حبل الله
هل التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وهل تنفيذ الحد شرط للتوبة النصوح؟ وهل غشاء البكارة نعمة أم نقمة؟

هل التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وهل تنفيذ الحد شرط للتوبة النصوح؟ وهل غشاء البكارة نعمة أم نقمة؟

السؤال: يستشكل عليّ فهم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو أن تبدل سيئاته حسنات، فهذا جميل، و لكن هل يتساوي التائب مع من خشي أن يفعل الذنب مرضاة لله من البداية؟ فما هو فضل من عمل الطاعة عمن عصى؟

سؤال آخر: بعض الذنوب لها حدود كالزنا مثلا، والآن لا تُنفذ الحدود، فهل يكفي مستحقها التوبة أم سيُنفذ الحدّ في الآخرة أم تكفيه توبته؟

سؤال أخير: إن الله تعالى وضع للزاني و الزانية نفس العقوبة، و إذا تابا يغفر الله لهما، ولكنه سبحانه قد وضع للمرأة غشاء بكارة قد تعيش العمر كله في فضيحة بسبب فقدانه، أليس من العدل أن يُستر الاثنين طالما ارتكبا نفس الذنب، فقد يحصل أن يزني الرجل كثيرا لكن لم يخلق الله له ما يردعه أو يعيبه، و لكنه سبحانه خلق للمرأة ما قد تُهان بسببه. أعلم أنه من الخطأ سؤال هذا، لكنه أليس المساواة بالظلم عدل؟ وأرجو أن تجيبوني ولا تحيلوني إلى فتاوى أخرى. جعله الله في ميزان حسناتك.

الجواب:

إن مسألة أن التائب يتساوى مع من لم يفعل الذنب من الأساس أو يعلوه فهذا الكلام ليس صحيحًا وليس على إطلاقه:

– فليس كل إنسان لم يفعل المعصية يكون معصومًا منها فربما لم تُتح له الفرصة ولو أتيحت لفعلها.

– وكذلك فإنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخطئ أو يرتكب الذنوب سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وقد يتوب توبة نصوحا تجعل إيمانه أشد من إيمان غيره لشعوره بالذل أمام ربه مما يجعله يستشعر مراقبة الله تعالى له في كل خطوة وكل كلمة، وهذا هو التقوى.

ومقولة أن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)  ليست آية قرآنية منزلة من السماء، وإنما هي مقولة اشتهرت على ألسنة الناس، ويُقصد بها أن التائب لن يعذبه ربُّه لتوبته، كما لن يعذَّب من لم يفعل الذنب، ولكنه لن يتساوى مع من لم يفعله من الأساس رغم قدرته على فعله.

فإنه إذا تعرض شخصان لنفس الموقف من الزنا أو السرقة مثلا بأن أتيحت الفرصة لكليهما بالتساوي لارتكاب هذا الإثم ولكن أحدهما فعله والآخر قد عصم نفسه وتذكر ربه، ففي هذه الحالة فإن الأخير أعظم درجة عند الله تعالى، نفهم ذلك من قوله جل وعلا:

﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (الحديد 10)

فالآية الكريمة تقارن بين جزاء من قاتل من قبل الفتح ومن قاتل بعده، وبيّن سبحانه أنهم لا يستوون في الدرجة رغم توبتهم وقتالهم بعد الفتح، فوعد كليهما بالحسنى، لكنه جعل الدرجة الأعظم والفضل الأكبر لمن قاتل من قبل الفتح، لأن فتنتهم كانت أشد حيث كان المشركون أكثر غلبة.

إن الله سبحانه هو الحكم العدل ولن يساوي من فعل الإثم ثم تاب منه بمن امتنع عن فعله أصلا بسبب خشيته لله تعالى، بل جعل لكل منهما درجته؛ كلٍ على حسب عمله وعلمه، وبيّن ذلك في كثير من آياته كقوله تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام 132).

وقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء 21).

وقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ﴾ (طه 75).

وقوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (الأحقاف 19).

ودرجة التفضيل ليست فقط بين من فعل السيئات ومن لم يفعل، بل إنها بين من سعى للخير وتعلم وفكر وتوكل وبين من لم يفعل وتكاسل وتواكل، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة 11).

ومِن كرم الله سبحانه أنه وعد التائب بأن يبدل سيئاته حسنات لتشجيعه على العودة للحق فقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان 70).

وهذا لا يجعل منه مساويا لمن جاهد نفسه من البداية واتقى ربه وعمل الصالحات:

﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر 9).

أما بالنسبة لعقوبة الحدود التي لم تعد تنفذ، فإن القوانين الوضعية قد وضعت لها بدائل، وهذه العقوبات رغم أنها تخالف ما أنزله الله تعالى في كتابه لكنها تبرئ ذمة المذنب الذي نال تلك العقوبة، ولن يحاسبه تعالى عليها يوم القيامة؛ لأنه لا يستطيع تنفيذ العقوبة على نفسه كالقتل أو الجلد.

