حبل الله
الكتاب والسنة أم الكتاب والحكمة

الكتاب والسنة أم الكتاب والحكمة

أ.د عبدالعزيز بايندر

المقصود بالكتاب هو القرآن الكريم الذي أمر الله تعالى باتباعه دون غيره. يقول الله تعالى:

﴿‌اتَّبِعُوا ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف 7/3)

الحكمة تعني الحكم الصحيح المستنبط بإعمال العقل بطريقة علمية[1] . وقد ذكرت الكلمة في القرآن في 18 آية، وكلمة حكم في 4 آيات[2]، والمجموع 22 آية. وقد ذكرت الكلمة مقرونة بالكتاب في 13 آية[3]، وبالنظر في الآيات مجتمعة وبملاحظة المناسبات والروابط التي بينها يتبين أن الحكمة هي العلم الذي يقدم الحلول لمشاكل الناس.

أما السنة التي تعتبر من المصطلحات القرآنية المهمة فأصل معناها الطريق[4]، وقد تكرر ذكر هذه الكلمة 16 مرة في 11 آية في القرآن الكريم، وفي اثنتين من تلك الآيات يريد الله تعالى من كل إنسان أن يتبع السنة[5]، وفي التسع الأخرى حديث عن الحالة السيئة التي يقع فيها من لا يتبعون السنة[6]، وفي إحدى الآيات تأتي السنة بمعنى المنهاج أيضا[7]. تقرر الآيات أن من يتبعون السنة يفوزن في الدنيا والآخرة أما المعرضون فسيخسرون في كليهما.

مصطلحا النبي والرسول مهمان أيضا. النبي هو الشخص الذي رفع الله منزلته، والأشخاص الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة قد أنزل عليهم الكتاب والحكمة وكلفهم بحل الخلافات التي تقع بين الناس بضوء من تلك الكتب[8] ، أما الرسول فهو الشخص المكلف بنقل كلام غيره دون أن يضيف إليه أو ينقص منه شيئا. وبما أن الله تعالى قد أنزل على جميع النبيين كتبا وكلفهم بتبليغها  وتعليمها للناس كان من الضرورة أن يكون كل نبي رسولا[9].

الشريعة هي ذاتها من عهد نوح عليه السلام (الشورى 24/13) لكن هناك فوارق بسيطة جعلها الله تعالى في كل أمة للامتحان (المائدة 5/48) لهذا فإن كل كتاب أنزله الله تعالى يكون مصدقا للكتاب الذي قبله (آل عمران 3/81) ومن هنا كان مصطلح التصديق من المصطلحات القرآنية المهمة كذلك.

كل أمة نبي كانت مكلفة بالإيمان بالنبي اللاحق وبالكتاب الذي سيأتي به، وهذا ما أطلق القرآن عليه الإصر (آل عمران 3/81) وقد ارتفع الإصر بمجيء خاتم النبيين محمد عليه السلام (الأعراف 7/157)

بمرور الوقت، تم التلاعب بمفاهيم الكتاب ، والحكمة ، والسنة ، والنبي ، والرسول ، والتصديق ، والإصر ، وبهذا قد لحقت بأحكام الدين تحريفات خطيرة. والآن دعونا ندخل في التفاصيل.

أ_ الكتاب والحكمة

أنزل الله تعالى الكتاب والحكمة على جميع النبيين، وقد عدَّد الله تعالى في الآية 83 من سورة الأنعام وما بعدها أسماء 18 نبيَّا من نوح إلى عيسى عليهم السلام، ثم ذكر أنه اختار من آبائهم وأبنائهم أنبياء آخرين، ثم قال مخاطبا نبيه الخاتم:

﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ (الأنعام 6/89)

وقد روي عن نبينا أن الله تعالى قد بعث في الناس 124000 نبي[10] ، ولا بد أن جميع هؤلاء من آباء وأبناء وإخوان الثمانية عشر نبيا المذكورين في سورة الأنعام.

بحسب الآية التالية ، فإن دليل الأحكام المعطى لكل نبي مع الكتاب هو الحكمة:

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي[11] قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾. (آل عمران 3/81)

الكتاب والحكمة ليسا بشيئين منفصلين، بل هما متشابكان حتى صارا شيئا واحدا لا يتفكك. يقول الله تعالى:

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ ‌وَالْحِكْمَةِ ‌يَعِظُكُمْ ‌بِهِ﴾ (البقرة 2/231)

لو كانت الحكمة شيئا منفصلا عن الكتاب لجاء قوله تعالى (يعظكم بهما) بدلا من (يعظكم به)

وبحسب الآيات التالية فمن الضروري الإيمان بالكتاب والحكمة التي أنزلت على الأنبياء باستسلام كامل. والذي يفصل أحدهما عن الآخر يكون قد خرج عن الطريق الحق.

﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ‌فَسَيَكْفِيكَهُمُ ‌اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾  (البقرة 2/136-137)

نظرًا لأن الناس كانوا أبناء نفس الأبوين؛ آدم وحواء ، فقد كان زواج الأشقاء ضروريا في البداية.  ومعلوم أن هذا كان جائزا من عهد آدم عليه السلام إلى عهد نوح عليه السلام ، لكن  الوضع تغير منذ نوح وأصبح زواج الأشقاء محرما. ويحتمل أن تكون هناك أحكام أخرى قد تغيرت. قال الله تعالى:

﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى 42/13)

يصدق القرآن الكتب السابقة ويحفظ محتوياتها، ذلك أن الشريعة هي نفسها دائمًا باستثناء التغييرات الطفيفة التي تم إجراؤها بداعي الاختبار. قال الله تعالى:

﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا[12] مِنكُمْ شِرْعَةً[13] وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ[14] إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ . (المائدة 5/48)

يخاطب الله تعالى العالمين بمحتويات الكتب السابقة على النحو التالي:

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا[15] مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ[16] وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ . (المائدة 5/15-16)

وقد أعطا الله التحذير التالي للبشرية جمعاء:

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ[17] مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ[18] . وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ . (يونس 10/108-109)

القرآن هو كتاب الله الأخير الذي تكفل بحفظه بنفسه وأمر الناس باتباعه وطاعة أحكامه. وقد أمر الله تعالى نبينا محمدا عليه السلام الأمر الآتي:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا . وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ . (الأحزاب 33/1-3)

كل الآيات المذكورة أعلاه وكثير غيرها تؤكد _بما لا يدع مجالا للشك_ بأن المصدر الوحيد الذي يجب اتباعه اليوم هو القرآن.

1_ علم الحكمة

علم الحكمة هو علم استخراج الحلول التفصيلية من كتاب الله المنزل. نتعلم هذا من الآية التالية:

﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون (الأعراف 7/52)

يشير الضمير “هم” في كلمة “جئناهم” إلى كل من تلقى كتاب الله تعالى بدءًا من الإنسان الأول. لأن الآية تأتي بعد الآيات التي تنص على أن أهل الجنة سيواجهون ما وُعدوا به في الجنة وأهل النار سيواجهون ما وعدوا به فيها، وهي توضح أن ما سيواجهونه من مصير يعتمد على موقفهم من الآيات. (الأعراف 7/43-51)

والآيات التي تبين أن القرآن الذي هو آخر كتاب من كتب الله يقدم تفسيراً لكل شيء هي كما يلي:

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ . (النحل 16/89)

﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ . (يوسف 12/111)

ويوضح الله تعالى منهجه في تفصيل كتابه، ولماذا استخدم هذا الأسلوب على النحو التالي:

﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ[19] فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ (هود 11/1-2)

وحقيقة أن آيات القرآن محكمة هي أنها واضحة ونهائية ومعقولة. قال الله تعالى:

﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ (البقرة 2/99)

حقيقة أن الآيات واضحة ومفهومة لا تعني أنها لا تحتاج إلى شرح، لهذا السبب فقد وصف الله أيضًا الآيات بأنها مبينات.

﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النور 24/46)

من الممكن الوصول إلى كل التفاصيل في القرآن الكريم من خلال جمع الأمثلة والمواعظ  جنبًا إلى جنب مع الآيات التفسيرية.

﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ . اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ . (النور 24/34-35)

لقد وضع الله تعالى في كتابه نظامًا ثنائيا (المثاني) من خلال إيجاد أوجه تشابه بين الآيات الواضحة والآيات التفسيرية. يقول الله تعالى:

﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر 39/23)

الآيات البينة والمُبينة تشكل مجموعات ثنائية. كل واحدة من هذه المجموعات تسمى قرآنا. وقد أمر الله تعالى نبينا بما يلي:

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾. (طه 20/114)

وهناك آية أخرى متعلقة بالموضوع:

﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ[20] وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ (الإسراء 17/106)

يمكن للفريق الذي يعرف علم الحكمة واللغة العربية أن يصل إلى تفصيلات الله تعالى. قال الله تعالى:

﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا[21] عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت 41/3)

والآية التالية تلخص الموضوع برمته:

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[22] فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[23] وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ[24] إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران 3/7)

2_ تعليم الكتاب والحكمة

علم الله الكتاب والحكمة لجميع أنبيائه. اثنتان من الآيات التي تصف ما حدث بعد أن علمت أُمنا مريم أنها ستحمل بالمسيح عليه السلام هما كالتالي:

﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ[25]﴾ (آل عمران 3/47-48)

يقول الله تعالى مخاطبا نبينا الكريم:

﴿وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء 4/113)

﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ[26] بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء 4/105)

ويذكر في أربع آيات[27] أن محمدا عليه السلام قد علم أمته الكتاب والحكمة وعمل على تزكيتهم. ومن تلك الآيات ما يلي:

﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ (آل عمران 3/164)

عندما كان نبينا في مكة كان يعلم الكتاب والحكمة في الليل. يقول الله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ (المزمل 73/7)

في الآية التالية التي نزلت في المدينة كان نبينا يفعل ذلك مع جماعة من المسلمين:

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ . (المزمل 73/20)

فيما يتعلق بالأماكن التي يتم فيها تعليم الحكمة والأشخاص المشاركين في التعليم يقول الله تعالى:

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ[28]. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ[29] عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ[30] . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .

