حبل الله

عين الحسود بين أساطير الجدود والحقِّ المشهود

الكاتبة: شيماء أبو زيد العدلي

بداية:

أود من القارئ الكريم أن ينسى أو حتى يتناسى ما علمه من مورثات وروايات حول ما نسميه بـ (عين الحسود) وذلك فقط، لمدة قرآته لهذا الموضوع.

نعلم جميعًا أنَّ الحسد هو : تمنِّي زوال النِّعمة عن الغير. وقد أُشيع بين النَّاس أنَّ الحاسد قد يؤذي المحسود بمجرد النَّظر إليه، وهو ما يُطلق عليه في الثَّقافة الشَّعبيَّة (عين الحسود)، فما حقيقة هذا الزَّعم؟ وهل ورد في القرآن ما يؤيِّده؟ أم ورد فيه ما يبطله؟ وهذا ما نحاول الإجابة عليه في هذه المقالة.

لقد ورد ذكر الحسد في القرآن في مواضع متعدَّدة، وسنبدأ بسرد الآيات الكريمة التي ذُكر فيها الحسد لفظًا ومعنى، أو معنى فقط؛ لنتبيَّن رأي القرآن في هذا الموضوع الذي يشغل بال الكثير من النَّاس:

1_ قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة (109).

كما نرى فأنَّ كثيرًا من أهل الكتاب أرادوا أن يردُّوا المؤمنين عن دينهم ويجعلونهم “كفارًا”.. والسبب في ذلك ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾.

والسؤال هنا: هل اكتفى هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى من أهل الكتاب بحقد قلوبهم وتمنِّيهم زوال النَّعمة، أو اكتفوا بمجرد النَّظر إلى المؤمنين بعين الحسود؛ لتزول نعمة الإسلام عنهم؟! أم أنَّهم حاولوا بشتَّى الطُّرق والوسائل ليردُّوا المؤمنين عن دينهم ليصيروا كفارًا مثلهم؟!

فنحن نعلم كم حاول أعداء الدِّين _وإلى يومنا هذا_ صرف المؤمنين عن دينهم؛ من ذلك محاولة تشويه صورة الدِّين وبثِّ الفتن. وذلك لحسدهم وحقدهم من أنَّ الرِّسالة قد أُنزلت على الرَّسول الكريم دونهم. كما بيَّن لنا الحقُّ تبارك وتعالى ذلك في السُّورة نفسها، حيث قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ البقرة (90).

و”بغيًا” ، أي طلبًا للرسالة ظلمًا وحسدًا وحقدًا على صاحب تلك النَّعمة وأتباعه، فمَعَ علمهم بصدقها وصدق من أُنزلت عليه إلا أنَّهم كفروا بها، ولم يكتفوا فقط بإنكارها وكفرها، بل حاولوا بثَّ الفتن كما أخبر عنهم العليم الخبير في قوله تَعَالَىٰ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ التوبة (48).

2_ الآية الثانية التي جاء فيها ذكر الحسد لفظًا. قَول اللَّه جَلَّ في عُلاه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ النساء (54).

وهنا يتكرَّر المشهد بصورة أُخرى من صور الحسد، حيث جاء في الآيات السَّابقة أنَّ بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالجبت والطاغوت كانوا يقولون عمَّن كفر أنَّه أهدى ممَّن آمن، وقد ذكر الله تعالى هنا السَّبب، ألا وهو ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ؟!

والسؤال هنا: ماذا فعل حسد هؤلاء بالرِّسالة؟! وماذا فعل حسدهم بصاحب الرِّسالة؟! وماذا فعل الحسدُ مع إبراهيم الخليل ومع آله وأبنائه الأنبياء الكرام الذين آتاهم الله من فضله وآتاهم ملكًا عظيمًا؟! هل أزال عنهم تلك النِّعم؟!

3_ ومن الآيات التي ذُكر فيها الحسد لفظًا قول اللَّه جَلَّ في عُلاه: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْۖ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِۚ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَاۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الفتح (15).

