حبل الله

الصُّلب والتَّرائب

الصُّلب والتَّرائب

أ.د عبد الحميد الجهاني (اختصاصي جراحة العظام والحوادث)  

الذَّكر والأنثى

مقدمة

هذه المقالة هي محاولة متواضعة لفهم الآيات الكريمة 5 – 8  من سورة الطارق. حيث يقول الله تعالى فيها:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ[1] مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (الطارق 5-8)

ونريد هنا معرفة المقصود بكلمتي (الصُّلب و التَّرائب) تحديدا.

ولقد تعوّدت اتباع منهج معين في الاقتراب من آيات القرآن الكريم لفهمها والتدبّر فيها.

وهو البحث أولا؛ في القواميس العربية عن معاني المفردات القرآنية، وثانيا؛ البحث في التفاسير القرآنية المتوفرة لدينا ، وثالثا؛ البحث في العلوم الطبيعية عما يمكن مطابقته مع ما يتمشى والمعنى العام للآيات الكريمة. ورابعا؛ الاطلاع على ما كُتب حول هذا الموضوع سابقا، وخامسا؛ الاستعانة ببعض أهل الذكر[2]، وسادسا؛ البحث في القرآن الكريم نفسه عن آيات أخرى متشابهه تشرح وتبين وتوضح المقصود بهذه الآية، فالله يقول:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (آل عمران 7)

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف 52)

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود 1)

وسابعا وأخيرا؛ تجميع هذه المعلومات في بوتقة جامعة وصياغتها في إطار منطقي مبسّط مفهوم، والله من وراء القصد.

1_معنى الصلب والترائب في القواميس العربية.

في معجم المعاني الجامع، وفي قاموس المعجم الوسيط وقواميس عربية أخرى يتم تعريف الصلب بالشيء الجامد واليابس والقوي بعكس السائل أو الغازي الطبيعي.

ونجد هذه الصفات فى جسم الإنسان في العظام، كما في الظهر مثلا؛ أي بفقراته. ولذلك يمكن القول إن الصلب هنا يقصد به ظهر الإنسان وفقراته سواء كان ذكرا أو أنثى .

وهذا تعبير دقيق في القرآن الكريم، ذلك لأنّه من بين فقرات الظهر تخرج الأعصاب التي تغذي الأعضاء وتتحكم في حركتها وآداء وظيفتها.

أمّا (الترائب) ومفردها (تريبة) يمكن اشتقاقها من الأصل (ت ر ب) ومنها تراب وتترّب. والسائل المنوي لديه صفات شبيهه بصفات التراب، وفي المعاجم العربية المذكورة آنفا نجد أنَّ التراب ما لَان ونَعُم من سطح الأرض. إنّ صفتي الليونة والنعومة متوفِّرتان في كل الأنسجة الرطبة للأنثى أو للذكر … وعليه فالأنسجة الرطبة التي لها علاقة بالخلقة لا بد أن تكون تلك التي لها علاقة بالتكاثر، وأقصد الأجهزة التكاثرية لدى الجنسين ..

ونجد في المعجم العربى معناً آخر، وهو الكثرة: يقال؛ كثر ماله فصار كالتراب.

وهذه الصفة موجودة في السائل المنويّ أيضا… فهو يحتوى على عدد هائل من الحيوانات المنويَّة إذ يصل عددها إلى عدة ملايين في القذفة الواحدة. فكلمة (دافق) لا تعني بالضرورة الكمية الظاهرة والحجم الذي يقاس مثلا بالسينتيمتر المكعب، فهو (مهين) أي قليل، ولكن المقصود هنا كثرة المحتويات التي يحملها هذا السائل من الحيوانات المنوية.

وهناك صفة أخرى وردت في نفس القواميس وهي خاصية الالتصاق بالشيء : أي تترَّبَ، بمعنى لصق به التراب. وكذلك السائل المنوى عنده خاصية الالتصاق بالشيء المقذوف به. بينما نجد أن خاصيَّة جعْل المسالك التكاثريّة زلقة هي الصفة الظاهرة في الإفرازات الأنثوية.

فنخلص إذن إلى أن الترائب هي مجموعة الأعضاء الرّطبة اللّازمة للتكاثر لدى الذكر والأنثى، ولتكوين المواد التي بدونها لا يتمّ أي تخصيب ولا يتكون أي جنين.

