حبل الله
الغاية من تشريع العبادات

الغاية من تشريع العبادات

السؤال: سمعت من يتساءل إذا كان الله تعالى ليس بحاجة لعبادتنا وهو غني عنا، فلماذا إذا يأمرنا بعبادته؟

الجواب: الله تعالى هو صاحب الملك في هذا الكون يتصرف فيه بمقتضى الحكمة كيفما يشاء، يخلق ما يشاء ويعطي الأمر لمن يشاء، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون[1]. يذكر سبحانه أنه خلق الإنس والجن لعبادته[2]، وأنه من يستكبر عن عبادته فسوف يلاقي الجزاء في الدنيا والآخرة[3]. وعندما يأمر الله تعالى الناس بعبادته ليس لأنه ينتفع بعبادتهم، فهو غني عن العالمين، لكنه يأمر بعبادته لأنها ستكون وسيلة عظيمة لاستقامة حياة الإنسان وطمأنينته وبالتالي نجاحه في امتحان الدنيا وفوزه المبين في الآخرة، يقول الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ‌ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (المائدة 35).

ويمكنني رصد الغاية من تشريع العبادات في النقاط التالية:

1_ تقرب الإنسان من الخالق سبحانه، لأن مداومة الذكر بأوقات مختلفة يجعل القلب عامرا بمحبة الله تعالى، تلك المحبة التي تريح قلبه وتجعله مطمئنا خاليا من الحقد والحسد والخوف وغيرها من أمراض القلب. يقول الله تعالى {… وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (الضحى 130)

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ} (الرعد 28- 29)

2_ كلما شعر العبد بقربه من الله شعر بمراقبته له، وهذا يدفعه لأن يكون بعيدا عن المعصية، يقول الله تعالى:

{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت 45)

ولو وجد المسلم نفسه أمام المعصية وجها لوجه كان أقدر على مقاومتها، وكان حقا على الله تعالى أن ينجيه منها، ويمكن أن نأخذ ما واجهه يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز برهانا على ما نقول:

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف 24)

3_ العبادات كلها تدفع الإنسان إلى البذل والعطاء للمحتاجين، ويمكن أن نلحظ هذا في حياتنا، فأين تجد السائلين والمحتاجين؟  أعلى أبواب دور العبادة أم على أبواب دور اللهو؟، فبعد أداء المؤمن للعبادة تكون نفسه أكثر سخاء على المحتاجين وأكثر شفقة على الضعفاء والمساكين. ولا شك أن المسلم إذا أدى الصلاة وغيرها من العبادات فاهما معانيها واعيا لأهدافها فإنه سيقطف ثمارها قلبا محبا للخير عطوفا على الضعفاء والفقراء، يقول الله تعالى في وصف عباده المؤمنين:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال 2- 4)

4_ أداء العبادات على وجهها يقود إلى التقوى، والتقوى حالة في المرء تدفعه لتجنب كل شر وتسوقه إلى كل خير. فمثلا يقول الله تعالى في الصيام:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183) فقد ذكر علة تشريع الصيام، وهو الوصول إلى التقوى. فلو صام العبد لكن لم يتغير إلى الأفضل فلا يكون قد أتى الصيام الذي أراده الله تعالى، كأن يغش وهو صائم أو يتكلم الكلام البذيء أو يشتم الآخرين أو يتصرف خلاقا لقواعد النظافة العامة وهكذا.

5_ عبادة الله تعالى تخلص الإنسان من عبادة غيره من المخلوقات، ذلك أن الإنسان عابد بفطرته، فإن لم يعبد الله تعالى انساق لعبادة غيره، وما مظاهر عبادة الشمس والقمر والنجوم والأصنام والملوك والأولياء وغيرها إلا أمثلة على ما ذكرت. يقول الله تعالى بلسان يوسف عليه السلام:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف 40)

لقد عدَّ يوسف عليه السَّلام عبادة الله وحده من أعظم نِعم الله تعالى عليه وعلى آبائه. لأنَّه إن لم يتمّ عبادة الله وحده فالبديل هو عبادة أرباب متفرِّقين، وتلك الأرباب لا تعدو كونها أسماء لا تملك لمن يعبدها ضرَّا ولا نفعا، بينما عبادة الله وحده تمثِّل الدِّين القيم الذي يسعد به الإنسان في الدنيا ويفوز به في الآخرة.

6_ العبادة هي تواصل مباشر مع الخالق دون واسطة، وفي ذلك رفع لمكانة العبد، وسبب لشعوره بالقوة والمنعة حتى لو كان وحيدا وسط جمع من الأعداء، يقول تعالى في تقرير هذه الحقيقة:

{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون 8)

إن مصدر عزة المؤمنين هو تواصلهم المباشر مع ربهم عن طريق العبادة، حيث يمدُّهم بأسباب القوة والمنعة والعزة. عندما يقف العبد بين يدي الله مصليا _مثلا_ يخاطبه بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة 5) وهو يعلم أن الله يستجيب دعاء من أخلص إليه فإن ذلك يكسبه الثقة الدائمة بمعية الله ونصرته، وهذه المكانة العظيمة لا يحظى بها سوى العابد.

يتضح مما سبق أن الخلق هم المستفيدون من الطاعة، وهم المتضررون من المعصية، والآيات التالية تبين ذلك بوضوح تام:

{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا {(يونس 108)

{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {(العنكبوت 6)

{وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {(فاطر 18)

{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {(النمل 40)

{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا {(الإسراء 7)

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {(فصلت 46)

{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ {(إبراهيم 8)

{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {(الزمر 7)

{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {(آل عمران 97)

{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ{ (آل عمران 176_178)

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا {(النساء 131)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  انظر الأنبياء 35

[2]  انظر الذاريات 56

[3]  انظر النساء 172

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.