وهنا نجد شيئًا عجيبًا؛ وهو أنَّ المنافقين والكفَّار فهموا الحسد أكثرَ منَّا. فلو نظرنا إلى الآية الكريمة نجد أنَّ هؤلاء المُخلَّفين الذين لم يخرجوا في إحدى غزَّوات الرَّسول، وادعوا أعذارًا كاذبة واهية، أرادوا أن يخرجوا معه عندما وجدوا المسلمين قد انتصروا في المعركة؛ طمعًا في الغنائم، وعندئذٍ حكم الله عز وجل عليهم بعدم الخروج أبدًا؛ جزاءً لهم على تخلُّفهم.

فماذا كان ردُّ المنافقين عندما منعهم الرَّسول والمؤمنون من الخروج معهم؟ قالوا ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾. فقد ادعوا كذبًا أنَّ المؤمنين رفضوا خروجَهم معهم لمنع تلك النِّعم عنهم؛ حسدًا لهم، (حيث إنَّ من أشكال الحسد منع النِّعمة أو الخير عن الغير). وبالطبع هم مخطئون (ليس في فهم الحسد)، بل في ادعائهم الباطل على المؤمنين. حيث إنَّ عدم خروجهم ومنع تلك الغنائم عنهم، هو عقوبة من الله سبحانه وتعالى جزاءً على فعلتهم. وليس كما ادعوا من حسد المؤمنين لهم.

4_ سورة الفلق

يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى الاستعاذة في هذه السُّورة العظيمة من أربعة أمور آخرها الحسد في قوله: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ الفلق (5).

وكما نرى الاستعاذة جاءت من “شــــــــــرِّ” الحاسد  وليس من (عيـــــــــــن) الحاسد

ولنتأمَّل قولَه تعالى “حاسد” وهو من دخل شعور الحسد إلى قلبه، أمَّا “إذا حسد” فإذا تحوَّل وانتقل هذا الشُّعور إلى عمل وفعل.

فالاستعاذة كما ترون، ليست من نفس أو عين الحاسد الذي دخل الحسدُ قلبَه، بل هي من ترجمة وانتقال هذا الشُّعور إلى الفعل. وإلا كان في ذكر الحاسد وحده كفاية عن ذكر الفعل، ولكان قوله تعالى “إذا حسد” كلامًا زائد لا يحمل جديدًا، وهو ما يتنزَّه كتاب الله تعالى عنه. وذلك ليعلِّمنا الحقُّ تبارك وتعالى أنَّ الحسد لا يُلحق الضَّررَ بالمحسود بمجرد الشُّعور بالقلب أو النَّظرة بالعين، ولكن يلحقه الضَّررُ إذا تحوَّلت تلك المشاعر إلى أفعال وتصرُّفات تنمُّ عن حسدِ وحقدِ صاحبها. أمَّا الحاسد فيلحق الضَّررَ بنفسه من شعوره بعدم الرِّضا عن حاله وتمِّنيه ما عند الغير، أو حتى زواله دون أن يأتيَه، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه في كثيرٍ من الآيات منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ النساء (32).

وإليكم مثالا واقعيَّاً على ذلك: إذا نظر الحاسد إلى سيارتك الجديدة مثلا، فلن يصيبَها بسوء بمجرد الشُّعور بالحسد، ولا قيمة لنظرة عينَيْه ولو بقي ينظر إليها طيلة حياته، لكن لو خرج هذا الشعور بالحسد من حيز القلب والعين إلى حيز الفعل، كعمل ثقب في إطاراتها أو تجريحها بآلة حادة أو حرقها مثلا، فهنا يكمن شرُّ الحسد عندما يتحوَّل من شعور إلى عمل.

لقد تسبَّب الحسدُ في أول وأبشع جريمة في تاريخ البشريَّة، ألا وهي قتل الأخ لأخيه، كما جاء في قصَّة ابني آدم، فقد نبَّأنا العليم الخبير في قوله جَلَّ وعَلَا: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة (27).

فقد كان سبب القتل شعوره بالحسد نحو أخيه الذي تقبَّل الله تعالى منه قربانَه . ولكن السؤال هنا هل شعوره بالحسد وحده أو نظرته بعين الحسود إلى أخيه كانت كافية للقضاء عليه ؟!

وفي قصَّة يوسف نرى ما يمكن أن يؤدي إليه الحسد، فعندما ذهب يوسف الصِّدِّيقُ إلى أبيه يعقوب ليخبره بتلك الرُّؤية العظيمة كان ردُّ أبيه عليه: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًاۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ يوسف (5).