نفهم من الآية التالية أن تعليم الكتاب والحكمة كان يتم أيضًا في بيت نبينا:

﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ (الأحزاب 33/34)

ويمكننا أن نخلص إلى أن الأنبياء كانوا مسؤولين عن نقل الآيات وتطبيقها. بما أن كل نبي هو أيضًا رسول الله فإنه يعلم الكتاب والحكمة بصفته رسولا. ولا يمكنهم أن يخطئوا عندما يقومون بدور الرسل (الحاقة 69 / 44-47). ومع ذلك فقد يخطئون في الوصول إلى  الحكمة لأنهم يقومون بذلك بصفتهم أنبياء أي بجهودهم الذاتية وليست بالوحي. وسوف يأتي هذا الموضوع أدناه.

ب_ الكتاب والسنة

لم يتم ذكر كلمتي الكتاب والسنة معًا في أي آية من آيات القرآن الكريم، لأن سنة الله هي الطريق الصحيح الواسع الذي حدده الله تعالى، وهذا الطريق هو المجال الذي يطبق فيه الكتاب والحكمة. والطريق الذي لا يُطبق فيه الكتاب والحكمة لا يمكن أن يكون سنة. بعد سرد الأحكام الخاصة بالعديد من القضايا من بداية سورة النساء إلى الآية 26 ، جاء قوله تعالى:

﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النساء 4/26)

يجب على أنبياء الله اتباع السنة قبل غيرهم. ومن سنة الله أنه جعل أنبياءه قدوة حسنة للناس (النور 24/34 ، والأحزاب 33/21 ، 38).

بعد أن طلق زيد بن حارثة (مُتبنَّى نبينا الكريم) زوجتَه زينب أمرَ الله تعالى نبيه أن يتزوج منها. والسبب في ذلك جعله قدوة حسنة للمسلمين في الزواج وبيان أن التبني لا ينشئ المحرمية وبالتالي يجوز للمرء الزواج من مطلقة متبناه. وبما أن نبينا الكريم لم يكن من السهل عليه أن يقبل مثل هذا الزواج ، فقد عززه الله تعالى بالآية التالية:

﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ (الأحزاب 33/38)

وقد جاء فيمن لا يتبع السنة ما يلي:

﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ[31] وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ[32] لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا .مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا[33] . سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب 33/60-62)

لقد تم تجريد مفهوم سنة الله من تعريفه القرآني فتم تعريفه على النحو التالي:

“سنّة الله هي القوانين التي وضعها الله في خلق الطبيعة والحفاظ عليها وتنظيم الحياة الاجتماعية”[34].

أما كلمة مصطلح “السنة” فقد تم تشكيل مفهوم جديد له من خلال إطلاقه على ما روي عن نبينا عليه السلام من الأقوال والأفعال. يقول الإمام الشافعي المتصدر لهذا التوجه:

“السنة هي وحي مثل القرآن الكريم. فلا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال. وإن القرآن لا ينسخ السنة ولا تنسخ السنة إلا السنة مثلها”[35]

هذا الفهم الذي يتعارض مع القرآن متجذرٌ في العالم الإسلامي لدرجة أنه عندما يتم ذكر السنة اليوم لا يخطر بالبال أي شيء غير ما ذكره الشافعي. وسنأتي على ذكر هذا الموضوع مرة أخرى إن شاء الله.

ت_  التصديق

التصديق هو تأكيد حقيقة شيء ما، والقرآن يصدق كتب الله تعالى المنزلة على الأنبياء السابقين. يقول الله تعالى مخاطبا خاتم النبيين:

﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ (القرآن) بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ[36] وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ (آل عمران 3/3)

إن الشرط الذي لا غنى عنه لصحة إيمان أتباع الأنبياء السابقين هو أن يؤمنوا بالرسول الجديد، لأن الكتاب المنزل إليه يؤكد الكتاب والحكمة الذي جاءهم من قبل، لقد كان القرآن آخر الكتب نزولا فهو نسختهم الأخيرة المصدقة التي لا بد أن يؤمنوا بها.  إحدى الآيات ذات الصلة هي قوله تعالى:

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ . (آل عمران 3/81)

ث_ الإصر

الإصر هو واجب الإيمان بالرسول القادم. وبما أن محمدا عليه السلام هو خاتم الأنبياء ، فقد رفع عنه وعن المؤمنين به الإصر[37]. لأنه لن يأتي نبي جديد أو كتاب جديد بعده. يقول الله تعالى عن اليهود والنصارى الذين يسيرون على الصراط :

﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ[38] الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

تتحدث التوراة عن نبينا الخاتم كما يلي:

“أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ” (سفر التثنية، 18/ 18-19)

وتعبير (من وسط إخوتهم) يشير إلى القربى بين بني اسحاق وبين بني إسماعيل، وأهلُ مكَّة هم من نسل إسماعيل عليه السَّلام، أمَّا بنو إسرائيل فهم من نسل أخيه إسحاق، فقوله من وسط إخوتهم أي من وسط بني إسماعيل، أي أهل مكة.

وعبارات الإنجيل هي كما يلي:

“وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي: أَيْنَ تَمْضِي؟ لكِنْ لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هذَا قَدْ مَلأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ. لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ. إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُم”. (انجيل يوحنا 16/5-14)

بعد أن نسي المسلمون أن “الإصر” أي واجب الإيمان بالنبي القادم قد انتهى ببعثة آخر نبي محمد (ص) أصبح الاعتقاد بعودة المسيح عيسى (ص) أو المهدي في آخر الزمان من أسس الإيمان الذي لا يقبل من أحد إنكاره بالرغم من أن كتاب الله تعالى ينفي احتمالية ذلك.

لما تآمر اليهود على عيسى عليه السلام ، قال الله له:

﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي ‌مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ[39] إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (آل عمران 3/55)

بحسب الآية 39 من سورة الزمر فإن الموت هو انفصال الروح عن الجسد. يأخذ الله روح الإنسان بطريقتين، الأولى عندما ينام والأخرى عندما يموت. الروح مثل نظام تشغيل الكمبيوتر، فهي تحمي جميع المعلومات الشخصية، ولهذا يحفظ الله روح الجسد النائم والميت. عندما يستيقظ الإنسان من النوم تكون روحه قد عادت إليه، أما الميت فتعود روحه إليه عند البعث / تكوين الجسد (المؤمنون 23/100 و التكوير 81/7).

بما أن المسيح عليه السلام سيكون كلامه الأول بعد موته في الآخرة، فإن وفاته المذكورة (آل عمران 3/55) تعني أنه قد مات. نتعلم هذا من الآيات التالية عن الآخرة:

﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ ‌إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ[40] عَلَّامُ الْغُيُوبِ[41]. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة 5/116-119)

إن تجاهل هذه الآيات قاد إلى الاعتقاد الخاطئ المتعلق بعودة المسيح آخر الزمان، وكما نرى بوضوح فهو اعتقاد مخالف للقرآن.

نسيان أو التعامي عن مفهوم الإصر جعل بعض الجماعات تتوقع قدوم المهدي أيضا. المهدي هو الشخص الذي قد هداه الله تعالى إلى الحق[42]، كما يطلق على الشخص الذي تم التأكد من دخوله الصراط المستقيم. وبما أن الله يدل أنبياءه على الصراط المستقيم ويقبلهم في طريقه فكل منهم مهدي (الأنعام 6/87). وقد وصف ما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة بالهدى. ومن يلتزم بكتاب الله ويتبع المسار الذي يبينه يصبح مهديا بمعنى الشخص الذي تم التأكد من دخوله الصراط المستقيم (آل عمران 3/101 ، المائدة 5 / 15-16).

ولأن المهدي يأتي بمعنى من دخل الطرق الصحيح فإن العرب يقولون لمن خرج مسافرا “راشدا مهديا” وهو دعاء له بتوفيقه ليسلك الطريق الصحيح في السفر.

