حبل الله
الشعور بالتقصير في التزام أوامر الله تعالى

الشعور بالتقصير في التزام أوامر الله تعالى

السؤال:

يأتيني خوف دائما من أن يكون اللباس الذي ألبسه ليس هو الذي أمرنا به ربنا سبحانه، وقد يصل الخوف لحد الاكتئاب، وأخاف أيضا من أنني لا أعرف حاجات كثيرة في الدين، ولا أعرف من أين أبدأ، وأنا سني ١٣ سنة. فهل يجوز أني أقرا كتابا pdf من غير ما استأذن الكاتب؟ وعندما أقوم بفتح فيديو يوتيوب عن السيرة النبوية مثلا يكون فيه موسيقى فأُضطر أن أقفل الفيديو. فهل ممكن أن أشغل الفيديو إن كان في إعلان أو أغنية أو موسيقى؟ وهل سأكون مذنبة إن فتحت الفيديو لأنه فتحه سيساهم في إشهار البرنامج وسيأتي غيري ويسمع الأغنية أو الموسيقى؟ والإعلانات بعد ساعات ممكن يكون فيها رقص وأغاني وستات، فهل الفلوس التي يأخذها  منزل الفيديو  هي حلال له؟ وأنا كبنت هل ممكن أتفرج على فيديو فيه ست أم يمكن أشهرها وبعد ذلك يراها رجل؟.

الجواب:

هذا السؤال يحتوي على عدة تساؤلات تدور كلها حول الخوف والقلق من عذاب الله تعالى:

  • فمسألة اللباس الشرعي والتخوف من عدم مطابقته لأوامر الله تعالى في كتابه نستطيع حلها بالرجوع للكتاب نفسه، فعند تلاوة آيات لباس المرأة نجدها لم تحدد زيًا معينا ولم تسمه باسم معين ولا بلون أو شكل محدد، فلا يهم التسمية ما دام ساترا لجميع البدن ومطابقًا للشروط من عدم إبداء الزينة إلا الظاهر منها (الوجه والكفين) وتغطية الشعر وموضع الجيب (الرقبة وأعلى الصدر)، قال الله تعالى:

﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَاۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ..﴾ (النّور 31)

وكذلك ألا يكون ضيقًا يظهر مفاتن المرأة:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ (الأحزاب 59)

وهذا من رحمته سبحانه بخلقه حين ترك لهم التمتع بالزينة التي جعلها لعباده، قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف 32)

ومن هنا فلا ينبغي للمسلمة أن تضيق على نفسها، بل ترتدي ما تريده وما ييسر حركتها ما دامت ملتزمة بشروطه.

  • أما بالنسبة لعدم معرفة السائلة كثيرًا عن دينها فذلك لأنها ما زالت في مقتبل عمرها، ولا يجب عليها في الوقت الحاضر إلا أن تهتم بتعليمها المدرسي، وإن استطاعت بجانب ذلك أن تقرأ القرآن بتفكر وتدبر وتطلع على بعض الكتب الأخرى شريطة ألا تعطلها هذه الكتب عن تعليمها المدرسي الذي هو طريقها للعلم والمعرفة، ولا ينبغي للمسلم أن يتعجل في طلب العلم، بل يطلبه بروية ليتمكن منه وتصبح لديه ملكة تجعله يستفيد مما يتعلم. فالله تعالى قد أمر نبيه الكريم بعدم التعجل في الحكم بالقرآن قبل أن يستقصي كل الآيات المتعلقة في المسألة التي سيجيب عليها كما أمره بالدعاء بأن يزيده الله من العلم بقوله تعالى:

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه 114).

  • أما عن قراءة الكتب الموجودة على صفحات الإنترنت فهي متاحة للجميع، ويمكن لمن يشاء الاطلاع عليها، ولا حاجة لاستئذان أصحابها؛ لأنها لم تصل إلى تلك المنصات إلا لأنها نُشرت بإذن كتابها، وربما تكون تلك الكتب لمؤلفين قدماء توفاهم الله منذ زمن بعيد.
  • وأما بالنسبة للفيديوهات الهادفة التي تحتوي على موسيقى وأغاني فلا حرج فيها، لأن الموسيقى ليست حرامًا ما دامت ترافق أغاني هادفة خالية من الدعوة للمنكر، ومن قالوا بتحريم الموسيقى مطلقا لم يأتوا بدليل صحيح على قولهم، والأصل أن لا نقول بتحريم شيء لم ينص الله تعالى على تحريمه في كتابه الكريم. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ (النحل 116)

ولا حرج من إعادة نشر الفيديوهات المفيدة وإن تخللها إعلانات قد تحتوي على مشاهد غير لائقة، لأنه يمكن تلافيها بتسريع الفيديو، فالله تعالى لم يحرم إلا ما يدعو إلى الفجور وما يقود إليه. قَالَ الله تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف 33).