نعلم جميعًا أنَّ نبيَّ الله يوسف قد اتصف بصفات خِلقية من جمال الطَّلعة وحسنها إلى جانب صفاته الخُلقية فضلا عن حبِّ والده له منذ صغره، وهو السبب الذي أشعل نيران الغيرة والحسد في قلوب إخوته. والسؤال يتكرر هنا: ماذا فعل إخوة يوسف عندما شعروا بالحسد تجاه أخيهم؟! هل اكتفوا بالنّظر إليه بعين الحسود، حتَّى يتشوَّه جماله ويكرهه والديه؟! أم كادوا له بالقتل؟ حتى ألقوه فعلا في بئر لا يستطيع الخلاص منه بنفسه؟

إنَّ للحسد أشكالاً وألواناً أخرى نراها في مجتمعاتنا؛ من وشايات ومؤمرات على صاحب النَّعمة أو الشَّخص النَّاجح في عمله، أو محاولة التَّفريق بين الأزواج من بثِّ الفتنة بينهما، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى رمي المحصنات الغافلات إذا نجحْنَ في حياتهنَّ، أو الوقوف في طريق أولئك النَّاجحين في عملهم ووضع العقبات في مسيرتهم، وكبت حسِّ الإبداع والابتكار لديهم، ومحاولة الاستهانة بمجهوداتهم وبفكرهم، بل يصل الحدُّ إلى تسفيه عقول كثيرٍ منهم. وكلُّ ذلك يكون بدافع الحسد.

الفرق بين العين والحسد

يزعم البعض أنَّ الشَّخص ينظر إلى الشَّيء نظرة تحمل الحسد والحقد، فيخرج من عينيه شعاعًا يفتك بالشَّيء ويقضي عليه إمَّا في لحظتها أو فيما بعد، ثمَّ يزعمون أنَّ العلم أثبت وجود هذا الشُّعاع الذي يخرج من العين ويفتك بالشيء أو بصاحب النعمة؟!

وإذا افترضنا صحَّة هذا الزَّعم فكيف يمكن الإجابة على التَّساؤلات التَّالية: لماذا لم يَكْفِ الأنبياء نظرة عين الكافرين وشعورهم بالحسد تجاههم؟ ولماذا لم يكْفِ آدم نظرة عين  إبليس وشعوره بالحسد تجاهه؟ ولماذا لم يكف ابن أبينا آدم نظرة عين أخيه وشعوره بالحقد عليه؟ لماذا لم يكْفِ يوسفَ نظرة عين إخوته وشعورهم بالغيرة منه؟.

ألم يقل الله تبارك وتعالى وهو الذي خلق الإنسان ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النساء (28) ؟! فمن هم أصحاب تلك العيون الحاسدة التي يخرج منها هذا الشُّعاع الخفيِّ الذي غلب كثيرا من القوى الجبَّارة في العالم، والذي لديه طلاقة القدرة الخارقة؛ في أنْ يدمِّر هذا، ويخرق هذا، ويوقف حال تلك، ويمنع رزق ذلك. بل وصل الأمر إلى الزَّعم بقدرة تلك العيون على القتل.

وما بال الأعمى أو من فقد بصره؟! أليس له نصيبٌ من الحسد؟! أم أنَّ شعور قلبه يكفيه، ويُخرج من صدره ذلك “الشُّعاع المدمِّر” ؟! أم أنَّ هذا العلم الذي أثبت وجود ذلك الشُّعاع لم يُعرف من عهد أبينا آدم مرورًا بجميع الأنبياء؟! والذي لم تُشِرْ إليه آيةٌ واحدة في كتاب الله تعالى حتى يثبتها هذا العلم المزعوم! كما نرجوا من هؤلاء العلماء أنْ يدلُّونا على هؤلاء الأشخاص الذين طبَّقوا عليهم بحوثَهم العلميَّة التي كشفت عن وجود تلك الأشعة كي نسلِّطَها على أعدائنا فندمِّرهم بنظرة عين!. أم أنَّ هؤلاء العلماء يخافون من أن نحسدَهم على اكتشافاتهم المذهلة فأخفوها عن أعين النَّاس؟!

