حبل الله
هل هناك وحي للنبي غير القرآن الكريم؟

هل هناك وحي للنبي غير القرآن الكريم؟

السؤال:

كنت أرغب في البحث عن تفصيل الآية الكريمة “وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ” (التحريم  ٣)

هل يعتبر هذا النبأ من الناحية اللغوية وحيا خارج القرآن أم لا؟ وهل جبريل هو الذي أنبأ النبي أم هو عن طريق الإلهام أو الرؤيا أو عن طريق محادثة الله مباشرة؟ ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى لم يفصل ما هو هذا السر في قرآنه، فهل نحن مطالبون بمعرفته أم هو من الوحي الشخصي أو الإلهام الخاص بالنبي فقط مثل ما حدث مع أم موسى ومع سيدنا إبراهيم عليه السلام؟

هذا إشكال بسيط، وكنت أود توضيح وتفصيل الآية الكريمة وشكراً.

الجواب:

لم تذكر الآية ما هو السر الذي أنبأه الله تعالى لنبيه، كما لم تذكر كيف وصله هذا الإنباء، لكن من الواضح أن ذلك السر لم يُذكر في القرآن الكريم، فهو ليس محل تكليف للمؤمنين ليعرفوه، ولو كان في معرفته هدف تشريعي لبينه الله في كتابه، فلا يقع على عاتق المؤمنين البحث عنه ولا بذل الجهد لمعرفته. وكيف للناس معرفته وهو سر؟!

وقال جماعة من المفسرين: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى الغيرة والكراهية في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين: تحريم الأمَة (مارية القبطية) على نفسه، وبشرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وسعيد بن جبير  ومقاتل»[1]

ولا شك أن هذا القول لا دليل عليه ولا مستند له فهو ليس بملزم في فهم الآية.

إن كلمة الوحي في كتاب الله تعالى تأتي بمعانٍ عدة، فقد تأتي بمعنى إعطاء الرسالة إلى النبي، كما تأتي بمعنى الإلهام، والسياق الذي ترد فيه يحدد المعنى. وقد وردت الكلمة بمعنى الإلهام في الآية التالية:

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى،51)

في الآية ثلاث طرق لإيصال علم الله تعالى إلى خلقه:

الأول: الوحي؛ وهو في الآية بمعنى الإلهام أو الرؤيا، ويشترك في هذا النوع من الوحي الأنبياء وغيرهم.

فمن رؤيا الأنبياء ما رآه إبراهيم عليه السلام من ذبح ابنه إسماعيل:

{قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات، 102)

وما رآه نبينا من دخوله المسجد الحرام هو  وأصحابُه محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرين:

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} (الفتح، 27)

ومن رؤيا غير الأنبياء ما رآه ملك مصر حيث عبّرها يوسف عليه السلام:

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} (يوسف، 43)

ومن الإلهام ما جاء في قوله تعالى عن أم موسى عليه السلام:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص، 7)

كما تستخدم كلمة الوحي بهذا المعنى في إلهام الحيوان أيضا:

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل، 68)

كما يُستخدم ذات المصطلح في إلقاء الأمر إلى الجماد:

{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة، 5) أي الأرض

الثاني: من وراء حجاب، كما كلم الله موسى؛ كلمه من وراء حجاب، وقد سمع موسى كلام الله مباشرة، لكنه لم يره، وفي ذلك يقول سبحانه:

{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء، 164)

ولم يأت في القرآن الكريم أن الله تعالى كلم غير موسى عليه السلام.

الثالث: أن يُرسل رسولا، فيوحي بإذن الله رسالةَ اللهِ إلى أنبيائه، وأمينُ الوحي هو جبريل عليه السلام، ولا يأتي سوى الأنبياء، يأتيهم برسالة الله تعالى فيقرؤها عليهم ويُبلِّغُهم إيَّاها بالشَّكل الذي أراد الله تعالى.

ولا يمكن أن تأتي رسالة الله (الكتاب) إلى النَّبي بالإلهام أو المنام، والحكمة من ذلك هي أن يستيقنَ النبي على وجه القطع أن ما جاءه رسالةُ ربه، لأنَّ الوحي بالإلهام أو المنام قد يُشكل في الفهم أو التأويل، وحتى لا يُترك الأمر لكل دعيِّ فيدعي أن الله قد أوحى إليه بالإلهام أو المنام. وهذا ظاهرٌ من قوله تعالى:

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن، 26_ 28)

ولو قرأنا الآيات المتعلقة بالوحي إلى خاتم النَّبيِّين (الذي بمعنى إنزال الرسالة) نجد أنَّه مخصوصٌ بالقرآن دون غيره، كقوله تعالى:

{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام، 19)

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف، 3)

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى، 7)،

لذلك لا يصحُّ أن يُطلق الوحي _بهذا المعنى_ على غير القرآن الكريم.

والمسلم غير مكلف إلا بما أوحاه الله تعالى لنبيه في القرآن، لأنه الكتاب الذي سيحاسب الناس يوم القيامة بناء على ما جاء فيه، أما ما أوحاه الله إلى الأنبياء من غير ما ورد في الكتاب فليس له صفة الرسالة التي كلف بها العباد، وإنما هو توجيه للنبي لفعل شيء يعينه على تبليغ الرسالة أو أداء مهمة معينة، ولا يجب على المسلم تقصي هذا النوع من الوحي أو الوقوف على حيثياته واستنباط الأحكام منه، لأنه ليس محلا للتكليف أصلا، ولأن منهج القرآن النهي عن أن يسأل المسلم عن التفاصيل التي لم تُطلب منه مباشرة:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ ‌أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة 101-102]

فالمسلم يقوم بالمطلوب منه ولا يبحث عما وراء ذلك مما سكت عنه الشرع ولم يبينه، لأن تكليف المسلم بالبحث عما وراء ما جاء في الكتاب فيه من الحرج الشيء الكثير، والحرج مرفوع عن المسلمين بالجملة. قال الله تعالى:

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله https://www.hablullah.com/

د. جمال نجم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  «التفسير البسيط» (22/ 13)

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.