2_ قول المفسرين في كلمتي الصلب والترائب:

ففي تفسير الماتريدى، وفي أيسر التفاسير للجزائري وتفسير ابن أبي حاتم والجلالين والقرطبى وابن كثير وفي التفسير المُيسَّر والموسوعة القرآنية والفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية نجد أنها تتحدث عن صلب الرجل وترائب المرأة، وأنَّ الترائب هي عظام صدر الأنثى أي ضلوعها، ولكأنّ الصلب لا يوجد إلا بالرجل وأن الترائب لا توجد إلا بالمرأة. وهناك من تحدث عن العدد وقال إنها أربعة ضلوع، ومنهم من تحدث أن للمرأة منيِّا كمنيِّ الرجل، ومنهم من وصف المني المتدفق بأنه مسترذل وفضلات خبيثة بنص الكلمة.

تقييمنا لأقوال المفسرين بخصوص الصلب والترائب

إن الآية لم تتحدث لا عن رجل ولا عن امرأة، إنما تحدثت عن الخَلْق بصفة عامة، وتشير الآية إلى كيف يبدأ البحث عن كيفية الخلق بالنظر إلى هذا الماء الذي يخرج من بين الصلب والترائب. ونحن نعلم أن كلا من الرجل والمرأة لديهما صلب وترائب. فالله تكلم أولا عن الصلب، فلا بد أن يكون اللاحق شيئا غير الصلب أي رطبا مثلا. وأعتقد أن كلمة مَنيّ لا تسخدم الا لمنيّ الرجل. ثم كيف يكون هذا الماء المذكور تحديدا في الآية الذي هيَّئَه الخالق عز وجل ليخلق منه الإنسان الذي كرمه مسترذلا؟ وفضلة خبيثة (الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية)؟ فكيف لبشر أن يحقر شيئا لا يمكنه أن يصنع مثله أبدا حتى لو اجتمعت الإنس والجن لصنعه ما استطاعوا ولن يستطيعوا له صنعا..

فهذا الماء على قِلَّتِه النِّسْبية هو من أغلى وأرفع الأشياء وأطهرها ، ويحتوى على سر خلق الإنسان كله وهو الامتداد الحقيقي الحيّ المستمر لنطفة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، وإلى أن تقوم الساعة، فمَهين الواردة في قوله تعالى {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } (السجدة 32) تعني القليل أو اليسير؛ فلا هو بمسترذل ولا هو بفضلة خبيثة ولا هو بنجس. أي من هذه الكميّة القليلة التي لا تتعدى 2 _ 3 سم مكعب أو أقل يتم خلق الإنسان منها بالكامل، وخلق سلالته من ورائه أيضا … فسبحان الله العظيم…

وأريد أن أقف هنا عند هذه الآية الكريمة وأقول إنَّ الله قد بَيّن فيها الأمور العلمية التي يجب أن يعرفها كل مسلم حول خلقه، فبداية خلقه، شاء أم أبى، هي من طين، وتحديدا من طين لازب أي لاصق أو لازق. كما قال الله تعالى:

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (الصافات 11)

وبعد أن خلق الله أبانا آدم من طين جعل سلالته ونسله من ورائه من القليل من الماء الذى أودع الله فيه سر الخلق العجيب.. ومن جديد نجد كلمة سلالة تشير إلى تسلسل الخلق من سيدنا آدم إلى يوم القيامة عن طريق هذا الماء.

يقول الله تعالى في موقع آخر من كتابه الكريم حول خلق الإنسان:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة 30).

فقد جعل الله في أرضه  -خليفة-  وهو الإنسان هنا ، وخلِيفة تعني أنه يخلُف بعضه بعضا إلى يوم القيامة ، أي أن الله جعل لآدم عليه السلام زوجا له من ذات النفس المخلوقة من تراب، غيّر الله بها طريقة الخلق وجعلها عن طريق التزاوج  ليأتي بالخَلَفِ له كما وصفه الله إلى أن يشاء الله، وهذه إشارة صريحة إلى استمرارية حياة النطفة من سيدنا آدم إلى أن تقوم الساعة ..

من جانب آخر نجد أن الله سبحانه وتعالى أسبق كلمة النطفة التي هي البويضة (الخلية الأنثوية) المخصّبة الجاهزة للانقسام الميتوزي والتكاثر بكلمة التراب وذلك في أكثر من آية، وهذا يشير أولاً إلى أن أصْل تكوينها _في الحقيقة_ هو التُّراب،  وثانيا لا بدَّ أن يكون لديها صفات ترابية.