بإرساله خاتم النبيين محمد عليه السلام بالقرآن المصدق لما بين يديه من الكتاب والهادي إلى الصراط المستقيم فقد انتهى انتظار المهدي. ومنذ نسيان مفهوم الإصر لا يزال البعض يتوقع قدوم المهدي أو المسيح. ولكن حتى لا ننسى هذا المفهوم الهام ، أرشدنا الله تعالى أن ندعوه بما يلي:

﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ (البقرة 2/286)

ج_ النبي والرسول

يرتبط مفهوما النبي والرسول ارتباطًا وثيقًا بالموضوع. النبي هو شخص رفع الله منزلته. وقد أعطى الله الكتاب والحكمة لمن جعلهم من الأنبياء ، وكلفهم بحل الخلافات بين الناس (البقرة 2/213). أما الرسول فهو الشخص المسؤول عن نقل كلمات أحدهم إلى الآخر دون إضافة أي شيء منه. وبما أن أنبياء الله مسئولون ليس فقط عن تطبيق الكتاب والحكمة ، ولكن أيضًا عن إيصالهما وتعليمهما للناس ، فإن كل نبي هو أيضًا رسول.

1_ رسول الله تجب طاعته دون قيد أو شرط

والواجب على رسول الله أن ينقل كلام الله إلى الناس دون أن يضيف عليه شيئاً منه. فإن أضاف شيئاً أو أنقص أو غيَّر فإن الله يعاقبه بأقسى الطرق. يقول الله تعالى:

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة 69/44-47)

﴿فَهَلْ ‌عَلَى ‌الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (النحل 16/ 35)

﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ ‌بَلِّغْ ‌مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة 5/67)

لهذا السبب فقد جعل الله تعالى طاعة الرسول طاعة له. يقول الله تعالى:

﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾ (النساء 4/80)

وبما أن الله لا يخاطبنا بمراده منا إلا من خلال رسوله ، فإن التركيز الرئيسي في الآيات التي تُستخدم فيها كلمتا الله ورسوله معًا يكون على الرسالة التي ينقلها الرسول. واحدة من الآيات جاءت على النحو التالي:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب 33/36).

2_ طاعة النبي مشروطة بالمعروف

إن الأقوال والممارسات التي صدرت عن محمد عليه السلام بصفته نبيا هي ما استنتجه من القرآن بعلم الحكمة، ولكن لا يلزم أن يكون استنتاجه صائبا على الدوام. في واقع الأمر قد تم تضمين العبارة التالية في اتفاق نبينا مع النساء اللواتي تركن أهلهن وهاجرن من مكة إلى المدينة بعد معاهدة الحديبية:

﴿وَلَا ‌يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ (الممتحنة 06/12)

المعروف هو ما كان موافقا للقرآن الكريم[43] ، وهذا يعني أنه كان بالإمكان عدم طاعة النبي في أقواله التي لا تتفق مع المعروف (القرآن). وفي الفقه التقليدي لا يمكن أن يكون كلام النبي وفعله مخالفا للقرآن، لكن الآية التالية المتعلقة بزيد بن حارثة وزينب تعد مثالا حيا على إمكانية حصول ذلك:

﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ[44] أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ (الأحزاب 33/37)

ولما أراد زيد أن يطلق زوجته زينب، خشي محمد عليه السلام أنه إذا تم الطلاق من أن يزوجه الله منها ليكون قدوة للمسلمين في هذا الصدد. لأن من وظيفة النبي أن يكون قدوة. يقول الله تعالى:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب 33/21)

كان المتبني في ذلك المجتمع كالابن الحقيقي، ولكن وفقًا للآيات التالية  فإن التبني غير معتبر ولا بد من إلحاق الولد بوالده، وإن لم يُعلم الوالد فهو أخ في الدين ومولى:

﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ[45] مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب 33/4-5)

بحسب الآية التالية ، فإن تحريم الزواج يقتصر على زوجة الابن الحقيقي ، أما زوجة الابن  المتبنى فلا تدخل في نطاق المحرم الزواج منهن:

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ … وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ (النساء 4/23)

بعد أن نزلت هذه الآيات رأى محمد عليه السلام أن زيدًا قد طلق زوجته، فخاف من أن يأمره الله تعالى بالزواج من مطلقة متبناه فقد قال لزيد: ” أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ” (الأحزاب 33/37). ولكن زيدا لم يستمع ولم يمسك عليه زوجته، لأنه لم يكن عليه واجب إطاعة أمر النبي إذا لم يكن متوافقا مع القرآن. وقد أمر الله تعالى الجميع بهذا الأمر:

﴿اتَّبِعُوا ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف 7/3)

لقد منح الله تعالى محمدا عليه السلام سلطة الحكم بين الناس. لكن سلطانه يقتصر على ما في كتاب الله (الأحزاب 33 / 1-3). وبما أن الله تعالى أعطى زيدا سلطة تطليق زوجته (البقرة 2 / 228-232 ، الطلاق 65 / 1-3) فكان على الطرفين أن يطيعا أمر الله تعالى:

﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ  إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ (القرآن) إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ (النساء 4/59)

ثم حدث ما خشيه محمد عليه السلام ، فقد طلق زيدٌ زينبَ ، ثم لم يترك الله الأمر لنبيه وإلى زينب فزوجهما الله بإرادته الخاصة وبين سبب ذلك على النحو التالي:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (الأحزاب 33/37)

لم ترغب زينب في هذا الزواج أيضًا ، ولكن وفقًا للآية التالية وهي السابقة للآية التي تزوجهما، لم يكن بإمكان محمد عليه السلام ولا زينب الاعتراض على هذا التزويج:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب 33/36)

كلمة رسول في هذه الآية تعني رسالة الله. لأن كلمة الرسول في اللغة العربية تأتي بمعنى الرسالة والمرسل[46]. وقد كان نبينا وزينب أول من خوطبوا بالآية، لذا فقد أطاعا أمر الله في كتابه ، ووافقا على تزويج الله تعالى لهما، نتعلم هذا من العبارة التالية في الآية:

﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (الأحزاب 33/37)

لقد سمع زيد أمر محمد عليه السلام عندما قال له: “أمسك عليك زوجك” (الأحزاب 33/37) وقد كان هذا الأمر مباشرا ولم يصل زيدا عن طريق الرواية ، لكن زيدا لما رأى الأمر غير موافق للقرآن لم يقبله، ولم يوجه الله تعالى عتابا لزيد لمخالفته أمر محمد، بل عاتب محمدًا عليه السلام. ينبثق من كل هذا الاستنتاج التالي:

“بينما يقع على كل مسلم واجب طاعة ما قاله محمد عليه السلام بصفته رسولًا دون قيد أو شرط ، فإن قبول ما قاله بصفته نبيًا يعتمد على شرط التوافق مع القرآن”.

النتيجة التي يتوصل إليها محمد عليه السلام من خلال استدلاله من القرآن بصفته نبيا قد تكون خاطئة، لأنه يفعل ذلك بوصفه بشرا. إحدى الآيات التي تبين هذا هي:

﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ[47] إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النساء 4/176)

المخاطب بقوله تعالى “يستفتونك” هو محمد عليه السلام، إلا أن الآية تختم بخطاب للنبي والمؤمنين جميعا: ” يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ “. وهذه الملاحظة مهمة للغاية، لأن استنباط الحكم الصحيح من كتاب الله تعالى ليس مسؤولية خاصة بالنبي وحده بل به وبالمسلمين معه. لأنه بحسب الآية التالية كان على نبينا أن يبحث مع فريق من الخبراء عن إجابة للأسئلة المطروحة:

﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا ‌عَرَبِيًّا ‌لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت 41/3)

إن الآية رقم 176 من سورة النساء التي تبين أن فريق الخبراء بقيادة نبينا يمكن أن يكون مخطئًا في الفتوى ، هي دليل واضح على مدى خطأ ادعاء أن هناك وحيا غير القرآن الكريم (ما يسمى بالوحي غير المتلو). وفقًا لكل هذه الآيات البينات في هذه المسألة فإنه لا يمكن قبول ادعاء الإمام الشافعي التالي:

“السنة هي وحي مثل القرآن الكريم. فلا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال. وإن القرآن لا ينسخ السنة ولا تنسخ السنة إلا السنة مثلها”[48]

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، فمع تقادم الزمان تم دفع القرآن إلى المرتبة الثانية. ينقل الأوزاعي (ت ١٥٧م/٧٧٤هـ) عن يحيى بن أبي كثير أنه قال:

«السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ الْقُرْآنُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ»[49]

من المهم جدًا أن يتم عرض قصة زيد وزينب (الأحزاب 33/37) والنساء اللائي هاجرن من مكة (الممتحنة 60/12) كأمثلة على ضرورة التحقق من مطابقة كلام محمد عليه السلام _كنبي_ للمعروف.

منذ أن نشأ زيد إلى جانب نبينا كانت معرفته الدينية على مستوى عالٍ. لكن مستوى المعرفة لدى النساء المهاجرات من مكة كان ضعيفاً. كان بإمكان هؤلاء النساء التحقق مما سمعنه من محمد عليه السلام _ في الغالب_ من حيث التوافق مع فطرتهن. لقد سبق أن عُرّف دين الله بالفطرة (الروم 30/30). والفطرة هي القوانين والقواعد المعمول بها في البنية الطبيعية. ينسجم الدين الحق مع دستور المرء الطبيعي (فطرة المرء). من هنا وجب النظر في الأسئلة الدينية التي يطرحها المرء بغض النظر عن هويته أو مستوى معرفته.