والحقُّ أنه لو كان الأمر كما يدَّعون، لما بقيت نعمةٌ على أحدٍ من خلقه، ولما بقيت نعمةُ الإيمان أيضا، ولانقرضت البشرية منذ زمن بعيد؛  فما بقي غنيًا ولا عالمًا ولا مخترعًا ولا شيئًا صالحًا نافعًا في حياتنا.

إنَّ هذه الدَّعوى مخالفة تمامًا لسُنَّة الله تعالى في الخلق، يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءًۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ الرعد (17). وليس العكس بأنْ يهلكَ الله تعالى النافعَ. ومن أجل ماذا؟! هل ابتلاء منه تعالى لعباده؟ كلا، بل من أجل إسعاد الحاسدين الحاقدين بزعمهم. ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾.

إنَّ المتأمِّل والمتفكِّر في حال النَّاس يجد أمورًا عجيبة؛ فلم تعُد لدينا بيوتٌ تُخرَّب بأيدي الزَّوجَين وعنادهما وعدم تحمُّلهما المسئوليَّة، ولا يمرضُ شابٌّ أو طفلٌ بسبب التَّلوث أو الأطعمة المليئة بالمبيدات الحشريَّة، ولا يقع صبيٌّ بسبب تعثرُّه في السَّير، ولا يتأخَّر زواجٌ بسبب الظُّروف الاقتصادية والمغالاة في المهور وانعدام الثَّقة بين الشَّباب والفتيات، ولا يرسب طالبٌ بسبب الكسل واللَّهو واللَّعب، ولا يُكسر إناءٌ أو جهازٌ بسبب الإهمال أو الخطأ، ولا تصطدم سيارة بسبب السُّرعة وعدم الالتزام بقانون السَّير. ولا يُقطع ثوبٌ بسبب مسمار، ولا يسقط شعر فتاة بسبب مرضٍ أو ضعف، حتى الحشرات لم تعد تتواجد في البيوت بسبب الإهمال وعدم النَّظافة، بل إنَّ كلَّ تلك الأشياء وغيرها تحدث _بحسب زعمهم_ بسبب تلك العين اللعينة!

لقد نسوا أو تناسَوا أنَّ ما يحدث في مجتمعاتنا من الأشياء السَّابقة وغيرها هو من كسب أيدينا ونتاج أفعالنا، كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الرّوم (41).

أرايتم؟: بأيدي النَّاس، وليس بأعين النَّاس.

وقد يسأل قارئ كريم : ألا تؤمنين بأنَّ (العين حقٌّ)؟! أقول إني بحثت في كتاب الله تعالى عن كلِّ متعلِّقات الحقّ، فلم أعثر عليه _ولو لمرة واحدة_ متعلِّقٌ بالعين على الرغم من ذكر العين في القرآن الكريم مرارًا وفي أكثر من آية. ولا أدري في الحقيقة من أعطى لها ذلك الحقّ؟! وكيف تكون للعين كلُّ هذه الخطورة ولا يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عنها ولو مرة في كتابه العزيز؟!

وهنا قد يرد سؤال آخر: ما رأيكِ في الأحاديث التي تُثبت صحَّة تأثير العين؟ ويذكر لي منها : (العين تُدخل الرَّجل القبرَ وتدخلُ الجملَ القدرَ). و(أنَّ أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين). و(أنَّه لو كان شيءٌ سابق القدر لكانت العين).

وجوابي أنَّ هذه الأقوال المنسوبة إلى رسول الله تحمل بين طيَّاتها الشَّرك بالله سبحانه، فكيف يمكن التَّسليم بأنَّ تلك الأقاويل والرِّوايات من قولِ رسولٍ كريم؟! وهل من الممكن أن يخالفَ رسولُ الله قولَ ربِّه سبحانه وتعالى؟! ألم يقل لنا ربُّ العالمين: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ الواقعة (60). فأيُّ قدر يأتي قبل قدر الله؟! أذلك مخصوصٌ بالعين فقط؟!

