حبل الله
العمل في المجال الفني وإنتاج الأفلام تحديدا

العمل في المجال الفني وإنتاج الأفلام تحديدا

السؤال: 

رأيت في موقعكم ما يشجع على العمل في شركات الإنتاج الفني، والبعض يريد أن يصبح منتج أفلام، ولكن لا يوجد تشجيع كاف أو أنه يتم تحريم هذه المهنة، وأنا كفتاة مسلمة ما الذي يجب أن أنتبه له إن قررت العمل في هذا المجال؟ ما هي الحدود التي لا يجب أن أتعداها عند إنتاج مسلسل أو فيلم؟، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسلسل أو الفيلم يجب أن تكون فيه شخصيات مختلفة، وهذا يعني أن كل شخصية لها أسلوب مختلف في اللباس؛ فهناك من تلبس اللباس المحتشم مثل الفتاة المتحجبة أو المنتقبة، ومن تلبس اللباس الملفت اي لباس يحتوي على الوان فاقعة، ومن تلبس الملابس الجريئة مثل الفساتين القصيرة أو الضيقة، بالإضافة إلى التعامل بين الممثلين الرجال والنساء، وهنا يبدأ كل شيء بالتعقيد، ولإضافة عنصر الصدق والواقعية للمسلسل أو الفيلم قد تكون هنالك مشاهد عنيفة أو ربما جريئة أو مشاهد مثل التحرش والسب فكيف يجب أن أتعامل مع كل ذلك؟.. في الحقيقة لا أعرف كثيراً عن الإنتاج الفني ولكن الأفلام _بطريقةٍ ما_ تؤثر كثيراً في نفسي وطريقة تفكيري خاصةً عندما تكون القصة واقعية وتتكلم عن الصعوبات التي يمر بها بعض البشر، وأيضاً عندما تتعرض فئة من المجتمع مثل الأقليات للعنصرية أو القتل والتعذيب فقط لأنهم يتبعون معتقدا أو دينا لا يتوافق مع ما يؤمن به الطرف القوي.

الجواب:

للإجابة عن هذا السؤال علينا في البداية أن نعلم جيدًا أن الفن قد خلقه الله سبحانه فينا وفي كل ما حولنا من آيات الكون الفسيح:

﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (البقرة 117).

فالكون حولنا ما هو إلا لوحة فنية تعبر عن بديع صنع الخالق التي تبعث على الراحة والهدوء والتأمل والتدبر:

﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (النحل 13).

وفي الوقت نفسه فإن الكون صورة مطابقة لعالم البشر بشتى طوائفه:

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام 38).

فنجد فن الرسم مستوحى من الطبيعة الخلابة باختلاف ألوان الشجر والنباتات والجبال والطيور والحيوانات، قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَاۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ (فاطر 27).

وفن الموسيقى مستوحى من تغريد الطيور الذي يعبر عن تسبيحها للخالق العظيم، قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (النّور 41)

وتلفت الآية التالية إلى منافع الحيوانات المذكورة ومنها أنها زينة، كما تذكر صورة القتال والتصارع على البقاء الذي نجده فيها:

﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةًۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (النحل 9).

والفنون تعتبر من أفضل الطرق التي يمكن من خلالها توصيل المعلومات والمضامين والرسائل إلى الناس المستهدفين، حيث يصل المراد بسرعة تعجز عن مثلها الخطب والدروس والمواعظ داخل المساجد والمدارس؛ ذلك لأن الفنون تعرض مشكلات المجتمع ومعاناته وتقدم الحلول لبعضها بقوالب محببة إلى النفوس تخلو من أسلوب التلقين والنصح والإرشاد المباشرين.

ولو دققنا النظر في كتاب الله تعالى سنكتشف أنه قد قدم لنا المواعظ والعبر في قوالب قصصية بديعة معتمدًا على التشويق في طريقة السرد وحسن الألفاظ وجمال المعاني، وذلك باستخدام التشبيه والمجاز والكناية بتناسق وتناغم بديعين تألفه النفوس وترنو إليه الأسماع وكأنك ترى الأحداث أمام عينيك. قَالَ الله تعالى:

﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ﴾ (يوسف 3)

والمقصود هنا قصص القرآن كله وليس فقط قصة النبي يوسف كما هو مشهور.

لذلك كان المستمعون لقصص القرآن يتأثرون ويعتبر بها أصحاب العقول. قَالَ اللَّهُ تعالى:

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (يوسف 111).

فالقرآن الكريم قد عرض جميع المشكلات التي يتعرض لها الإنسان في جميع مراحل حياته وأوجد لها الحلول، فعرض صورا من المشكلات الزوجية وعقوق الوالدين والخيانة وغدر الإخوة والطمع دون أن يخدش حياء القارئ والمستمع أو يبعث في قلبه الرعب والخوف رجلًا كان أو امرأة أو حتى طفلًا. قَالَ جَلَّ في عُلاه:

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ (الإسراء 89).

وقد ذكر تعالى الشعر في كتابه ولم يحرم منه إلا ما يحث على النفاق والفجور:

﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء 227)

فالشعر المحرم هو ما يكون سببًا في الغواية.

ومن هنا فإننا لا نستطيع أن نحرم الفنون، لأنها وسيلة للمعرفة، ولأنه لا يصح تحريم شيء لم ينص الله تعالى على تحريمه انطلاقًا من قوله تعالى:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ﴾ (النحل 116).