ح_ من أين إلى أين

إذا سألت علماء التفسير عن الحكمة التي هي أحد أهم مفاهيم القرآن ، سيقولون “الحكمة هي  السنة” وذلك بناءً على قول الإمام الشافعي التالي دون الاعتماد على آية أو حديث:

“سمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكرَ الله منَّه على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ – والله أعلم – أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنةُ رسول الله”[50]

وقد جاء في الآيات: البقرة 2/129 ، 151 ، وآل عمران 3/164 ، والجمعة 62/2. أن الله تعالى قد علَّم نبيه محمدا عليه السلام الكتاب والحكمة بصفته رسولاً. وإن سألت علماء التفسير كيف علَّمه؟ فإنه لا يمكنهم العثور على إجابة لتقديمها.

عندما تم نسيان الحكمة نُسي أيضا حقيقة أن لا أحد غير الله مخولا بتفسير القرآن، وقد وضع العلماء أنفسهم _ عن علم أو بغير علم_ في مكان الله وأخذوا على عاتقهم تفسير القرآن (هود 11 / 1-2) وبهذا انقلب كل شيء رأسا على عقب. وبما أن القهر يأتي دوره حيث تنتهي الكلمة ، فإنهم بدأوا بالضغط على الناس وشكلوا رأيا جامعا لقتل من يرتد عن الدين أو يلعن أو يهين النبي[51].

تم هذا الاتفاق بالرغم من كثرة الآيات التي تخالفهم ، فعندما كان نبينا على قيد الحياة ، كان فريق من اليهود يؤمن به في الصباح ويكفر في المساء، وذلك لصد الناس عنه، لكن لم يعاقب نبينا أيا منهم بالقتل أو ما دونه. الآيات التي تصف ذلك هي:

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (آل عمران 3/72-73)

وفي غزوة بني المصطلق قام عبد الله بن أُبي بن سلول_زعيم قبيلة الخزرج ورأس المنافقين_ ومن حوله بتوجيه الإهانة للنبي والمؤمنين:

﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ‌الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون 63/8)

وبما أن هؤلاء المنافقين لم يجتازوا الخطوط الحمراء الثلاثة فإن النبي الكريم لم يتعرض لهم بسوء، وهذه الخطوط هي:1. أن يقاتلوا المسلمين في دينهم 2. أن يخرجوهم من ديارهم 3. أن يظاهروا من يحاول إخراج المؤمنين من ديارهم.

فإن لم يتجاوزوا أي واحد من هذه “الخطوط الحمراء” فإن حالة السلم تبقى قائمة بل يمكن المحافظة على علاقة صداقة معهم لقوله تعالى:

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(الممتحنة 9- 60/8 ).

لكن الممنوع أن نعتبر مثل هؤلاء أصدقاء من الدرجة الأولى (آل عمران 3/28).

على الرغم من أن كل شيء كان واضحًا وبينا ، إلا أن الفقه التقليدي لم يقبل فقط قتل المرتد أو شاتم الرسول أو مؤذيه بل وضع عقبات لا يمكن التغلب عليها أمام إمكانية طرح الأسئلة الدينية التي تعبر عن شكوك السائل .  يذكر محمد أمين الملقب بابن عابدين (ت ١٢٥٢/١٨٣٦)  أنه رأى سؤالا في معروضات أبي السعود[52] ما ملخصه:

” إذا ذكرت حديثا للنبي في حضرة تلميذ، فقال التلميذ: هل كل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بها؟ فكانت إجابة أبي السعود كما يلي: بما أن هذا الأسلوب في السؤال يظهر أن كلام النبي يحتمل أنه لا يعمل به ، فإن من قالها يصبح كافراً. ثانياً: أنه نسب شيئاً غير لائق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فالذي قال هذا يؤمر بتجديد إيمانه بسبب أسلوبه في السؤال ولا يقتل. لكن مضمون السؤال يظهر أنه زنديق، وبعد القبض عليه لا تقبل توبته بالإجماع ويقتل”[53].

دعونا نغلق هذا الموضع بإعطاء بضعة أمثلة أخرى للكتاب والحكمة التي تم تعطيلها.

خ_ أمثلة على تعطيل الكتاب والحكمة

المقصود بالكتاب هو القرآن. أما الحكمة المعطلة  فهي الحلول التي استمدها نبينا من القرآن بعلم الحكمة وهي التي يسميها التراث بالسنة. ولا يمكننا التثبت من صحة نسبة تلك الحلول لنبينا إلا باستخدام علم الحكمة أيضا. كما رأينا أعلاه ، فقد تم تغيير معنى السنة أولاً ، ثم اعتُبر القرآن والسنة كمصدرين منفصلين. الأساس الذي اعتمد عليه التراث في هذا الفهم هو الآية 36 من سورة الأحزاب. يقول الله تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب 33/36)

وقد تم الزعم أن سبب نزول هذه الآية الحادثة التالية:

“عن ابن عباس قوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا….} إلى آخر الآية، وذلك أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انطلق يخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فانكحيه، فقالت: يا رسول الله أؤمر في نفسي، فبينما هما يتحدثان أنـزل الله هذه الآية على رسوله  {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ …} إلى قوله {ضَلالا مُبِينًا} قالت: قد رضيته لي يا رسول الله مَنكحًا؟ قال: ” نعم ” قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي”[54].

هذه الرواية التي لم ترد في كتب الصحاح نقلها أبو جعفر الطبري  (نسبة إلى طبرستان على ساحل بحر قزوين في شمال إيران)  وضمَّنها في تفسيره المشهور بعد 225 سنة من الهجرة. هذه الرواية أسندها الطبري إلى ابن عباس الذي كان يبلغ من العمر 5_8 سنوات عند زاج زينب، ولم يكن قد هاجر بعدُ إلى المدينة حيث حدثت قصة زواجها. هذه الرواية تتفق تماماً مع ما قاله الشافعي: “لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال”[55].

ما يعنيه بكلمة الرسول هنا هو حديث محمد عليه السلام وليس الآيات التي بلغها ،  ولو كانوا يقصدون الآيات ، فلا يمكنهم الحديث عن حكمين منفصلين.

ومن الواضح أن هذه الرواية التي تفيد بأن زينب قبلت طلب النبي محمد عليه السلام واضطرت إلى الزواج من زيد هي من المفترى على نبينا الكريم لأنها تتعارض مع الآية التالية حول طلاق زيد من زينب. الآية على النحو التالي:

﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ (الأحزاب 33/37)

﴿بحسب هذه الآية لم يطع زيد أمر محمد عليه السلام ، ” أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ” (أحزاب 33/37) ، بل أصر على رأيه وطلّقها، ووفق الفهم التقليدي للسنة النبوية فإن هذا السلوك يجعل زيدا كافرا، لكن الآية لم تعتبره كذلك حتى إنها لم توجه له عتابا بل وجهته لمحمد عليه السلام، ذلك أن الله تعالى قد أعطى زيدا سلطة تطليق زوجته، فلا أحد يستطيع أن يمنعه في هذا الأمر، وكذلك الأمر بالنسبة لقرار زينب بالزواج.

1_ الإيمان

يمكننا أن نعطي مثالاً للإيمان بالكتب الإلهية. بحسب التراث فقد أنزل الله تعالى الكتاب على الرسل وليس الأنبياء. وأن الكتب التي أنزلها الله هي التوراة والإنجيل والمزامير (الزبور) والقرآن بالإضافة إلى صحف إبراهيم وموسى. لكن الله تعالى بين أنه أنزل الكتاب والحكمة على جميع أنبيائه ، بناء على ذلك فحصر التراث الكتب المنزلة بما ذكروا هو مخالف للقرآن (البقرة 2 / 136-137 ، 213 ، آل عمران 3 / 81-84 ، النساء 4/163). يقول الله تعالى:

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا[56] وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ . قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران 85 – 3/81)

2_ العبادة

دعونا نعطي مثالاً عن موضوع العبادة ، النهي الوحيد المتعلق بالمرأة الحائض هو الجماع (البقرة 2/222). إلا أن المذاهب اتفقت على أن الحائض لا تستطيع الصلاة والصوم بالرغم من مخالفة هذا الرأي للقرآن الكريم. والحق أنه لا يمكن ترك صلاة واحدة إلا بعذر يقبله الله. وقد روي عن نبينا أنه قال:

«‌مَنْ ‌تَرَكَ ‌صَلَاةً مَكْتُوبَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»[57] وروي عنه أيضا: «مَنْ ‌تَرَكَ ‌صَلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»[58]

والعذر الذي يقبله الله هو النسيان أو النوم. ولما كانت هذه خارجة عن قدرة الإنسان فإن الله لا يحاسب أحدا على تقصير بسببهما (البقرة 2/286).

وقد روي عن نبينا أنه قال:

“من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها متى ذكرها”[59]

لقد أمر الله تعالى جميع الناس بالمداومة على الصلاة دون تفريق بين رجل وامرأة. يقول الله تعالى:

﴿حَٰافِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ[60] وَقُومُوا۟ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ . فَإِنْ خِفْتُمْ[61] فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا۟ تَعْلَمُونَ[62]﴾ . (البقرة 2/238-239)

في سورة المؤمنون ، جاء ذكر لصفات المؤمنين ، ومنها أنهم يحافظون على صلاتهم:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ (المؤمنون 23/9)

قد يُعتقد أن دم الحيض يمنع الوضوء، لأن خروج الدم عند الحنفية ينقض الوضوء. أساسهم في هذه المسألة الرواية التالي: “الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ” هذا الحديث لم يرو في أي من كتب الصحاح حتى إن الدار قطني قد رواه وضعفه في سننه، وبالرغم من هذا اتخذ دليلا على أن خروج الدم من الإنسان ينقض الوضوء.

