منسوب للجاحظ يقارب هذه الرؤية، ولعله ليس فقط رأياً للجاحظ وإنما قد يكون معبراً عن رأي فريق من المعتزلة في هذه المسألة، يقول الغزالي:”ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معانداً على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور. وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفاً من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة”([2]).

أما الشق الآخر من هذا المبحث وهي مسألة التكفير للأفراد بعينهم، فبرغم خطرها وخطر ما يترتب عليها إلا أنَّ الكثيرَ يتساهل فيها وفي تحرير ضوابطها، بل نصّب كثيرٌ من الدعاة أنفسَهم قضاةً ليحكموا على الناس، ونسوا أنهم دعاةٌ لا قضاة، وإن قلت لهم أنتم يا قوم تدخلون في تخصص الإله بذلك العمل، يجيبوك بأنَّ القرآنَ قد أطلق الكفرَ على نفرٍ من الناس، فنحن نمارسُ ما مارسه القرآنُ، فلهؤلاء نقول: مهلاً، فإطلاق الله سبحانه وصف الكفر على نفرٍ من الناس لا يعني أن من واجبنا أنْ نقومَ بذلك، لأننا إذا أردنا أنْ نقومَ بذلك فإن علينا أنْ نمتلكَ صفات الإله، وأهم صفة تخوِّلنا لذلك هي العلم في السرائر والنوايا، فهل نستطيع أنْ نعلمَ بما في قلوب الناس، وأنْ نكشفَ عن درجةِ إيمانهم من كفرهم ومن نفاقهم؟ إن كانت لكم القدرة فاستمروا، وإن لم تكن لكم القدرة فاعلموا أنكم تدخلون في شرك من نوع جديد إذ نصبتم أنفسَكم مكان الله تعالى لتحكموا على الناس.

والمستعرض لتاريخ التكفير في تراثنا سيجد أننا جنينا الويلات من وراء ذلك، فكل فرقة استخدمته ضد خصومها، بل واستُخدِم ضد كل مجتهد ومُجدد دافعَ ونافحَ عن الإسلامِ ثم ماتَ وفي قلبه غصة، فبعض الأسماء التي نتغنى بها اليوم أنها جددت في الفكرِ كانت ممن كُفِّرت من بعض فقهاء التقليد في زمنها.

إن على المسلم أنْ يكتفيَ بدور الداعية إلى الحق، المبلغ للرسالة على أكمل وجه:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ‌مِمَّنْ ‌دَعَا ‌إِلَى ‌اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] 

فيجعل من نفسِه داعية لقيم الدين لا قاضيًا يحكم بكفرِ هذا أو ذاك، كما أن عليه أن لا يوزع صكوك الجنة أو النار على من حوله، وليدع ذلك لله يفصل بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج:17].

وحتى لا نكون كالذين وصفهم الله بأنهم (لا يعلمون):

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [البقرة:113].

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الإسلام عقيدة وشريعة ص 19-20.

([2]) المستصفى ص 349.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.