حبل الله
الشورى في الأمر  والعدل في الحكم

الشورى في الأمر  والعدل في الحكم

الباحث : د. عبد الله القيسي

الشورى في الأمر:

من يتأمل آيات القرآن الكريم لا يجد هناك إلزاما بالطاعة خارج طاعة الله ورسوله غير طاعة أولي الأمر، فما هو الأمر ومن هم أولوا الأمر؟ وهل الأمر أمر ديني أم دنيوي؟ وهل أولوا الأمر هم الساسة أم العلماء؟

إن ما جرى ويجري في بلادنا هو أن المؤسسة الدينية أو المذهب أو الجماعة قد تعتبر نفسها المعنية/ المقصودة بـ”أولى الأمر” في تلك الطاعة، أو تعتبر نفسها الناطقة باسم الله ورسوله، وتصير طاعة الله ورسوله هي ذاتها طاعتهم، أو تعتبر نفسها الاثنين معا.

أما قولهم بأن طاعة الله ورسوله هي طاعتهم كونهم من يبين ذلك ففساده واضح وقد كتب فيه الكثير، لأن فهم مجموعة من الناس وإن كثروا لا يمثل القول النهائي للنص الديني ولا يوجد ناطق رسمي باسم الله ورسوله، والدين علاقة بين الإنسان وربه، وعلاقة بين الإنسان والمجتمع والكون، والأولى خاصة لا تحتاج إلى وسائط من رجال الدين أو العلماء، والثانية يقنّنها وينظمها مجموع المجتمع بحسب ثقافته، وعن طريق أهل الشورى فيه، فإن كان مجموع المجتمع مؤمنا بدين ما فإنه يستقي قوانينه من روح ومبادئ ذلك الدين مع الاستفادة من تراكم الخبرة الإنسانية التي سعت نحو العدل.

أما بالنسبة لأولي الأمر التي جاءت آية النساء بطلب طاعتهم ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:59] فإن المقصود بها السلطة السياسية لا الدينية، وقد اختلف المفسرون قديما حول المقصود بأولي الأمر، فذهب فريق -وهم الأكثر- إلى أنهم الأمراء (أي السلطة السياسية بلغة اليوم)، وذهب فريق آخر إلى أنهم العلماء (ما يمكن أن نسميه سلطة دينية)، ومنهم من رأى أن المقصود بهم الفريقان.

وبعد تأمل واستقراء للفظ “الأمر” في هذه الآية وآيات أخرى في نفس السياق نجد أن الأمر ارتبط بالشورى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران:159] و ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى:38]، فهاتان الآيتان توجهان النبي عليه السلام إلى مشاورة أصحابه في الأمر باعتبار النبي ولي أمرهم، ولا تتم تلك المشاورة التي يتخذ على أساسها القرار إلا إن كان الأمر أمرا دنيويا لا دينيا خالصا، وهو ما أشارت إليه الآية بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83] والأمن والخوف في الآية أمران دنيويان لا دينيان.

أما الأمر الديني الخالص فيعود فيه الناس إلى النبي في مقام الرسالة لا مقام ولاية الأمر، وهذا المقام لا يرثه فيه أحد، يقول تعالى: “يستفتونك قل الله يفتيكم” فهذه الآية تقول للنبي أن يقول لأصحابه أن الفتوى ليست له وإنما هي لله وحده، وما محمد إلا رسول يبلغ تلك الفتوى التي تأتيه من الله.

فإذا قلنا بأن أولي الأمر الواجب طاعتهم هم الأمراء بحسب اختيار كثير من الفقهاء فإن أولي الأمر اليوم لم يعد فردا واحدا كما كان من قبل وإنما صار منظومة تسمى “السلطة التنفيذية” وهي سلطة اخترناها بإرادتنا عبر الانتخابات ليديروا أمر حياتنا الدنيوي، وعلى هذه السلطة أن لا تستبد بالأمر وإنما تشاور من اختارهم الناس في المجلس التشريعي ليكونوا ممثلين عنهم، ثم تتخذ القرار المناسب الذي ينبغي على الناس طاعتهم فيه.

وباختيارنا للقول بأن أولي الأمر الواجب طاعتهم هم الأمراء لا العلماء، نكون قد حصرنا الطاعة في القرآن فيما عدا الله ورسوله للسلطة السياسية فقط، وعليه فلا نجد مستندا آخر لتلزمنا به المذاهب أو الجماعات الدينية لطاعة واجبة لأي مؤسسة دينية تتبعها، وهذا لا يعني حرمان أفراد تلك المذاهب والجماعات أو حتى من يسمون “علماء الدين” من الترشح للسلطة السياسية، فإن رشح نفسه واختاره الناس صار جزءا من السلطة السياسية وتكون طاعته هنا ليست لأنه رجل دين وإنما رجل سلطة اختاره الناس ليدير أمرهم، ولذا فإن من حق الناس أيضا أن يسقطوه إن رأوا أنه غير صالح، كما أن من حق أي مجموعة من الناس تكوين نقابة لهم أو مؤسسة يطرحون فيها رؤيتهم شرط أن لا يجعلوا من كلامهم مقدسا يجب على الناس تنفيذه حتى ولو لم يقتنعوا به، بل عليهم أن يكتفوا بأن يقنعوا الناس في إطار المجتمع المدني، فإذا اقتنع الناس بشيء تحول عبر أهل الشورى لقانون ودستور ينظم حياتهم، وهكذا يكون تنظيم الشأن العام بين الناس.