وكما أنه لا يوجد نص على خروج الدم في آية الوضوء  فكذلك لا يوجد حكم يفرق بين الرجل والمرأة فيه (المائدة 5/6). ولهذا فإن الزعم بنقض الوضوء بخروج الدم لا أساس له. وبناء على هذا فلا يقال في الحائض شيء غير ما ذكر الله تعالى من تحريم الجماع.

وأما إن جئنا إلى صيام الحائض فإن الآيتين 184 و 185 من سورة البقرة لم تذكرا عذرا لترك الصيام في غير السفر والمرض، وبشرط أن يصوم المفطر بعد انقضاء الشهر. وبعد أن ورد في البقرة 187 أن المفطرات تقتصر على الأكل والشرب والجماع نص على ما يلي:

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (البقرة 2/187)

ولأن دم الحيض لا يعد من قبيل الأكل والشرب والجماع ، فمن الواضح أن القول بأن الحائض لا تستطيع الصيام هو تجاوز للحدود. ولا أحد ، بمن في ذلك نبينا ، له الحق في ذلك. من تجاوز الحد الذي وضعه الله تعالى فإنه يضع نفسه في حالة سيئة (البقرة 2/229 ، الطلاق 65/1) ويتعرض لعذاب مهين في النار (النساء 4/14).

رأينا أن زيدًا لم يتبع أمر نبينا لأنه رأى أنه مخالف للقرآن ولم يُلام عليه (الأحزاب 33/37). وعليه فإن الزعم بأن الحائض لا تستطيع الصيام في رمضان بناء على قول منسوب لنبينا ومخالف للقرآن هو أمر مرفوض.

مثل هذا الادعاء لا يمكن أن يتم على أساس ما تسميه المذاهب بالإجماع. لأنه ثبت بمثال نبينا أنه لا يوجد دليل على الإجماع. لقد أخطأ نبينا في غزوة بدر فيما يتعلق باتخاذه الأسرى ، وقد اصطف معه الصحابة. يقول الله تعالى:

﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال 8/67)

اتخاذ المسلمين الأسرى قبل تحييد العدو كان مخالفًا للآية التي نزلت سابقًا:

﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ… ﴾ (محمد 47/4)

ولولا وعد الله المسبق بالنصر لكان نبينا والمسلمون قد عوقبوا بشدة على اتخاذهم الأسرى بالإجماع التام في بدر. نتعلم هذا من الآية التالية:

﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ[63] مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ[64] فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال 8/68)

وقد ورد تعبير {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في 14 آية، سبعة منها بحق الكافرين[65]، واثنتين بحق المنافقين[66]، وخمسة بحق مرتكبي المخالفات الكبيرة من المؤمنين[67]. والآية التي نحن بصددها من الخمس الأواخر.

وفيما يخص اتخاذهم الأسرى قبل الإثخان في الأرض، جاء قوله تعالى معاتبا: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (الأنفال 8/76)، والآخرة هي المشار إليها في الآية التالية، والتي تنبئ عن سنة من سنن الله تعالى:

﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}. (الإسراء 17/76-77)

لقد أراد الله تعالى تحقيق النصر لنبيه في معركة بدر لإمضاء سنته المشار إليها في قوله تعالى ” وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ” ، لأنها وقعت بعد سنتين من إخراجه من مكة، فكان من الطبيعي أن يسترد المسلمون مكة  لو أنهم اتبعوا قواعد الله في الحرب (الأنفال 8/7) ولأن المسلمين لم يلتزموا تلك القواعد فاتهم استرداد مكة ، لكن الله تعالى أوفى بوعده الوارد في سورة الروم بتحقيق فرح للمؤمنين بنصر الله تعالى لهم (الأنفال 8/68 ، الروم 30 / 1-6).

xxx حسب التراث الفقهي فإنه لا يمكن رد أي من أقوال وممارسات محمد عليه السلام، أي سنته ، لأنهم يعتبرونها المصدر الثاني للدين. كما ينسبون صفة العصمة للأنبياء ، وأن الله تعالى يحفظهم من الوقوع في الذنوب. لذلك لا يمكن القول بأن محمدا عليه السلام قد ارتكب من كبائر الذنوب. كما أن عدم قبول إجماع الصحابة الذي وصل إلينا بالتواتر يجعل الإنسان كافراً. ولكن بما أن الآية السابقة تكشف أن كل هذا مخالف للقرآن ، فإنها تدمر البنية الأساسية التي قام عليها التصور التراثي لكثير من المسائل .

3_ النكاح

وفقًا للقرآن فلا يصح النكاح قبل أن يبلغ المتزوجين سن الرشد (النساء 4/6) ، ويجب الابتعاد عن العلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية (النساء 4 / 24-25 ، المائدة 5/5 ، النور 24 / 3) ويشترط أن يتم عقد النكاح بالإرادة الحرة للزوجين (البقرة 2/232 ، النساء 4/4 ، 21). لكن لم يقبل أي من المذاهب شرطي الامتناع عن العلاقات خارج نطاق الزواج وبلوغ سن الرشد. ووفقا لهم حتى الأطفال الصغار يمكنهم أن يتزوجوا.

أما المذهب الحنفي فيتجاهل الآيات ذات الصلة ، ويفسر الحديث التالي بما يجعل الزواج والطلاق الذي يتم تحت الإكراه نافذا:

«ثلاث جدُّهنَّ جَدٌّ وهَزْلُهُنَّ جدٌّ: ‌النكَاحُ، ‌والطَلاقُ، ‌والرَّجْعَة»[68]

وبما أن الحديث لم يأتِ على ذكر الإكراه ، فقد كان عليهم أن يبدوا التعليق التالي: “إذا كان الهزل الذي هو نقيض الجد لا يمنع من صحة انعقاد هذه الثلاثة ، فإن الإكراه لا يمنعها أيضًا. لأن الإكراه ليس ضد الجد. ذلك أن الشخص الواقع تحت الإكراه يمكنه اتخاذ قرار جاد ويتجاوب مع طلب المُكرِه “[69].

بالنسبة لهم لا يوجد معنى لهذا الآية:

﴿لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ﴾ (البقرة 2/256)

والخلاصة أن الحنفية يعتبرون الزواج غير الخاضع لإشراف الولي أو الواقع بالإكراه صحيحًا، أما الشافعية والمالكية والحنابلة فلم يقبلوا أن تمثل المرأة نفسها أو غيرها في عقد النكاح، أو حتى الشهادة فيه. وفقًا لهذه المذاهب الثلاثة فإنه يمكن للأب أن يزوج ابنته البكر دون أن يسألها عن رأيها. ولا تستطيع الفتاة الاعتراض على قرار أبيها[70].

والدليل المشترك للمذاهب الأربعة في موضوع الولاية على النكاح هو الآية التالية:

﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[71] إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة 2/232)

كما تضمنت كتب المذاهب الحديثان التاليان:

“لا نكاح إلا بولي”[72]

“أيُّما امرأةٍ نكَحَتْ بغيرِ إذن مَوَاليها فنِكاحُهَا بَاطِلٌ – ثلاثَ مرات – فإن دَخَلَ بها فالمهرُ لها بما أصابَ منها، فإن تَشَاجَرُوا فالسُلطَانُ وَليُّ مَن لا وليَّ له”[73]

أدراج المذاهب للآية والحديثين في كتبهم هو محاولة منهم للظهور كما لو كانوا منسجمين مع تلك النصوص. والحق أن لا أحد منهم يمتثل للآية ولا للحديثين. وبما أنه لا يمكن لهم الانصياع للآية فقد تجاهل الحنفية شرط المطابقة مع المعروف والأمر بعدم العضل وركزوا على فعل النكاح الذي فاعله المرأة ليصلوا إلى الحكم بأنه يصح النكاح بدون إشراف الولي، وكأن الآية لا تخاطبه أصلا[74].

لم يكتف المالكية والشافعية والحنابلة بتجاوز بداية الآية ونهايتها كما فعل الحنفية ، لكن كان عليهم تحريف القسم التالي من الآية “ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن” لتصبح (لا تمتنعوا من تزويجهن) لأن هذا القسم من الآية يدل بوضوح أن المرأة هي فاعل النكاح وهذا لا يتناسب مع منهجهم الفقهي المتعلق بالمرأة ، فهذه المذاهب الثلاثة تشبه المرأة بالسلعة المعروضة للبيع ، فهي عندهم محل للعقد لا طرفا فيه، أما المهر فهو كالثمن ، وقد أقاموا منهجهم على هذا الأساس من الزواج إلى الطلاق[75].