فأصل الخلق إذن هو التراب، كما بينه قوله تعالى:

كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب (آل عمران 59)

ثم جعله الله يستمر لتحقيق الخلفة المذكورة آنفا عن طريق النطفة:

فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ  (الحج 5)

وهكذا نرى أن الله سبحانه جمع في أكثر من آية كريمة بين التراب بصفته أوّل الخلق ثم اتبعه بالنطفة لاستمرار الخلق …

وهذا يعني أن أصل النطفة هو التراب حسب هذه الآيات …

ويعني أيضا تحت منظور الخِلْفَة واستمرارها أنَّ هناك استمرارية في هذا الوصف القرآني : حيث خلق الله من التربة آدم عليه السلام ثم خلق له زوجه لتكوين النطفة … وتستمر هذه النطفة في طريقها حيَّة ترزق ابتداءً من سيدنا آدم إلى يومنا هذا دون أن تموت أو يقف تصنيعها إلى أن يشاء الله الخالق سبحانه …

فما إن يموت الإنسان إلا ويكون قد ترك وراءه خِلفته من بنين وبنات يحملون معهم سرَّ الخلق التالي بمشيئة الله سبحانه.

3_ التفسير الطبي والفيزيولجي لكلمتي الصلب والترائب:

أ_ الصلب

الجهاز التكاثري سواءً الذكري أو الأنثوي يحتاج للإمداد بالأعصاب ليتمكن من آداء عمله. وهذه الأعصاب تتبع الجهاز العصبي الّلاإرادى : الوِدِّى  (Sympaticus) والغير وِدِّى  (Parasympaticus). وهذه تنبثق من العمود الفقرى ومن عظم العجز.

والصورة الآتية توضح المقصود:

الصلب (العظام) على يسار الصورة، والترائب (الأعضاء التكاثرية) على اليمين

الجهاز التكاثري (لدى الجنسين) يتم إمداده بالأعصاب الودية (Sympathicus) من الجذور العصبية من الحبل الشوكي من الفقرة الصدرية 10 إلى الفقرة القطنية 2، وبالأعصاب اللّاودية (Parasympathicus) من الجذور العصبية العجزية 2 إلى 4.

وهذه كلها تخرج من العمود الفقري ومن العجز الذي يمثل نهايته، وهذا ما نطلق عليه صلب الإنسان أي ظهره.

وفي المعاجم العربية مثل معجم المعاني الجامع وفي المعجم الوسيط نجد تفسير الصلب أنَّه الشيء الجامد والشديد واليابس، ويقصد به ظهر الإنسان وصلبه.

وهذا هو المقصود أيضا _كما أتصور_ من قول الله تعالى (الصلب) في الآية. أي أنَّ الخلق يتم بالاستفادة من (الصلب) الذي يحضر للجهاز التكاثري (الترائب) الأعصاب المشغِّلة لأجزائه المختلفة.

فبدون هذه الأعصاب المُشَغِّلة سوف لن يعمل المصنع ولن يتم إنشاء الحيوانات المنوية ولا نضوج البويضات، حيث بين توريد الأعصاب المشغلة عن طريق (الصلب) وبين الأعضاء التكاثرية (الترائب) يتم خلق  الماء الذكري الذي يخرج بتدفق (القناة الدافقة) وقوة إلى الخارج ليتجه إلى هدفه وهو البويضة، فإن لم تكن موجودة في الرحم فسيتم البحث عنها في قناة فالوب لتخصيبها وتكوين النطفة.

ب_ الترائب

عند الرجوع للآيات الكريمة في سورة الطارق: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (الطارق 5-8) نجد أن كلمة الترائب لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة في الآية 7 من سورة الطارق. كما أن خاصية تصنيع الخلايا التكاثرية بطرف الانقسام التناصفي لا نجدها إلا في نوع واحد من الأنسجة بداخل جسم الإنسان، وهي الترائب… ونستشفُّ من الحديث عن خلق الإنسان واستمرارية وجوده بعد سيدنا آدم عليه السلام أن هذا لا يتمُّ إلا من خلال التزاوج بين ذكر وأنثى، حيث تبدأ العملية بماء الذكر.