وفي مسألة الشورى لم يفصّل القرآن نظرية سياسية كي نأخذ بها، وإنما اكتفى بأصول عامة يمكن للعقل المسلم أن يجعل منها منطلقا في التنظير السياسي لاستكمال عمارة الأرض، ومن تلك الأصول جعل الأمر (أي الشأن السياسي الدنيوي) شورى بين الناس، بما يحقق العدل كمقصد أساس من مقاصد التشريع في علاقة الناس فيما بينهم، وبما يحفظ كرامتهم ويحقق الحرية لهم في اختيار ما يريدون دون إكراه، ولا شك أن الناس إن أعملوا عقولهم حول تلك الأصول فإنهم سيصلون للشكل الأنسب لإدارة حياتهم.

إن الأمر هو المصطلح الذي ذكره القرآن لما نسميه اليوم السلطة السياسية، وأولوا الأمر هم أولوا السلطة السياسية، ولا يوجد سلطة غيرها تنظم أمر الناس، فكيف نختار أولي الأمر وكيف تتم عملية الشورى؟

لقد جعلت الآية إدارة الشأن السياسي (الأمر) عائدا للناس يتشاورن فيه ويختارون الطريقة والشكل الأنسب لهم في كل زمان ومكان، تقول الآية: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾[الشورى:38]، وهذا ما عمله الجيل الأول حين اختاروا بوسائلهم المناسبة لعصرهم عبر البيعة أميرا يكون هو ولي أمرهم، ثم يختار قاضيا لفصل النزاعات، ويختار له مجموعة ممن يراهم أهل حكمة ليكونوا مستشاريه، ربما كانت تلك الصورة بدائية إذا ما قورنت بما وصلت له اليوم التجربة الإنسانية من آليات لتحقيق مقاصد العدل والحرية، لكنها إذا ما دُرست ضمن سياقها التاريخي فإنها تجربة جيدة، هذا مع العلم إن تجارب اليوم ليست متحققة كما هي في كتب منظّريها وفلاسفتها وإنما هناك التفاف كبير حولها توجهه سياسات الهيمنة.

إذن ما دام الأمر شورى بين الناس في كل زمان ومكان فمن حقهم أن يختاروا اليوم الوسيلة الأنسب لتحقيق العدالة والحرية والأمن للناس، ومن حقهم اليوم أن يختاروا الأشكال المناسبة للحكم سواء كانت رئاسية أو برلمانية، وأن يختاروا الآلية المناسبة للانتخابات سواء عن طريق نظام الصوت الواحد أو عن طريق التمثيل النسبي، فكل تلك الآليات والنظم تجربة إنسانية إن كانت تحقق أعلى مستوى للعدل فهي الحكمة التي نحن أولى بها، ومن حق كل بلد أن يختار وأن يكيف ما يناسبه، وتلك التجربة لو لم يصلها الغرب لوصلها غيرهم، ولربما لو لم تتراجع الحضارة الإسلامية منذ قرون لكانت اتجهت إلى مثل تلك الآليات لتدبير شأنها السياسي انطلاقا من التوجيه القرآني الذي جعل ذلك عائدا لهم.

لقد جاء الخطاب القرآني لنبينا عليه السلام في مقام ولي الأمر بأن لا ينفرد بالقرار وخاصة في القضايا السياسية الكبيرة فقالت الآية: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران:159]، وهو خطاب وتوجيه لكل ولي أمر للناس من بعده بأن يشاور ولا يتخذ القرار منفردا.

أما أهل الشورى الذين يستشيرهم ولي الأمر فهم أهل الحكمة، القادرون على استنباط الرأي السديد من مختلف المجالات الدنيوية، وهذا ما أشارت إليه الآية ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83]. فأهل الحكمة يستنبطون الرأي السديد الحكيم بالتفكير والنظر في الأمور بحسب الخبرة والتجربة التي يمتلكونها، وهم من أطلق عليهم في تراثنا “أهل الحل والعقد”، لأنهم من يحلون القضايا أي ينقضونها وهم من يعقدونها.

وحتى نحقق اليوم أكبر قدر من الرأي السديد والحكمة في شتى المجالات الدنيوية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والحربية …الخ) كان لابد أن يكون أهل الشورى من مختلف مجالات وتنوعات وخبرات وفئات المجتمع، ففيهم العلماء من كل التخصصات وفيهم العسكريون (المتقاعدون) والتجار والقضاة والمهندسون والأطباء والحقوقيون والمحامون والمدرسون ورؤساء الأحزاب والجماعات والأقليات المذهبية والدينية والكتّاب والمفكرون وشيوخ القبائل، والنساء والشباب…الخ.