لم تقبل أي من المذاهب بما في ذلك المذهب الحنفي الافتداء الذي هو حق الزوجة في إنهاء الحياة الزوجية (البقرة 2/229)، وبدلاً من ذلك أقامت نظامًا يسمونه المخالعة، وهو مخالف تمامًا للآيات والأحاديث ذات الصلة. والمخالعة هي فسخ الزوج للزواج مقابل مال تمنحه الزوجة له. فإن لم يقبل الزوج طلب الزوجة فإن المخالعة لا تتم حتى لو استعانت بالعالم كله. يقول الشربيني من علماء الشافعية، عن المخالعة:

“عندما يحق للرجل الاستمتاع من المرأة بعوض ، ويمكنه أن يتنازل عن هذا الحق مقابل عوض. وهذا هو سبب جواز المخالعة. إنه مثل التداول تمامًا. النكاح كالشراء والمخالعة كالبيع”[76].

لم تؤخذ في الاعتبار العديد من الآيات حول هذا الموضوع ولا تطبيقات نبينا الواضحة ، وهكذا أصبحت المرأة هي الكائن الأدنى. إليكم كلام ابن تيمية في المخالعة:

«‌هو ‌فداء ‌تفتدي ‌به ‌المرأة ‌نفسها من زوجها كما تفتدي الأسيرة نفسها من أسرها؛ وهذا الفداء ليس من الطلاق الثلاث سواء وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء والسراح؛ أو الفراق أو الطلاق أو الإبانة أو غير ذلك من الألفاظ. ولهذا جاز عند الأئمة الأربعة والجمهور من الأجنبي: فيجوز للأجنبي أن يختلعها كما يجوز أن يفتدي الأسيرة؛ كما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيد العبد عوضا ليعتقه؛ ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشروطا بما إذا كان قصده تخليصها من رق الزوج؛ لمصلحتها في ذلك كما يفتدي الأسير. وفي مذهب الشافعي وأحمد وجه أنه إذا قيل: إنه فسخ: لم يصح من الأجنبي. قالوا. لأنه حينئذ يكون إقالة؛ والإقالة لا تصح مع الأجنبي. وهذا الذي ذكره أبو المعالي وغيره من أهل الطريقة الخراسانية. والصحيح في المذهبين أنه على القول بأنه فسخ هو فسخ وإن كان من الأجنبي كما صرح بذلك من صرح به من فقهاء المذهبين وإن كان صاحب ” شرح الوجيز ” لم يذكر ذلك فقد ذكره أئمة العراقيين كأبي إسحاق الشيرازي في ” خلافه ” وغيره. وهذا لأنهم جعلوه كافتداء الأسير وكالبذل لإعتاق العبد؛ لا كالإقالة؛ فإن المقصود به رفع ملك الزوج عن رق المرأة لتعود خالصة من رقه؛ ليس المقصود منه نقل ملك إليها؛ فهو شبيه بإعتاق العبد؛ وفك الأسير؛ لا بالإقالة في البيع فلهذا يجوز باتفاق الأئمة بدون الصداق المسمى؛ وجوزه الأكثرون بأكثر من الصدقات»[77].

والحق أن الآيات والأحاديث ذات الصلة تعطي للزوجة الحق في إنهاء الحياة الزوجية كما تعطيها الحق في أن تكون طرفا في عقد النكاح، لكن الزوجة تمضي عقد النكاح بإشراف وليها، كما أنها تنهي حياتها الزوجية بإشراف الحكمين (البقرة 2/229 والنساء 4/35)، وهذا شرط المعروف الذي ذكره القرآن الكريم. إذا لم يكن هناك مانع شرعي على خيار الزوجين فإنهما يعلنان قرارهما بالزواج بمحض إرادتهما في حضور الشهود وبذلك يتم إنشاء أسرة جديدة. وفي حالة وجود خلاف بين الفتاة ووليها وكان اعتراضه على زواجها بدون مبرر شرعي تتدخل السلطة المختصة لتقوم بدور الولي فتشرف على زواج الفتاة بدلا منه.

تسبب استبعاد المذاهب للآيات والأحاديث ، أي الكتاب والحكمة ، بمشاكل كبيرة. وبما أن المذهب الحنفي يعتبر الزواج بشاهدين وبدون إشراف الولي وكذلك النكاح بالإكراه نافذا قد أدى إلى الزيجات (جمع زواج) السرية في المدارس والجامعات وأماكن العمل وغيرها فضلا عن عمليات الاختطاف التي تنتهي إما بقبول أهل الفتاة بالأمر الواقع أو بإقدامهم على جريمة أكبر بحق ابنتهم.

أما رأي الشافعية والمالكية والحنابلة فكان سببا للمال الذي يُدفع للولي زائدا عن المهر، وربما لانتحار الفتيات في حال عدم موافقة الولي. وبما أن الولي طرف في العقد ولا يتم إلا برضاه فلا بد من إقناعه، وأقصر طريقة للقيام بذلك هي إعطاؤه المال. وهذا ليس المهر الذي هو من حق الفتاة.  بل يُمنح لولي أمر الفتاة. وإذا أراد الولي تزويج ابنته البكر دون رغبتها طمعا في ما يعرض عليه من المال ربما أدى ذلك لانتحار الفتاة أو هروبها من البيت.

4_ الربا

بما أن الربا هو واحد من كبائر الذنوب التي يحرمها القرآن ، فلا يمكن للمسلمين تطبيق نظام الفائدة على مستحقاتهم المتأخرة. من أجل تجاوز على هذا الحظر ، تم اتخاذ القرار التالي بأغلبية الأصوات في المؤتمر الثالث للاقتصاد الإسلامي لمجموعة البركة، والذي عقد في اسطنبول عام 1985 والذي كنت حاضرا فيه أيضًا.

“يجوز شرعا إلزام المدين المماطل في الأداء وهو قادر على الوفاء بالتعويض للدائن عن الضرر الناشئ من تأخر المدين في الوفاء  إلا أن يكون عن عذر مشروع. لأن التأخر في أداء الدين بدون عذر ظلم، كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم “مطل الغـني ظلم”. فيكون حاله كحال الغاصب الذي قرر الفقهاء أن يضمن منافع الأعيان المغصوبة علاوة على رد الأصل”.[78]

وقد اُدعي أن هذا القرار استند إلى مذهب الشافعية والحنابلة ، لكن هذه المذاهب ليس فيها مثل هذا الرأي، لأنهما يشترطان أن يكون العقار المطلوب تعويضه في حالة الاغتصاب قابلاً للتأجير ولا يستهلك. وكما أن الاقتراض ليس اغتصابًا لشيء ما فالدين ليس عقارًا يكمن تأجيره كذلك.

رأي الشافعية والحنابلة يلخصه ابن حجر الهيثمي في تحفة المنهاج كالتالي:

“(وتضمن منفعة الدار والعبد ونحوها) من كل ما له منفعة يستأجر عليها (بالتفويت) بالاستعمال ( والفوات) وهو ضياع المنفعة من غير انتفاع كإغلاق الدار (في يد عادية) لأن المنافع متقومة فضمنت بالغصب كالأعيان…(وإذا نقص المغصوب) أو شيء من زوائده (بغير استعمال وجب الأرش) للنقص (مع الأجرة) له سليما إلى حدوث النقص ومعيبا من حدوثه إلى الرد…ولا يجب أجرة لما بعد زمن التلف. انتهى”.[79]

كما هو واضح ، فإن الهدف الرئيسي من تعطيل الكتاب والحكمة ليس اتباع الدين ، بل تكييف الدين مع مصالحهم الخاصة. وينبه القرآن إلى أن الأمر سيصل إلى هذه الحالة على النحو التالي:

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْاٰنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان 25/30)

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “… وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ ‌أَصْحَابِي ‌أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ “: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} (المائدة: 117)- إِلَى قَوْلِهِ – {العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 129)”[80]

الخلاصة:

الكتاب والحكمة والسنة من المفاهيم القرآنية الأساسية. وسنة الله هي الصراط المستقيم الذي حدده الله. أولئك الذين يتبعون هذا الطريق هم أولئك الذين يتبعون الكتاب والحكمة من آدم إلى آخر إنسان. ولكن عندما تغير معنى سنّة الله إلى “القوانين التي وضعها الله في خلق الطبيعة والحفاظ عليها وتنظيم الحياة الاجتماعية” وابتداع سنة جديدة لمحمد عليه السلام فقد تم نسيان علم الحكمة وإغلاق الطريق أمام إيجاد الحلول من القرآن الكريم. عندما يتم فحص آراء المذاهب بعناية فإنه يمكن ملاحظة أنه ليس لدى أي منهم الرغبة في اتباع القرآن أو الأحاديث النبوية التي يعرِّفونها بالسنة. بل إن جهدهم الرئيسي هو تكييف الدين لمصالحهم الخاصة. والحق أن الذين لا يحكمون بكتاب الله قد خرجوا عن الطريق الحق. وقد صفهم الله بأنهم كفار (المائدة 5/44) ، وظالمون (المائدة 5/45) وفاسقون (المائدة 5/47).

قال الله تعالى مخاطبًا نبينا أصالة وكلَّ من يقتدي به تبعا:

﴿‌وَأَنِ ‌احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة 5/49-50)

على من يريد أن يسير على الطريق الصحيح أن يتخلى _بأسرع ما يمكن_ عن الممارسات الخاطئة التي يقومون بها _جهلا_ باسم الدين ، وأن يتحمل كل أنواع الضغوط في سبيل ذلك ، وأن يتبع سنة الله كما بينها في كتابه ، وأن يلجأ إلى الفهم الديني وفقا للكتاب والحكمة. فهذا أمر لا بد منه لمن يقول “أنا مسلم”.