وتحتوي كلمة (دافق) على معنى الاندفاع بشدَّة وقوَّة (لدى الرجل) من ناحية…إلا أنها تعني من ناحية أخرى الكثرة الوفيرة، وهنا إشارة إلى العدد الهائل من الحيوانات المنوية التكاثرية …

إن هاتين الصفتين تجتمعان لدى خروج ماء الرجل عند استدعائه ..

وبالنسبة للمرأة فعند نضوج البويضة في كيسها بداخل المبيض فهي أيضا تخرج بانفجار قوى يؤدّي إلى تمزّق جدار الكيس المباشر وإلى تمزّق جدار المبيض (ينتج عن ذلك آلام وسط الدورة) لتندفع إلى التجويف البطني بقوة، ويخرج معها محتويات الكيس وسائله فتلاحقها فورا أذرع البوق الذي تبتدء به قناة فالوب ليلتقطها ويدفع بها إلى القناة الناقلة (فالوب) إلى التجويف الرحمي. (انظر إلى الرسم التوضيحى عن المبيض ومراحل تكوين البويضة).

وأعتقد أن هذا هو الماء الدافق بالنسبة للأنثى الذي يحتوى على البويضة الجاهزة أيضا للتلقيح. والله أعلم.

إن الحديث في الآية يدور حول الجهاز التناسلي للذكر والأنثى عند الإنسان؛ لأنَّها الآلات  لتنفيذ أمر الخلْق … حيث نعلم أنه لا بد من خروج ماء الرجل (الذي يحتوى على المني) من موقع تصنيعه إلى الخارج لبدء الخلق … لأنه إن بقي بداخل مصنعه سوف لن يحدث خلق جديد … بينما بالنسبة للأنثى فلا تخرج منها البويضة للخارج أبدا … بل تبقى بداخل جسمها حتى تغزوها الخلية الذكرية في عقر دارها (داخل الرحم بجسم المرأة) وتخصيبها لبدء تكوين الخلق البشري. فإذا لم يتم تخصيبها تموت البويضة داخل الرحم الذي يلفظها بعدئذ إلى الخارج على هيئة طمث شهري ينساب ببطء خارج الجسم.

كما أن هناك ملاحظة أخرى يجدر ذكرها في هذا الصدد : وهي أنه وردت كلمة الصلب قبل كلمة الترائب في الآية الكريمة، وأعتقد أنَّه يتم تكوين الأشياء الصلبة أولا ثمَّ تتلوها الأنسجة الرطبة أثناء تكوين الجنين، فالترائب تعني الأجهزة التكاثرية في الجنسين وهي تتبع من حيث رطوبتها للأنسجة الرطبة الأخرى، قال الله تعالى:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون 12-14)

وفى معرض التوصيف الدقيق لتطوُّر الجنين في الرحم تحدثت الآيات عن خلق العظام (الصلبة) أولا ثم اتبع هذا بكساء العظم لحماً (رطِباّ).

4_ الجهاز التكاثري لدى الرجل:

ينقسم الجهاز التكاثري لدى الرجل (Organa genitalia masculina interna)، وكذلك لدى الأنثى، إلى جزئين: داخلي وخارجي.

ويتكون الجزء الداخلي للرجل من زوجين (اثنين) من الخِصىّ : Testis ومن البربخ:Epidydimis  ومن قناة المنيّ:Ductus deferens  (spermatikkord) ومن أجزاء أخرى لا تهمُّنا في هذا البحث.

ونجد أن تكوينهما يبدأ في قعر التجويف الحوضي بجسم الرجل عند نهاية الظهر الداخليّة السفليّة، ولهذا فهما أصلا تتبعان الأجهزة الداخلية، ولكن لحكمة إلهِيَّة نجدهما بعد الشهر السابع من الحمل بدأتا بالتحرك إلى خارج الجسم عن طريق القناتين الأُرْبِيَّتَين لتستقرِّا في نهاية هجرتهما بالصِّفْن (الغلاف الخارجي للخصيتين) مجتمعتين به لحمايتهما.

أ_ موقع الخصيّ:

انظر الرسم التوضيحي الآتي:

وتقع خارج الجسم فى كيس ذي عدة أغلفة خارجية ( Skrotum : الصِّفْن) للحفاظ عليها.

والحيوانات المنوية تحتاج لدرجة حرارة 32 مئوية ليتم نضوجها، أي بأقل من درجة حرارة الجسم الداخلية بأربع إلى خمس درجات ونصف، وهذا لا يتوفر لها إلا خارج التجويف البطني، ولذلك وجدت الخصي طريقها من التجويف البطني بأغلفتها عن طريق القناة الأربية إلى خارج الجسم لتتدلى من أسفل البطن (الترائب الذّكرية).