ومسألة أن تنفذ الحدود في الآخرة فغير وراد، وليس عليه دليل، ولأن عذاب النار ليس بعده عذاب فلا يحتاج لعذاب آخر: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾  (الفجر 25)

وبالنسبة للسؤال عن الفرق بين زنا الرجل وزنا المرأة وافتضاح أمر الفتاة البكر والستر على الرجل فإن فيها لغطا كبيرا.

ذلك أن الله تعالى لم يفرق في العقوبة بين زنا المرأة وزنا الرجل، فقال جل شأنه:

﴿‌الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2] 

أما أن المرأة تلحقها الفضيحة في الزنا أكثر من الرجل فليس ذلك من الدين في شيء، بل هو عادة الناس في ذلك، فضعاف النفوس يحبون الخوض في أعراض النساء خاصة، لذلك جعل الله تعالى عقوبة لرمي وقذف المحصنات ولم يجعلها للرجل إذا اتهمه أحدٌ بالزنا. وذلك لتحصين المرأة من أن تمتد لها الألسن.

وقد جعل الله تعالى في النساء خاصيتين توفران لها مزيدا من الحماية والحفاظ على عرضها،

الأولى: تتمثل في تلك الملكة التي أودعها الله في النساء تجعلها تمتنع عن غير زوجها، وهو ما أشار إليه قوله تعالى:

﴿‌فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ [النساء: 34]   

هذه الخاصية تجعلها تتراجع عن التفريط بنفسها سواء أكانت بكرًا أو غير بكر.

الثانية: تتمثل في غشاء البكارة إن لم يسبق لها الزواج، فوجوده يدفع الفتاة التي لم تختبر الحياة بعدُ لأن تحافظ على نفسها، فهو ميزة لها يعينها على حفظ نفسها.

ولم يترك الله تعالى المرأة لتلك الخاصتين الطبيعيتين فقط، بل أنزل في كتابه من التشريعات ما يوفر لها مزيدا من الحماية بداية من وجوب الإنفاق عليها ممن يعولها فلا تضطر للخروج للعمل الذي ربما يعرضها للسوء، وكذلك فرض لها من اللباس ما تخفي به مفاتنها حتى لا تتعرض للأذى، وكذلك أمرها بغض الصوت وعدم الخضوع فيه لئلا يطمع فيها من في قلبه مرض.

أما بالنسبة لمسألة الفتاة البكر التي زنت وتابت إلى ربها توبة نصوحًا فإنه سبحانه قد وعد بالغفران، ووعده الحق:

﴿فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

ومن تبديله سبحانه السيئات بالحسنات احتمال أن يسوق لها ويرزقها الزوج الصالح الذي يغفر زلتها ويقدر توبتها، ويكون عونا لها على الهداية والصلاح.

ولم ينزل الله تعالى في كتابه أنه إذا وجد الزوج زوجته غير بكر أنه يفضحها أو حتى يطلقها، بل على العكس تمامًا، فإنه لا يحق له ولا لغيره أن يرميها بتهمة الزنا، ولو فعل فإنه يقام عليه حد القذف لعجزه عن الإتيان بأربعة شهود.

وما يحدث في المجتمع من التركيز على غشاء البكارة ونزول الدم والتشهير بالمرأة إنما هو من العادات والتقاليد الموجودة في بعض المجتمعات دون غيرها.

وكل ما خالف منهج الله تعالى من العادات فعلينا هجره والابتعاد عنه، ففضيحة المؤمنات ليس من الدين في شيء، بل إن الله سبحانه توعد من يفعل ذلك بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النّور 19). 

وختامًا: إن الله سبحانه خص كلا من الرجل والمرأة بصفات بدنية وسمات شخصية يتميز بها عن الآخر: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ﴾ (آل عمران 36).

من رحمته بالأنثى وما خلق فيها من ضعف ورقة أن جعل لها ما يحصنها ويحفظ كرامتها، وقد جعل الرجل مسؤولا عن رعايتها وكلفه ما لم يكلف به الأنثى من العمل والشقاء والإنفاق، وأوجب عليه الدفاع عنها ضد أي معتد وذلك بما خصه الله تعالى من عنصر القوة.

ومن هنا فلا يجب أن يبحث أحدهما عن نقاط النقص فيه والكمال عند الآخر، فلكل طبيعته ولكلٍ واجباته وحقوقه وعليه الالتزام بها، قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (النساء 32)

وهكذا فلن نمنح الفرصة للشيطان لأن يضلنا ويجعلنا نشك في عدل الله تعالى ورحمته بعباده، فهو تعالى لم يفرق بين الذكر والأنثى في الثواب والعقاب، فقَالَ سُبْحَانَهُ:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل 97).

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.