حبل الله
حرية الاختيار في الدين

حرية الاختيار في الدين

الباحث: د. عبد الله القيسي

حرية الاختيار هي الفكرة المركزية في الدين، فعلى أساسها كلف الله الإنسان بعمارة الأرض، وعلى أساسها دخل الإنسان اختبار الدنيا لينال النتيجة في الآخرة، وهي الميزة الأساسية التي تميز الإنسان في هذا الكون.. لقد كانت لحظة فارقة مهمة حين تحمل الإنسان هذه الأمانة على عاتقه بعد أن أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها، ذلك لأنها ليست حرية تنتهي إلى العدم، وإنما هي حرية مسؤولة، يسأل عنها بعد اجتيازه لهذه الحياة الدنيا إلى الآخرة، فيسأل عن حرية الاختيار التي مُنحت له، هل سلك بها طريق الحق والخير أم سلك بها طريق الباطل والشر؟ ذلك السؤال المهول هو سر ذلك الإشفاق من المخلوقات ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72].

إن الأمانة التي عنتها الآية هي تلك الحرية المسؤولة، وهي حرية ليست مفتوحة على مصراعيها وإنما هي مسؤولة ولها شقان في السؤال: أما أفعال الخير والشر وهي السلوكيات التي يشترك فيها مع الناس ويمكن أن يصيب شرها الناس والمجتمع فإن لها سؤالين: سؤال في الدنيا يسأله المجتمع والقضاء، وسؤال في الآخرة يسأله الله ويحاسبه عن الخير والشر؟ أما اعتقاد الحق أو الباطل أو الأفعال التي لا تؤذي أحدا فإن سؤالها في الآخرة فقط من قبل الله سبحانه.

في ضوء آية الأمانة فإن الإكراه على فكرة ما يعني الوقوف أمام قضية الحرية التي على أساسها ستحاسب في الآخرة، فإن حدث الإكراه سقط الحساب، ومن سيقوم بالإكراه فإنه يقف في طريق الله الذي منحك الحرية ليسألك ويحاسبك، وستكون المصيبة أعظم إذا كان أولئك الذي يقفون ضد الحرية يدّعون ذلك باسم الله، إنهم ربما لا يعرفون أنهم قطاع طرق، يقطعون الطريق إلى الله..

ليس من الحكمة إكراه أي إنسان على فكرة ما لأنه في المقابل سيكرس ويؤكد فرض الأفكار عليه وتغيير مذهبه، ومن يعتقد أنه على الحق المبين فيبرر لنفسه الإكراه، ينسى أن غيره أيضا يرى نفسه على الحق المبين، والحكمة أن تترك الآخر بلا إكراه وعند الله يتم الفصل بين الناس جميعا.. وحجة حماية الدين فكرة ساذجة تفترض أن الدين بحاجة لحمايتهم بالإكراه، وتفترض أنهم وسطاء الله على الأرض، وهي الفكرة التي جاء الإسلام ليحاربها ليقول: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29] ثم الحساب في الآخرة.

هناك آيات كثيرة وواضحة في القرآن تُعنى بالحرية، ولا يصح تركها وتعطيلها للتمسك برواية أو اثنتين كتبتا بعد قرنين من زمن النبي، فيهما من الإشكالات في سندهما ومتنهما ما يعلموه! لقد عرض القرآن كل شبهة طرحت عليه وعلى الرسول، ثم ناقشها وأجاب عنها دون أن يقول للناس اقتلوا صاحبها لأننه يشكك في الدين.. إن من الأولى أن تخرج الأسئلة للعلن فتناقش لا أن تحبس وتتجمع ثم تتجه بصاحبها إلى النفاق.

لقد أعلنها القرآن صراحة ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]، وهي دعوة مفتوحة للحرية حتى لو جاءت في سياق التهديد، لأن نفاذ التهديد سيكون في الآخرة لا في الدنيا، كما أن القرآن جعل قضية الكفر والإيمان من القضايا الشخصية التي لا دخل لأحد بها، وأن وظيفة الأنبياء هي البلاغ والإنذار والتبشير فقط، فقال تعالى لنبيه ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22،21] ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق:45]، ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: 99].

إن أهم ما يستند له في هذا الموضوع هو قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، وهذه الآية –بحسب الأصوليين- نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهذا يعني أنها تستغرق النفي لكل أنواع الإكراه، فلا إكراه على قبول الدين ولا إكراه على الخروج منه ولا إكراه على البقاء فيه.. فكيف يخالفون القرآن وقواعد اللغة ويكرهون الناس على الدين وكيف يخصصون الآية القطعية دلالة وثبوتا برواية ظنية ثبوتا ودلالة؟!

يحدثنا القرآن عن الردة ويتوعد أهلها في الآخرة فقط دون أن يذكر لهم عقوبة محددة في الدنيا، تقول الآيات: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:217]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة:54]، وسكوت القرآن عن عقوبة دنيوية للمرتدين بعد أن ذكرهم في عدة آيات دلالة على عدم وجود هذه العقوبة إطلاقا. وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ [البقرة:108]، مقدم على الرواية التي تقول (من بدل دينه فاقتلوه).. فالآية اكتفت بالحكم عليه بالضلال فقط.

إن هناك من الآيات ما لا يمكن أن تجتمع مع القول بحد الردة المزعوم، لأنها تحدثت عمن كفر ثم آمن ثم كفر، ولو كان حد الردة موجودا لما بقي حيا حتى يكفر للمرة الثانية أو الثالثة، لأن حد الردة سيجعله في عداد الموتى، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ﴾ [آل عمران:90]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ [النساء:137]، لقد كفر ثم آمن ثم كفر ولم ينفذ حد الردة عليه، فهل بعد هذا من وضوح في نفي ما زعموا من حد للردة؟!

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.