ولتجنب الاختلاف في الدين واتباع المذاهب والطوائف علينا أن نضع الآية التالية في قلب حياتنا:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام 6/159)

وقف السليمانية/مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

الترجمة إلى العربية: جمال نجم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  انظر مفردات الراغب الأصفهاني مادة حكم

[2]  آل عمران 3/79 ، الأنعام 6/89 ، مريم 19/12 ، الجاثية 45/16

[3]  البقرة 2 / 129،151،231 ، آل عمران 3/48 ، 79 ، 81 ، 164 ، النساء 4/54113 ، المائدة 5/110 ، الأنعام 6/89 ، الجاثية 45/16 ، الجمعة 62/2.

[4]  ابن منظور، لسان العرب، مادة سنن

[5]  النساء 4/26 ، الأحزاب 33/38.

[6]  آل عمران 3/137 ، الأنفال 8/38 ، 15 / 10-15 ، الإسراء 17 / 76-77 ، الكهف 18/55 ، الأحزاب 33 / 60-62 ، فاطر 35/43 ، المؤمن 40 / 84-85 ، الفتح 48 / 22-23.

[7]  المائدة 5/48

[8]  البقرة 2/213

[9]  الأعراف 7 / 157-158 ، مريم 18/51 ، 54 ، الأحزاب 33/40.

[10]  مسند أحمد بن حنبل، 2/266 ، اسطنبول 1982م

[11]  الإصر هو التكليف بالإيمان بالنبي اللاحق، وقد ارتفع الإصر ببعث خاتم النبيين (الأعراف 7/157)

[12]  الحج 22/67 ، الجاثية 45/18

[13]  الكلمة التي نعطيها معنى “حكم خاص” هي (شِرْعةُ). الشرعة هي مصدر مشتق من نفس جذر الشريعة. بينما تُظهر الشريعة القوانين الثابتة في الطريق الرئيسي (الشورى 42/13) ، تشير الشرعة إلى الأحكام الخاصة الموضوعة في كل كتاب من الكتب السماوية. هذه الأحكام الخاصة بكل أمة تمكننا من فهم مفهوم النسخ بشكل صحيح (البقرة 2/106). و (مِنهاجُ) هي الكلمة التي نعطيها معنى هو الطريق الواسع (لسان العرب) ، لأنها تدل على أن الطريق الرئيسي الذي وصفه الله بالسنة أو سنة الله وأمر بالسير فيه وهو طريق واسع ومريح.

[14]  البقرة 2/148

[15]  يخفي اليهود الكثير من أحكام كتابهم (الأنعام 6/91)

[16]  الأنعام 6/91

[17]  المقصود هو القرآن الكريم، انظر الإسراء 17/105 ، الكهف 18/29 ، الزمر 39/41.

[18]  لا يدافع أحدٌ عن أحدٍ أمام الله تعالى حتى لو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا

[19]  الأداة (ثم) لها أربعة استعمالات في اللغة العربية، منها المزامنة أي حدوث ما قبلها وما بعدها في آن واحد. فلو قال أحدهم “رأيت القمر ثم النجم” لا يعني بالضرورة أنه رأى القمر أولا والنجم بعد ذلك، بل قد يُفهم منه أنه رآهما سويا، لكنه قدم القمر لأهميته بالنسبة للمتكلم. وفي قوله تعالى {أحكمت ثم فصلت} ليس من الضروري أن يكون المحكم نزل قبل المفصل، وإنما قدم المحكم في الذكر لأنه الأصل في المسألة والمفصلات تبع له.

[20]  المكث يعني الانتظار. عندما كانت الآية تنزل على رسول الله كان ينتظر الآية أو الآيات الأخرى التي تفصِّلها. وهذا يُظهر أنه من الممكن عدم نزول مجموعة الآيات في آن واحد.

[21]  القرآن من الجمع والضم، وقرآنا هنا حال منه، حال كونه مجموعات؛ لأن مجموعة الآيات التي تتناول موضوعا واحدا تشكل مجموعة يطلق عليها قرآن.

[22]  الشيئان المتشابهان يسمى كلٌ منها متشابه. تظهر هذه الكلمة في ثماني آيات: البقرة 2/25 ، 70 ، 118 ؛ آل عمران 7 ، الزمر 23 ، الأنعام 99 ، 141 الرعد 16.

[23]  جاء وفد من نصارى نجران إلى نبينا، فقالوا يا محمد: ألست تزعم أنه (أي المسيح) كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل: ”فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة”( تفسير الطبري  6602 ، 6/186) . وفد النصارى اعتمد على الآية التي فيها تشابه مع زيغهم: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ} (النساء، 171) وفي الحقيقة أنهم لم يريدوا رؤية التعبير الوارد في بداية الآية ” إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ” كما لم يريدوا سماع قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران، 3/59) وهكذا حال كل من يريدون أن يكون كتاب الله تابعا لرغباتهم، فبدلا من اتباعه والاهتداء بهديه إلا أنهم يسلكون نفس طريق الوفد من نصارى نجران.

[24]  الذِّكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول (المفردات).  الطبيعة تتكون من الآيات المخلوقة وأما القرآن فيتكون من الآيات المنزلة. والعلم الصحيح المأخوذ من كليهما هو الذِّكر. ولا يجعل الإنسان مطمئنا سوى هذا العلم (انظر الرعد، 13/28) ويُعرِّفُ الله تعالى أولي الألباب بقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر، 39/18)

[25]  التوراة والإنجيل من الكتب التي تحتوي على الحكمة مثل القرآن. لهذا السبب كان ذكرهما عطف تفسير على الكتاب والحكمة

[26]  البقرة 2/213، المائدة 5 / 48-49.

[27]  البقرة 2/129 ، 151 ، 164 ، الجمعة 62/2

[28]  انظر الأعراف 7/205

[29]  التجارة هي بيع وشراء السلع والخدمات. أما البيع فهو تبادل البضائع مقابل البضائع (النساء 4/29).

[30]  إبراهيم 14/42 ، المؤمن 40/18 ، الإنسان 76 / 7-11 ، النازعات 79 / 6-9.

[31]  المنافقون هم الذين في قلوبهم داء الكفر والكذب. الكفار عندهم داء الكفر فقط (البقرة 2/10). إن نشر الأخبار السيئة في المدينة هو أيضًا عمل بعض المنافقين والكفار معًا.

[32]  لا يعاقب أحد لكونه كافرًا أو منافقًا. أولئك الذين يعاقبون هم فقط أولئك الذين يستحقون العقوبة.

[33]  كانوا يقومون بهذه الأنشطة لطرد محمد ‘عليه السلام’ من المدينة المنورة. إذا لم ينتهوا، فسيُطردون من هناك وسيُقتلون أينما ثقفوا.

[34]  إلياس شلبي، سنة الله، موسوعة وقف الديانة التركي

[35]  الإمام الشافعي، الرسالة، 1/107

[36]  المقصود تصديق القرآن لكل ما أنزل الله من الكتب التي   قبله ومنها التوراة والإنجيل.

[37]  انظر (الأحزاب 33/40)

[38]  كلمة (الأمّيّ) تأتي بمعنيين اثنين؛ الأول عامّ والثاني خاصّ. أمَّا العامُّ فيشير إلى الشَّخص الذي ليس له كتاب إلهي أو ذلك الشَّخص الذي له كتاب إلهي يؤمن به لكنَّه لا يعرف محتوياته على الوجه الصَّحيح. أمَّا الخاص فهو الإنسان المكِّيُّ. وقد تحدثت آيات التَّوراة والإنجيل عن النَّبيِّ الخاتم المنتَظر بأنَّه سيخرج من مكة، ووصف الآيات القرآنيَّة لنبيِّنا بالأميِّ لا يعدو كونه منسوبا لمكَّة التي هي أمُّ القرى.

[39]  كل أوراح الموتى ترفع إلى السماء لكن أرواح الكافرين لا تفتح لهم أبواب السماء . أنظر (الأعراف 7/40)

[40]  الفرقان 25/17-18

[41]  الغيب الشيء الذي لا تستطيع الحواس إدراكه أو لا يعرف عنه شيء.

[42]  «لسان العرب» مادة هدى (15/ 354)

[43]  الأعراف 7/157

[44]  أحق صفة مشبه وليس اسم تفضيل.

[45]  الظهار: هو أن يقول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي ، ثم ينفصل عنها دون طلاقها. ويمكن للرجل أن ينفصل عن زوجته لمدة أقصاها أربعة أشهر. ويستطيع الرجوع إليها متى شاء قبل انقضاء الأربعة أشهر مع أدائه الكفارة. إذا انقضت الشهور الأربعة دون أن يعود إليها فيلزمه أن يطلقها. إذ لم يعد هناك خيار آخر (البقرة 2 / 226-227).

[46]  الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة رسل

[47]  الكلالة الذي يموت ولا والد له ولا ولد. الآية 12 من سورة النساء تشرح مقدار الميراث الذي سيتم إعطاؤه للإخوة للأم. كما تذكر الآية الأحكام المتعلقة بمن مات وترك إخوة لأب.