  • أما عن مسألة التربح من نشر فيديوهات تحض على الرذيلة وتدعو إلى الفواحش فهو مال حرام اكتسب من الخبائث. قَالَ سُبْحَانَهُ:

﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف 157).

ومن يعمل على نشر الفاحشة بأي وسيلة كانت فإنه يعرض نفسه لعذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة. قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النّور 19).

  • أما عن مشاهدة الفتاة لفيديوهات فيها فتيات مثلها ومشاركة المحتوى لصديقاتها فلا بأس به حتى لو كانت تلك الفيديوهات لفتيات غير ملتزمات باللباس الشرعي لكنها تحتوي على أشياء هادفة كالأمور الخاصة بالمرأة مثل البرامج الصحية والرياضية وبعض المهن البيتية وغير ذلك، ولا يجب الخوف مما إذا نشرتها المُرسل إليها إلى رجال بشرط ألا يكون هناك عورات منكشفة وألا تدعو لمحتوى قبيح أو فاحش، حيث لا يجوز للمرأة أن ترى عورة امرأة أخرى وكذلك الرجال.

فهناك فرق بين نشر الكبائر وبين اللمم الذي يمكن أن نراه حولنا في كل مكان، والحق أنه لا يمكن أن يتجنب المسلم اللمم كله، لهذا قَالَ الخبير العليم:

﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ، إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾ (النجم 32)

وبعد الإجابة عن التساؤلات ينبغي التنويه لأمرين هامين ألا وهما:

  • علينا أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا ليعذبنا، قَالَ سُبْحَانَهُ:

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ (النساء 147)

وأن رحمته وسعت كل شيء :

﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر 7)

فنلاحظ أن رحمته سبحانه ليست للذين لا يخطئون وإنما (للذين تابوا) ولا توبة إلا من خطأ، فلا يوجد على وجه الأرض من لا يخطئ حتى الأنبياء أنفسهم أخطأوا، وقد ضرب الله تعالى لنا في كتابه الأمثال على ذلك من لدن أبينا آدم إلى خاتم النبيين.

والفرق بين من يستحق العذاب ومن لا يستحقه ليس في ارتكاب المعصية من عدمها وإنما في الإصرار عليها وعدم الإسراع في التوبة قَالَ سُبْحَانَهُ:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران 135).

  • علينا أن نحذر من عدم ترتيب الأولويات في حياتنا . فكثير من المسلمين في الوقت الحالي من يتمسكون بأمور ليس لها علاقة بجوهر الدين ومقاصده، ويضيعون أعمارهم وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فعلى سبيل المثال نجد من يتمسكوا بإطلاق اللحى على هيئة معينة ومن يتشددوا في لون اللباس وهيئته وغير ذلك من الأمور التي مُلئت بها العقول وانشغلت بها النفوس عن المقاصد الحقيقية للدين من التسليم لرب العالمين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدق في القول والصبر في العمل والأمانة وإقامة العدل ولو على النفس والإحسان إلى الغير بدءا من الوالدين وذوي القربي ووصولًا إلى جميع الكائنات الحية قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة 177).

القرآن الكريم قد أعطى أهمية كبيرة لمسألة اللباس والغض من البصر، ولكنه لم يضيق على الناس ويحملهم أكثر من وسعهم، ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يعيش منعزلا عن العالم، والغاية من تلك التشريعات هي الحفاظ على المجتمع من الوقوع في المعاصي والوقاية من الوقع في الفواحش.

فالله سبحانه وتعالى لا يريد بعباده العسر وإنما يريد لهم الطهارة والنقاء. يقول الله تعالى :

﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ ‌يُرِيدُ ‌لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (المائدة 6)

وعلى هذا ينبغي أن لا تشكل تشريعات الله حرجا للإنسان، فإن شعر المؤمن بحرج تجاه تشريع معين فإنما يكون بسبب مبالغته في فهم التشريع والذهاب به بعيدا عن مقصده الأصلي.

وختامًا نقول: إن هذه التساؤلات تنم عن فطرة نقية ونفس راغبة في رضا ربها، ولكن الله سبحانه لم يضيق على الناس حياتهم، فلا داعي للتشدد والتعصب، ذلك أن كثرة القلق والخوف يؤدي إلى الوسواس القهري وينتقل من تحري الحق الممدوح إلى التشدد والتعصب المذموم فيحرم الإنسان ما أحله الله له، وإلزام النفس بأوامر الله تعالى من غير تفريط أو غلو هو جهاد النفس الذي يجعلها مستقيمة على أمر الله فلا تفرط ولا تغلو فتقع في الحرج. قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج 78)

والمسلم لا ينسى حظه من متع الدنيا في سعيه لمرضاة ربه، ذلك أنهما صنوان لا يفترقان. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص 77).

فهو رؤوف رحيم بعباده:

﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الشورى 25).

 

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.