 (الترائب الذكرية) كيس الصفن بمحتوياته المتدلي خارج الجسم من أسفل البطن

ب – التركيبة الداخلية للخصي:

تتكون كل خصية من قناة أنبوبية طويلة تلتف بطريقة تراكمية تُحاط من الخارج بغلاف يعطيها مظهرها البيضوى الخارجي كما هو موضح في الصورة الآتية:

هذا الأنبوب هو المَصْنع للخلايا الذكرية (Spermatogenese). حيث توجد على الغشاء الداخلي (يسمى الغشاء القاعدي) منه الخلايا الأم (الإنشائية) التي تنمو مكوِّنَةً المَنِىّ الذي يتم تجميعه فيما بعد بالبربخ حتى يتم نضجه وتجهيزه للخروج، وتتولى القناة الدافقة (Ductus ejaculatorius)   _وهي قناة يسير إليها المني الجاهز_ بدفع المني وسائله بقوة واندفاع إلى الخارج عن طريق العضو الذكري :

مقطع عرضي لأنيبيبة (تصغير أنبوبة) منوية تظهر مراحل تكوين الحيوان المنوي من الخلايا القاعدية

وفي الصورة الآتية رسم توضيحي لحيوان منوى واحد بأجزائه المختلفة:

وفي قول الله عز وجل:  {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق 5-7) أمر للقارئين بالبحث عن سر الخلق والتكوين، فلا بد أن يسأل الإنسان نفسه كيف يتم خلقه؟ والله هنا وضع أيدينا على المرحلة الأولى، وهي الماء الدافق… والجمع بين الأمر بالبحث والتنبيه إلى الماء الدافق الذي يستعمل للخلق تشير إلى سر عظيم نجده في تكوين البذرة الحيوانية (الذكرية والأنثوية) اللّازمة للبدء بالخلق..

فالصورة العليا التي توضح حيوانا منويا واحدا بأجزائه المختلفة نجد أن رأسه يحتوى على نصف عدد الكروموزومات الموجودة عادة في أي خلية أخرى في جسم الإنسان {الانقسام التناصفى :(meiosis)} …فالخلية الجسمية في جسم الإنسان تحتوى مجهريا على عدد 46 كروموزوم، وهي الخلية تامة النمو التي تمارس وظيفتها بالكامل : فإن كانت خلية كبد _مثلا_ نجد أنها تقتل السموم الواردة إليها من الجهاز الهضمي، وتصنع الصفراء، وتصنع البروتينات إلى آخره من مهام منوطة بها، وإن كانت خلية كلوة نجد أنها تؤدي مهمتها على أحسن وجه مطلوب، وإن كانت خلية مَعِدِيَّة نجد أنها تفرز الأنزيمات الهاضمة وأحماض الهيدوكلوريك المهمة بالمعدة، وهكذا دواليك.

ولكن الماء الذي يتمُّ منه خلق الكائن الإنساني له صفات أخرى تختلف عن الصفات العادية. وهنا تأتي وظيفة النظر والتفكر في خلق الإنسان. فهذا الماء يحتوى مجهريا على ما نسميه المنيّ الذي يتكون من مجموعة هائلة مما نسميه بالحيوانات المنوية التي نرى في الأعلى واحدا منها بتركيبته العجيبة المهيئة للتكاثر.

ج_ وظيفة الخِصيّ:

وهما أداة تصنيع الخلايا التكاثرية الذكرية (Sperma) وكذلك موقع تصنيع الهرمونات الذكرية  (Androgene) مثل التيستيرون  Testosteron)) ويتم تجميع الخلايا التكاثرية بعد تصنيعها  فيما يسمى بالبربخ. وعند القذف بواسطة القناة القاذفة تتدفق هذه الخلايا وقد اختلطت بسائل البروستات والغدد الحويصيلية التي تشكل 60 % من ماء الرجل من خلال قناة المنيّ إلى الخارج.

انتاج الخلايا والهرمونات الذكرية يستمر لدى الرجل، بعكس الأنثى، حتى سن متأخرة من عمره.

5_ الجهاز التكاثري لدى الأنثى:

 

أ_ موقع الجهاز التكاثري من حوض المرأة

يقع الجهاز التكاثري لدى المرأة في أسفل الحوض من الداخل بين الفقرات القطنية من الخلف وعظام العانة (الحوض) من الأمام محشورا بين المستقيم والمثانة، والصورة التشريحية تبين بوضوح هذا الموقع.