[48]  الإمام الشافعي، الرسالة، 1/107

[49]  أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي (ت 255 هـ / 869 م) سنن الدارمي  1/474 ، الحديث رقم: 607 ، تحقيق حسين سليم عيسى الداراني ، المملكة العربية السعودية 142 هـ. 2000 م.

[50]  الشافعي، الرسالة، 1 / 79.

[51]  انظر وهبة الزحيلي ، الفقه الإسلامي وأدلته ، الطبعة الثالثة. دمشق 1409/1989 ، حد الردة ، 6/148.

[52]   هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي المعروف بأبي السعود، وهو صاحب التفسير المعروف باسمه: تفسير أبي السعود.  شغل منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، عاصر عددا من سلاطينها أشهرهم سليمان القانوني، وقد كان مقربا منه، جمعت فتاويه العديدة في كتاب، وله في أبواب الفقه الحنفي شرح على الأشباه والنظائر لابن نجيم، وله رسالة تناولت قضايا فقهية قديمة ومستجدة، واختار في كل قضية رأياً مناسباً من المذهب الحنفي رجحه على غيره، وعرض أبو السعود هذه الترجيحات على السلطان سليمان، فأمر بالتزامها في الفتوى والقضاء، ولذلك عُرفت بالمعروضات، وينقل منها ابن عابدين رحمه الله في الدر المختار، ويجعلها ملزمة بحكم أمر السلطان بالتزامها، وقد يصح أن نقول عنها إنها أول محاولة لصياغة أحكام الفقه الإسلامي في صيغة قانونية ملزمة. (انظر رابطة العلماء السوريين) على ويب .

[53]  ابن عابدين محمد أمين ، رد المحتار على الدر المختار، اسطنبول 1984، 4/235-236.

[54]  أبو جرير الطبري، جامع البيان، تفسير الآية 36 من سورة الأحزاب

[55]   الإمام الشافعي، الرسالة، 1/104-105

[56]  احترام قوانين الطبيعة التي وضعها الله تعالى والعمل بمقتضاها هو تسليم لها. وهذا التسليم لا يعد من الطاعة، لأن الطاعة في اللغة العربية تعني الخضوع الطوعي، وهذا لا يتأتى إلا بالتزام قوانين الله تعالى النمزلة في كتبه لأنها مجال الاختبار، وأولئك الذين يدخلون دين الله طواعية ويتبعون الفطرة فقد ساروا على الدين القيم. انظر (الروم 30/30).

[57]  مصنف ابن أبي شيبة (6/ 167)

[58]  صحيح البخاري (1/ 115) برقم 553

[59]  صحيح البخاري، المواقيت، 37

[60]  في اللغة العربية ، يشير الجمع إلى ثلاثة على الأقل. حيث يفهم من الآية أن الصلوات في اليوم والليلة هي ثلاثة، لكن هناك إضافة الصلاة الوسطى، ومعلوم أن المضاف غير المضاف عليه، عندما تضاف الصلاة الوسطى إلى الثلاثة ، يزداد العدد إلى أربعة. لكن لا يوجد وسط أربعة. بما أن الرقم الفردي الأول بعد ثلاثة هو خمسة ، فإن هذه الآية تلزم أن يكون عدد الصلاة خمس مرات في اليوم. بما أن عدد الصلوات خمس ، يمكن اعتبار كل صلاة صلاة وسطى. لأنه ستكون هناك صلاتان قبل وبعد كل صلاة. على سبيل المثال ، ستقام صلاة الفجر في المنتصف ما بين صلاة العشاء والظهر ، فيمكن اعتبارها صلاة وسطى. ومع ذلك ، فإن الآية تتضمن التعبير عن الصلاة الوسطى ، وليس الصلاة الوسط. لأن كلمة (الْوُسْطَىٰ) هي اسم تفضيل ، أي اسم يُظهر شيئًا أفضل من الآخرين. لا يمكن أن تكون الصلاة الوسطى إلا صلاة المغرب، لأنها صلاة  تتميز بكونها وسطًا من نواحٍ عديدة مقارنة بغيرها من الصلوات. يمكننا سردها على النحو التالي:

أ- يتكون اليوم من النهار والليل. يأتي النهار أولاً ثم الليل (يس 36/40). ما يقسم اليوم إلى قسمين هو غياب الشمس، والصلاة التي تؤدى في هذا الوقت تصبح “صلاة وسطى”. وقد يقول قائل إن طلوع الشمس يمكن أن يعد فاصلا بين الليل والنهار، لكنه ليس ثمة صلاة تؤدى عند طلوع الشمس، ثم إن النهار سابق لليل فيعتبر وقت الغروب هو الفيصل بينهما وليس وقت الشروق

ب- بما أن اليوم يبدأ مع طلوع الشمس ، فإن أول صلاة في اليوم هي صلاة الظهر (الإسراء 17/78 ، هود 11/114). لهذا السبب تؤدى صلاة الظهر والعصر في النهار الذي يسبق صلاة المغرب ، ويؤدى بعدها صلاة العشاء والفجر. من هذا المنطلق ، تصلى صلاة المغرب في المنتصف.

ج- صلاة العشاء هي الفريضة الوحيدة التي تؤدى ثلاث ركعات. الرقم 3 هو الرقم الأول الذي يوجد في المنتصف ويقع في منتصف الرقمين اثنين وأربعة. كل هذا يجعل صلاة المغرب الصلاة الوسطى.

[61]    على عكس ما ورد في الآيات 101 و 102 من سورة النساء ، لا يوجد وصف للخوف هنا. الخوف هنا يختلف من شخص لآخر. أولئك الذين يخافون من عدم القدرة على أداء صلاتهم في الوقت المحدد بسبب الوضع الذي يعيشون فيه يصلون وفقا لهذه الآية. الآية 102 من سورة النساء كالآية السابقة تشكلان دليلا على أن الصلاة لا يمكن أن تؤدى خارج أوقاتها المقررة شرعا.

[62]  النساء 4/101-103

[63]  انظر سورة الروم 30/1-5

[64]  الخاطب موجه للنبي والصحابة لأنه كان عليهم تذكيره بأنه لا يصح اتخاذ الأسرى قبل إثخان العدو بحسب الآية الرابعة من سورة محمد ، وبدلا من ذلك وافقوه  رأيه، لذلك شملهم الله تعالى في الخطاب.

[65]  البقرة 2/7 ، 114 ، آل عمران 3/105 ، 176 ، المائدة 5/33 ، النحل 16/106 ، الجاثية 45/10

[66]  المائدة 5/41 ، التوبة 9/101

[67]  الأنفال 8/68 ، النحل 16/94 ، النور 24/11 ، 14 ، 23

[68]  سنن أبي داود – ت الأرنؤوط  برقم (2194) (3/ 516) وأخرجه ابن ماجه (2039)، والترمذي (1220) من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حبيب، بهذا الإسناد. وقال الترمذي: حسن غريب. وهو في “شرح السنة” للبغوي (2356)

[69]  انظر شمس الدين السرخسي، المبسوط 42/24

[70]  انظر ابن قدامة، المغني 7/5

[71]  عبرت الآية عن الخاطب بالزوج مجازا على اعتبار ما سيكون. ولأنه إذا حصلت الرغبة من الخاطب والمخطوبة فلا يحق لأحد أن يمنعهما من إتمام النكاح إذا كان تراضيهما بالمعروف (وهو ما عرف بالشرع أو العقل حسنه)

[72] الترمذي النكاح. ابن ماجة النكاح 15؛ احمد بن حنبل ، المسند 4/260.

[73]  مسند أحمد (24205)، وسنن ابن ماجه (1879)، والترمذي (1127)، وقال الترمذي: حديث حسن، والنسائي في “الكبرى” (5373) وسنن أبي داود – ت الأرنؤوط»«2083» (3/ 425)

[74]  انظر السرخسي، المبسوط  4/11-12

[75]  انظر ابن قدامة، المغنى 7/338

[76]  انظر الشربيني، «مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج» (4/ 435) النقل كان بتصرف

[77]  «مجموع الفتاوى» (32/306-307)

[78]  فتاوى ندوات البركة، جمع وتنسيق و فهرست عبد الستار أبو غدة و عز الدين خوجه، الطبعة الخامسة بجدة، 1417 هـ. 1997م، صـ 55. وشارك في هذه الندوة ثمانية من العلماء ووافق أربعة منهم على هذا الرأي. ومنهم مصطفي أحمد الزرقاء. وهو الذي عرض بحثا في هذا الموضوع للندوة وجرى النقاش حوله. والموافقون على رأيه: زكريا البري ومحمد الطيب النجار وحسن عبد الله الأمين، ووافقه الصديق محمد الأمين الضرير ببيان خاص فأصبح الموافقون خمسة. والذين لم يوافقوا على ما رأته الأغلبية هم: عبد العزيز بايندر (وهو مؤلف هذه المقالة) وعبد الستار أبو غدة وعبد الوهاب أبو سليمان.

[79]  تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي في كتاب الغصب، جـ 6، صـ. 29-31.

[80]  صحيح البخاري (4/ 139) برقم 3349

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.