هكذا ينبغي أن يكون مجلس الشورى (مجلس النواب) كي يحقق مقصد الشورى في أفضل وأعلى مستوياته، أما اقتصار ذلك المجلس على فئات قليلة من تلك المجالات فإنه لا يحقق الهدف من تكوينه، ولا يحقق الرأي السديد والحكمة إذا كان هناك مجالات لا يمثلها أحد، وربما حصل تقصير أو جور كبير بسبب ذلك النقص، وولي الأمر لا يستطيع مهما أوتي من ذكاء وعبقرية أن يفهم في كل المجالات، وأن يتنبه لكل القضايا، لذلك جاء المصطلح في القرآن بصيغة الجمع دائما “أولي الأمر”.

العدل في الحكم:

فيما يتعلق بالحكم بما أنزل الله نجد أنه كثيرا ما يطرح مصطلح “الحكم” كمرادف للسلطة التنفيذية، وكثيرا ما يستدل ببعض الآيات التي ورد فيها ذلك المصطلح في منع قبول أي تجربة إنسانية جديدة بزعم أنها تخالف الدين، فنسمع ترديد كثير من الإسلاميين للآية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ﴿الظَّالِمُونَ﴾ ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:44، 45، 47] ويقصدون بالحكم السلطة التنفيذية في خلط له مع مصطلح الأمر، فما هو الحكم وما الذي أنزل الله فيه حتى نحكم به؟

ورد لفظ “حكم” ومشتقاته في القرآن الكريم في نحو مائة موضع ترجع في جلها إلى معنى واحد وهو القضاء والفصل بالحق والعدل لمنع العدوان والظلم.

إذن فمصطلح الحكم لا يشير للسلطة التنفيذية وإنما يشير إلى السلطة القضائية التي تتكامل مع السلطة التنفيذية لإدارة شأن الناس، ونجد أن الآية قد خاطبت النبي في مقام القاضي (السلطة القضائية) ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء:105] وهذا المقام للنبي تبع لمقام ولي الأمر، فالنبي وحده من يجمع تلك المقامات، أما من بعده فينبغي أن يكون عمل أولي الأمر مفصولا عن عمل القاضي.

وفي الآية إشارة إلى أن ذلك الحكم الذي سيصدره النبي عليه السلام إنما هو اجتهاد منه بعد تحري الحق والعدل وهو المفهوم من قوله (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، وقد ذهب بعض الأصوليين إلى الاستشهاد بهذه الآية في كون النبي كان يجتهد، وما دام النبي كان يجتهد في القضاء فهذا يعني أن احتمال الخطأ وارد، وهو ما يمكن فهمه من سياق الآية التي تنهاه أن يكون مدافعا ومخاصما عن الخائنين، ويؤيد ذلك ما جاء في رواية البخاري ومسلم: عن أُمِّ سَلَمَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ وَأَقْضِيَ له على نَحْوِ مما أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ له من حَقِّ أَخِيهِ شيئا فلا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له قِطْعَةً من النَّارِ)([1]).

إذن فما الذي أنزله الله على نبيه ليحكم به؟ وهل بضع عقوبات لقضايا معينة([2]) هي كل ما يمكن أن يحدث في مجتمع ما بما فيه مجتمع النبوة؟! أوليست القضايا التي يتنازع فيها الناس كثيرة جدا وتزداد وتختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان؟! فهل ذكرها القرآن كلها؟ لا شك بأن القرآن لم يذكر كل النزاعات، إذن فكيف نفهم الحكم بما أنزل الله؟

الإجابة بسيطة إذا اعتمدنا تفسير القرآن بالقرآن، وفهمنا موضوعاته في اتساق بلا تناقض، فمن تأمل الآيات سيجد أن ما أنزله الله وأمر به في شأن الحكم هو مبدأ العدل ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء:58] فالعدل أصل عام يجب أن يتمثله كل قاض عند حكمه، لأنه سيجتهد في حكمه كما اجتهد النبي من قبله لذا عليه أن يتحرى العدل.. إذن وببساطة فإن من لم يحكم (يقضي) بما أنزل الله (العدل) فأولئك عند الله هم الظالمون، الفاسقون، الكافرون.

أما قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام:57]، فقد تكررت جملة “إن الحكم إلا لله” ثلاث مرات في القرآن في سياق ما له علاقة خاصة بين الإنسان وربه، لتقول: أن الحكم أي الفصل لله وحده في ذلك، فهو وحده من سيفصل في ذلك يوم القيامة، ولا تتحدث هذه الآية عن علاقة العباد ببعضهم ولا عن أي سلطة سياسية تدير شأنهم.

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) البخاري ج6/ص2555- مسلم ج3/ص1337.

([2]) وهي العقوبات التي نص عليها القرآن الكريم (القتل والسرقة والزنا والحرابة).

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.