ويتكون من الأعضاء الخارجية والمدخل للرحم، ومن الأعضاء الداخلية التي هي: الرحم والمبيضين والقناة الرابطة أو الموصّلة (فالوب) بينهما.

ب_تفاصيل مكونات الجهاز التكاثري لدى الأنثى

لدى المرأة مبيضان واحد على اليمين وآخر على الشمال، وهما المصنع لما نطلق عليه الخلايا التكاثرية النسائية أو البويضات.

ومن الجدير بالذكر _على سبيل المقارنة بين الذكر والأنثى_ فإن للمرأة عددا محدودا من البويضات في مبيضيها يكتمل عددها قبل ولادتها .. فبعد الولادة لا يصنع المبيض بويضات جديدة ولا يزيد عددها أبدا، ولكن تولد المرأة بهذا العدد المعروف من البويضات الأوّليّة غير مكتملة النمو حيث بعد البلوغ  تبدأ البويضات في النضوج التدريجي بويضة بعد أخرى (حوالي أسبوعين لكل بويضة) على مراحل.  وعدد هذه البويضات هو الذي يحدد مدة قدرة المرأة على الإنجاب، ومتى ستصل إلى سن اليأس، حيث تمثل كل بويضة واحدة شهراً قمرياّ من عمر المرأة التكاثري النشط .

وانتهاء البويضات من المبيض ونضوب المخزن (المبيض) منها يعني _بيولوجياً وفيزيولوجياً_ انتهاء القدرة على الإنجاب. وكما نعلم فإن الرجل لا يعرف _فيزيولوجيا_ سن اليأس ، فهو ينتج دائما حيوانات منوية باستمرار حتى في سن متأخرة من عمره.

المبيض ونضوج البويضات:

المبيض، ونرى مراحل نضوج البويضة الأنثوية الأولية بداخله من حويصلة أولية الى حويصلة مكتملة، ثم الانفجار (الدفق) الذي يؤدى إلى تحرير البويضة الناضجة وخروجها من الحويصلة والمبيض لتتجه عبر قناة فالوب لتستقر في قعر الرحم عالقة (علقة) ببطانته الداخلية

وهذه الأعضاء المخصّصة لنضوج الخلايا التكاثرية للنساء هي بكل تأكيد المقصودة بالتعبير القرآني: الترائب، وهنا الترائب الأنثوية.

كذلك يتم تكوين ونضج البويضات الأنثوية وتجهيزها وخروجها من المبيض عن طريق الانفجار (التدفق) ثم تدحرجها في قناة فالوب متجهة إلى الرحم لتعلق به سواء تم تخصيبها أم لا. فإن كانت مخصبة استمر نموَّها وتكاثرها مكوِّنة الجنين، وإن لم تكن مخصبة فستموت في بضعة أيام ليضمها الرحم بطبقة يتم سلخها من بطانته ويلفظها جميعها إلى الخارج على هيئة الطمث الشهري.

اختراق رأس الحيوان المنوي (والحاوي على نصف الجينات الوراثية للرجل) لجدار البويضة (التي تحوي نصف الجينات الوراثية للمرأة)

وبعد هذه الإيضاحات أخلص إلى أن الآية الكريمة (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) هي شرح دقيق لما يحصل لدى الرجل ولدى المرأة بعد نضوج الخلايا التكاثرية لديهما:

فبالنسبة للرجل بعد إتمام نضوج المني في البربخ تجتمع الكمّية منه في القناة الدافقة لتقذفه إلى الخارج بقوة واندفاع، وهذا هو الماء الدافق بالنسبة للرجل الذي يحتوى على الحيوانات المنوية الجاهزة لتلقيح البويضة. والله أعلم.

وبالنسبة للمرأة فعند نضوج البويضة في كيسها بداخل المبيض فهي أيضا تخرج بانفجار قوي يؤدّي إلى تمزّق جدار الكيس المباشر وإلى تمزّق جدار المبيض (آلام وسط الدورة) لتندفع إلى التجويف البطني بقوة ويخرج معها محتويات الكيس وسائله فتلاحقها فورا أذرع البوق الذي تبتدء به قناة فالوب ليلتقطها ويدفع بها إلى القناة الناقلة (فالوب) إلى التجويف الرحمي. (انظر الى الرسم التوضيحى عن المبيض ومراحل تكوين البويضة).

