حبل الله
الدِّية والتعويض في الأخطاء الطبية

الدِّية والتعويض في الأخطاء الطبية

السؤال:

خضع مريض لعملية جراحية في الجيوب الأنفية لكن الطبيب أعطب عصب عينه اليمنى بالخطأ مما أفقده النظر فيها بنسبة تتجاوز 90%

هل يجوز للمريض المطالبة بالتعويض عن عينه (ديَّة العين)، ومَن المكلف بدفع الدية؟ هل هو الطبيب ؟ أم إدارة المستشفى؟ أم تدفعه شركة التأمين؟

مع العلم أنه لا تجرى العمليات الجراحية إلا بتوقيع المريض أو وليه على إبراء ذمة المستشفى والطاقم الطبي من أي مضاعفات سلبية. لكن هل الخطأ الطبي يدخل في إطار هذا التعهد؟ مع العلم أن المضاعفات تخرج عن إرادة الطاقم الطبي بعكس الأخطاء الطبية لا سيما الظاهرة منها.

الجواب:

في البداية علينا أن نفرق بين أمرين هامين:

  • إن كلمة التعويض لم ترد في كتاب الله تعالى، وقد استخدمها الناس بدلًا عن كلمة الدية التي تُدفع في حالة ارتكاب بعض الجرائم عن طريق الخطأ ومنها اتلاف الأعضاء والقتل.

وبسبب بُعد أغلب الناس عن كتاب الله تعالى فقد استبدلوا ألفاظه بأخرى، ولأن كلمة التعويض تحمل في معناها معنى البدل فصار كثير من الناس يرفضونه ظنًا منهم أنه بديل عن موت ذويهم أو ما لحق بهم من ضرر وصاروا يرددون عبارة: (العوض على الله).

والعبارة بحد ذاتها صحيحة، لأنه سبحانه وحده القادر على تبديل ما أُخذ سواء أكان في النفس ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ الكهف (81) أو في المال ﴿عَسَىٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾  (القلم 32)

ولكنهم أخطأوا حين أطلقوا لفظ التعويض على الدية (التي هي الجزاء الذي حكم به الله تعالى على الجاني وجعلها شرطًا من شروط قبول توبته)، فقد قَالَ سُبْحَانَهُ عقب حكمه في القتل الخطأ: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾  (النساء 92).

  • إن الأخطاء الطبية تختلف عن المضاعفات التي تحدث للمريض بحسب حالته الصحية وقدرته على المقاومة، أما الأخطاء الطبية فتكون بسبب مباشر من الطبيب، وهي إما أن تكون بسبب إهمال طبي أو لعجز الطبيب عن تفاديها أثناء الجراحة لعدم خبرته أو ضعف قدراته.

وفي كل الحالات لا يُعفى الطبيب من دفع ديَّة ما أتلفه، إلا أن يعفو عنه المجني عليه أو وليه. لأن الله تعالى قد أوجب القصاص على القاتل بقتله إن كان متعمدًا، وإن كان مخطئًا فلم يعفه من دفع الدية بالإضافة إلى تحرير رقبة. كما أوجب القصاص فيما دون النفس كإتلاف العين والسن والأذن وغير ذلك مما تصح فيه المماثلة في حال تعمد الجاني فعل ذلك، وإن كانت جنايته بالخطأ فلا قصاص عليه لكن تجب عليه الدية. فلا يمكن أن تكون هناك جريمة على النفس أو ما دونها دون رد اعتبار من قصاص أو دية.

وتسقط الدية في حال عفى المجني عليه إن كانت الجناية على ما دون النفس، أو وليه إن كانت الجناية على النفس.

وما يدفعه الطبيب هنا لا يسمى تعويضًا، وإنما هو ديِّة مستحقة للمريض أو لورثته إن أفضى الخطأ إلى موته (إلا أن يعفو أو أهله) مصداقًا لقوله تعالى:

﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾  (المائدة 45)

أما المكلف بدفع الدية فهو الطبيب الذي أخطأ إلا إن كان هناك اتفاق بينه وبين إدارة المستشفى وشركة التأمين المسؤولة عمّا يحدث في المستشفى.

ولا يثبت تقصير الطبيب إلا بإثبات خطئه عن طريق فريق متخصص من الأطباء في نفس المجال.

وأما إن كان المجني عليه مؤمنا في شركة التأمين فهي مكلفة بدفع ما يُسمى (بالتعويض) وهذا بخلاف الدية؛ لأن التأمين يُدفع للشخص المتضرر مقابل ما كان يدفعه هو على مدار شهور وربما سنوات بموجب عقد اتفاق بينهم ينص على أن المؤمَّن له يحصل على مبلغ معين من المال في حالة الحوادث أو الوفاة.

وختامًا: فإن القصاص أو الدية هي حكم الله تعالى:

﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾  (المائدة 45)

ولا يجب على الناس رفضها على اعتبار أنها سبّة أو عيب وكأن المجني عليه أو وليه قد قبل بدلا ماديا (الثمن) عما فقد، فمهما بلغ الناس من الرحمة والحكمة لن يكونوا أرحم من ربهم: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف 64) ولن يستطيعوا أن يستدركوا على حكمة ربهم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾  (التين 8)؟

وحكمه سبحانه بالدية على الجاني للمجني عليه لهو من كمال الحكمة والرحمة بهما، فهي ردع للجاني ومفتاح لقبول توبته، ذلك لأنه لو علم ما عليه فسيكون أحرص على حياة الآخرين، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾  (البقرة 179).

كما أنها رحمة وحفظ لحق المجني عليه، فلا يشعر بالظلم ولا يفكر بالاعتداء على من تسبب بفقد عضو من أعضائه.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.