ولنا هنا وقفة .. ما جزاء من أدخل هذا الرَّجلَ القبرَ؟ أيْ ما عقوبته؟ هل يَقتُل ولا شيء عليه ؟ بل قد يقتل المئات دون أن يعرفه أحدٌ! أليس هذا قتلًا مع سبق الإصرار والتَّرصُّد؟ أليس الحاسد قد أضمر الشَّرَّ في نفسه وسمح لتلك “الأشعة القاتلة” أن تخرج من عينيه؛ لتقتل الرَّجل وتدخلَه القبر؟! حتى لو قتله عن طريق الخطأ بأن خرج هذا “الشُّعاع المِّدمر” دون قصد منه! هل توجد عليه ديةٌ وكفارة أمْ لا شيء عليه؟!

وعندما تُترك الأسئلة دون إجابة صحيحة فهذا يدلُّ على أنَّ أصلَ المسألة باطلٌ ولا وجود لها.

وقد يتساءل قارئ كريم ..فما قولكِ في آيتين وردتا في الإصابة بالعين ، وهما :

1_ قوله سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ القلم (51).

يزعم البعض أنَّ الآية الكريمة لها علاقة بالحسد وبالعين “بأبصارهم” .

والحقُّ أنَّ الآية لها علاقة وثيقةٌ بالحسد، لكن ليس كما يصوِّروه لنا، فالذين كفروا من شدَّة حسدهم وحقدهم على النَّبيِّ الكريم، ينظرون إليه نظراتهم السَّامة التي تكاد من حدِّتها أن تزلقه عن الحقِّ فيوافقهم على بعض ما يقولون.

ومثلُ هذا التَّعبير معروفٌ متدوالٌ بين النَّاس، عندما ينظر أحدُهم إلى الآخر نظرة مليئة بالحقد فنقول (كاد يأكله بعينيه).

ولكنَّ السُّؤال هنا: هل آذَوْا رسولَ الله “بأبصارهم” ؟! هل قتلته تلك النَّظرات الحاقدة الحاسدة؟! هل حرمَه ربُّه سبحانه الرِّسالةَ التي كلَّفه بها، بسبب حسدهم وحقدهم؟!

تجد الجواب عند ربك العزيز الوهاب .. الذي يهبُ عبادَه وينعمُ عليهم بغير حساب في قوله سُبْحَانَهُ: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ آل عمران (119). فكما ترى فإنَّ حسدهم لم يؤذِ نبيَّهم، بل آذاهم وضيَّق عليهم .

2_ قال تَعَالَىٰ: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍۖ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ يوسف (67).

يزعم البعضُ أنَّ النَّبيَّ يعقوب عليه السلام طلب من أبنائه أن يدخلوا من أبواب متفرَّقة؛ خوفًا عليهم من الحسد.

والسُّؤال هنا: ألا تستطيع تلك العين النَّظر إليهم وحسدهم إلا وهم مجتمعون؟! وهو الأمر الذي لم تُشرْ إليه الآية الكريمة لا من قريب ولا من بعيد. فلربما يكون السبب وراء أمر يعقوب لأبنائه بالدُّخول من أبواب متفرِّقة هو حمايتُهم من الأذى إذا دخلوا مجتمعين.

ولم يرد في الآية الكريمة السَّببَ وراء أمر يعقوب لأبنائه. بل ذكر أنَّها حاجةٌ في نفسه لم تغنِ عنهم من الله شيئا: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَاۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف (68).

وأخيرًا : أعتقد أنَّ فهم ديننا من كتاب ربنا هو السَّبيل لرفعتنا وتقدُّمنا، فلا ينبغي أن نترك عقولنا لتلك الخرافات والأساطير التي جعلت شعوبنا مليئة بالأمراض الاجتماعية الخطيرة.. تلك الأمراض التي تقف حاجزا دون تقدُّمنا وانطلاقنا نحو آفاق رحبة تُبدع فيها العقول بضوء من كتاب الله تعالى فتحقِّق حضارةً طالَ انتظارُها.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قيل فيهم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر (18)

تعليق واحد

  • مقال رائع وتحتاجه مجتمعاتنا، فقد كثرت فيها هذه الخزعبلات حتى أضحى مفهومهم للحسد يؤدي إلى عدم مشاركة الأفراح وبالتالي ينزع أواصر المحبة والثقة بيننا، فبات الصديق يُخفي عن صديقه أمورا خوف الحسد فتخرب الصداقة والأخوة ووو..
    جزاكم الله خيرا عنا وعن كل المسلمين.. أدلة لا يتغاضى عنها إلا جاهل.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.