ولكنه في الوقت نفسه فقد وضع تعالى لنا قاعدة هامة في معرفة ما لم يتم ذكره بشكل مباشر في كتابه، ألا وهي قاعدة قياس مدى النفع والضرر قَالَ تَعَالَىٰ:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَاۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ (البقرة 220).

فقد  ذكر الله سبحانه الحكمة من تحريم الخمر، وهي أن إثمه أكبر من نفعه، ثم ختم الآية الكريمة بالحث على التفكر على أساس تلك القاعدة في كل أمورنا:

﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾

إن مهمة الفن هي الارتقاء بفكر الإنسان وتوسيع مداركه وفهمه، أما إن خرج عن هدفه الحقيقي بنشر الرذيلة والفجور التي يعرضها كثير من القائمين على الأعمال الفنية تحت شعار الحرية أو التقدمية أو حتى تحت شعار نقل الواقع الحياتي للناس فكل هذا يندرج تحت نشر الفحشاء، وقد حذرنا سبحانه من نشرها بقوله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النّور 19).

فهؤلاء لم يعملوا فقط على نشر الفواحش وإشاعتها بين الناس ولكنهم سهلوا ويسروا للناس الكبائر وأظهروا العلاقات المحرمة الآثمة على أنها حرية شخصية وحق من حقوق الإنسان، وعملوا على نصرة الباطل على الحق حينما يقوم بطل العمل بارتكاب كل الكبائر والموبقات ثم يعترف في الحلقة الأخيرة أنه كان على خطأ ويستعطف المشاهدين للدرجة التي تجعلهم يمجدون مرتكبي الفواحش ويبررون أفعالهم وإجرامهم على حساب ذوي العلم والخلق.

وعلى ذلك فإن تم تقديم الفن بما يفيد الناس دون أن يلبس الحق ثوب الباطل بزخرف القول فنعم العمل.

وأما بالنسبة لمسألة اللباس والألوان الفاقعة فاللباس المحتشم لا يشترط خلوه من الجمال والألوان الفاقعة، ولا يشترط أن يكون كئيبا أو نمطيا حتى يكون شرعيا، فالألوان كلها من صنع الله تعالى وقد ذكرها في أكثر من آية[1] .

وكذلك التعامل بين الممثلين فلا غضاضة فيه إن روعي فيه آداب الإسلام من العفة وعدم الخلوة، حيث أنه موجود في مجتمعاتنا كل يوم؛ في العمل وفي السوق وفي شتى مجالات الحياة.

أما بالنسبة لعرض قضايا التحرش وانتهاك الحرمات فيمكن للفن أن يقدمها متبعًا أسلوب القرآن الكريم في عرضها حين قدم لنا قصة نبي الله يوسف مع امرأة العزيز مستخدمًا أسلوب الكناية والمجاز التي عبرت عن المعنى بشكل واف دون فحش.

إنّ للفن أدواته من الرموز والإيحاءات التي لا تخدش الحياء إنْ حسنت نية القائمين عليه. وفي وقتنا الحاضر أصبحت أدوات الفن أكثر تطورًا ويمكن للتصوير والإخراج والمونتاج أن يلتقط المشاهد من زوايا عدة من شأنها أن توحي للمشاهد أن شيئًا قد حدث دون أن يراه أمام عينيه.

والكلام نفسه ينطبق على المشاهد العنيفة، وقد رأينا في كتاب الله تعالى قصة نبيه موسى حين تدخل بين الرجلين المقتتلين، وعرض كذلك كثيرًا من الآيات حول القتل والحرب دون التعرض لتلك التفاصيل التي تبث الرعب في النفوس وتعمل على نشر العنف في المجتمع.

ولكننا نرى في أغلب الأعمال الفنية التساهل في عرض المشاهد العنيفة وإسالة الدماء والسب والقذف وإظهار المجتمع في صورة عنيفة قبيحة، وفي ذلك تحريض مباشر على العنف والسلوك القبيح، بل إنها تقدم للمشاهدين طرقًا وأساليب جديدة للقتل والعنف وتناول المخدرات تحت دعوى إظهار الحقيقية وإبراز البطولة والشجاعة، وهي في الأساس دعوى لقتل المبادئ والقيم من العدل والعفو وكظم الغيظ، وذلك على الرغم من أن الفن كان قادرًا على إحيائها لما له من تأثير في نفوس المشاهدين وميل الناس لا سيما الشباب لتقليد الفنانين في كل حركاتهم ولباسهم.

وأخيرًا: ينبغي على من أراد أن يقدم فنًا أن يكون ما يقدمه هادفًا للارتقاء بالمجتمع نحو الأفضل، كأن يعرض مشكلات المجتمع ويعمل على إصلاحها دون ابتذال ولا ينساق وراء شعارات براقة بدعوى أن الجميع يفعل ذلك امتثالًا لقوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْۖ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة 105)

كما عليه أن يسعى جاهدًا لغرس القيم والأخلاق:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت 69)

وليعلم كل من يتصدى للعمل بالفن أن الأعمال النافعة يبقى أثرها طويلا وعميقا بينما الهابطة سرعان ما تختفي، طبقا للقاعدة القرآنية:

﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءًۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد 17)

وقف السليمانية/مركز بحوث الدين والفطرة

موقع حبل الله www.hablullah.com

الباحثة: شيماء أبو زيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  انظر البقرة 69، 187 ، فاطر 27، المرسلات 33

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.