حبل الله
المقصود بقتل الأنبياء

المقصود بقتل الأنبياء

السؤال: يُذكر في بعض الآيات أنَّ بني إسرائيل قد قاموا بقتل أنبيائهم (البقرة، 61، آل عمران 21)، لكن هناك آيات أخرى تبين أن الله تعالى ينصر رسله في الحياة الدنيا (غافر 51)، وبعضها يشير إلى أنَّه عصمهم من القتل (الإماتة)، فكيف يمكن أن نفهم هذه الآيات مجتمعة؟

الجواب: كلمة القتل لها معنيان؛ أحدهما إزهاق الرُّوح، والثَّاني الإذلال[1] ، وقد تأثَّر المفسِّرون بالمعنى المتبادر للقتل عند تفسيرهم للآيات المتعلِّقة بقتل النّبيِّين، لأنَّهم لم يتَّبعوا منهج تفسير الآيات بالآيات، كما تأثروا بالإسرائيليَّات التي تزعم أنَّ اليهود قد قتلوا كثيرا من أنبيائهم حتى إنَّ بعضها تزعم أنهم كانوا يقتلون عدة أنبياء في اليوم الواحد، وهو كما ترى لا ينسجم مع منطق الأشياء من جهة، كما لا ينطبق مع الآيات التي تبيِّن عصمة الأنبياء من أن تمتد إليهم يد الغدر بالإفناء من جهة أخرى.

يقول الله تعالى لخاتم أنبيائه:

﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة 67)

ويقول الله لموسى وهارون:

﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ (طه 46)

وقد ذكَّرت الملائكةُ لوطا عليه السلام بعصمته من الناس:

﴿قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ (هود 81)

وفيما يتعلَّق بكافَّة الرُّسل يقول سبحانه:

﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ (غافر 51)

وعلى هذا فإنَّ كلمة القتل الواردة في الآيات التي تتحدَّث عن قتل النَّبيِّين لا تأتي إلا بالمعنى الثَّاني، أي الإذلال والحطِّ من القدر. ويبيِّن القرآن أنَّ هذا دَيْدنُ بني إسرائيل[2]. وتشيرُ الآيات التَّالية أنَّهم بدؤوا عمليات تشويه نبيِّنا حتَّى في حياته:

﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ، وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران 78- 79)

تحدَّثت الآية 61 من سورة البقرة عن جريمة قتل النَّبيِّين والعقوبة التي استحقَّها اليهود بسبب ذلك، وقد كانت تلك العقوبة ضربُ الذِّلة والمسكنة عليهم واستحقاقهم لغضب الله تعالى:

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (البقرة، 61)

ولو أمعنَّا النَّظر في هذه الآية سيتبيَّن أنَّ بني إسرائيل الذين خرجوا لتوِّهم من استعباد فرعون لم يكن لهم نبيٌّ إلا موسى وهارون، ولم يزعم أحد أنهما قد قُتلا، كما لم يزعم أحد أنَّ نبيَّا قد قُتل قبلهما، بل إنَّ مزاعم قتل النَّبيِّين (إزهاق أرواحهم) قد ظهر بعد ذلك بعصور طويلة، ومع ذلك تلومهم الآية على قتلهم النَّبيِّين وترتِّب على ذلك استحقاقهم لغضب الله تعالى وضرب الذِّلة عليهم، وهو الجزاء من جنس العمل، فلما عملوا على إذلال الأنبياء والحطِّ من قدرهم جازاهم الله بضرب الذِّلة عليهم. وهكذا يتعيَّن أن يكون قتل النَّبيِّين بمعنى إذلالهم وتشويههم بهدف قتل نبوَّتهم.

وقد ورد في الآية 21 من سورة آل عمران وعيدٌ على قتل النَّبيِّين والآمرين بالقسط من النَّاس بقوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (آل عمران، 21)

هذه الآية لا تحذِّر من حدثٍ مضى وانتهى، إنَّما تنصُّ على التَّحذير من قتل النَّبيين والمُصلحين في كلِّ زمان ومكان، حيث يستمرُّ هذا التَّحذير إلى قيام السَّاعة. فقد ابتدأت الآية بحرف التَّوكيد “إنَّ” ومعلومٌ أنّ الجملة الإسميَّة تفيد الاستمرارية والثبوت في الحكم، فهذا التَّحذيرُ للناسِ كافَّة وإلى قيام السَّاعة. وقد كان نبيُّنا أول من التزم أمر الله بتبشيرهم بعذاب أليم، وذلك بالرُّغم من عدم وجود نبيٍّ قد قُتل عند نزول هذه الآية.

إنَّ هدف الآية التَّحذير من استهداف النبيِّين بالتَّشويه والإذلال بقصد قتل نبوَّتهم، حيث إنَّها (النُّبوة) سببُ عداوة الكفار للأنبياء، وكذلك الحال في الذين يأمرون بالقسط من النَّاس، فإنَّ محاولة قتلهم حقيقة أو مجازا بإسكاتهم وإخضاعهم لها دافع واحد، ألا وهو طمس الحقِّ الذي ينادون به، ذلك الحقُّ الذي يتعارض مع مصالح المفسدين ومواقعهم.

إنَّ قتل النَّبيِّين يتَّخذ أشكالا وصورا شتَّى؛ منها محاربة أثرهم ومنهجهم، وذلك بالافتراء عليهم في حياتهم وبعد مماتهم. ومنها اتهام النَّبيِّ بالكذب والجنون والسِّحر أو ادعاء ألوهيته وتقديسه واعتبار كلامه ككلام الله تعالى. وكلُّ هذا له غاية واحدة، ألا وهو تشويه النُّبوة وإضلال النَّاس عن الوصول إلى نبعها الأصيل.

*وللمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع ننصح بقراءة مقالة جمال نجم (قتل النَّبيِّين والنُّبوة) على هذا الرابط  https://www.hablullah.com/?p=3106

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مفردات الراغب الأصفهاني، مادة قتل

[2]  البقرة 2/65، آل عمران 3/ 21، 112، 181، 182، النساء 4/ 55

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.