وأعتقد أن هذا هو الماء الدافق بالنسبة للأنثى الذي يحتوى على البويضة الجاهزة أيضا للتلقيح[3]. والله أعلم.

6_ الوظيفة الخاصَّة المنوطة بالجهاز التكاثري

مهمة هذا الجهاز انتاج خلايا لا تحوى إلا على نصف العدد من الكروموزومات الموجودة أصلا فى الخلايا القاعدية الأم، فهذه الأخيرة _كأي خلية فى جسم الإنسان_ تحتوى على عدد 46 كروموزوم، فعملية انتاج الخلايا التكاثرية مثل المني عند الرجل أو البويضات عند المرأة تتم إذن بطريقة الانقسام التناصفي أو المايوزي (meiosis) للكروموزومات إلى مجموعتين متساوتين؛ أي إلى 23 و 23 . ثم يتم تغليف كل مجموعة على حدة، وهكذا يصبح لدينا من خلية أم واحدة بها 46 كروموزوم اثنتين من الخلايا التكاثرية التي تحتوى كل واحدة منها على 23 كروموزوم. وهذا في غاية الأهمية: فعند التلقيح تجتمع بويضة أنثوية بها 23 كروموزوم وأخرى ذكرية بها نفس العدد من الكروموزومات لتنتج الخلية المكتملة أو الملقحة (النطفة) التي تحتوي على العدد الطبيعي للكروموزومات وهو 46. وهذه النطفة بهذه المواصفات تكون قادرة على الاستمرار في التكاثر العادي أو الانقسام الفتيلي وتكوين الجنين في النهاية، فلولا عملية الانقسام التناصفي أو المايوزي التي لا تتم إلا في الجهاز التكاثري (الترائب) وحصلت عملية الإخصاب بنفس عدد الكروموزومات العادية (46) في كل خلية لأصبحت الخلية الملقحة تحتوى على عدد (92) كروموزوم، وهذا لا يتفق مع الحياة أبدا وسوف لن تكون مثل هذه الخلية قادرة على البقاء حية، فسبحان الله الذى جعل كل شيء بقدر وميزان.

الحيوان المنوي الذكري عند نضجه واكتمال تصنيعه عن طريق الانقسام التناصفي (المايوزي: meiosis) لا يحتوي إلا على نصف عدد الكروموزومات (الجينات الوراثية) أي  العدد 23 ، أي أن كل خلية إنشائية يصدر منها خليتان جديدتان أي حيوانان منويّان يحتوي كل واحد منهما على نصف عدد الكروموزومات، وكذلك هو الحال بالنسبة للبويضة الأنثوية التي تحمل بعد نضجها هي الآخرى عدد 23 كروموزوم لا غير… وهكذا وبعد الإخصاب نحصل على النطفة وبداية الخلق التي تحتوى على :23 + 23 = 46 كروموزوم؛ النصف أتى به الحيوان المنوي الذكري والنصف الآخر أتت به البويضة الأنثوية ليعطينا خلية أولية (النطفة) التي تحتوى على العدد الصحيح للجنس البشري والقادرة الآن على التكاثر بأمر ربها وتكوين العلقة (عن طريق ما يسمى بالانقسام الميتوزي أو الفتيلي : mitosis)… وهكذا يستمر الخلق بعد هذا في رحم الأم إلى أن يصبح بشرا سويا …

وهكذا وحسب ظني أن هذه الأعضاء الرطبة المسؤولة عن تكوين الخلايا التكاثرية لدى الإنسان هي ما أسماه الله بالترائب (الذكرية والنسائية).

وقف السليمانية/مركز بحوث الدين والفطرة

موقع حبل الله www.hablullah.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]وردت كلمة (يَخْرُجُ)، وهي فعل لفاعل غائب، ولغويا يمكن اختيار الفاعل إما أن نعيده إلى (الماء) بصفته الأقرب، إو إلى المخلوق المشار إليه فى سياق الآية (مِمَّا خُلِق) والحديث في الآية عن الإنسان الذي تم خلق الإنسان فى رحم أمه.  فإن جعلنا  الماء فى حديثنا هو الفاعل، نفهم توجيه النظر إلى كيفية الخلق من هذا الماء وهو ما سنسلط الضوء عليه في هذا البحث العلمي المتواضع … وإذا جعلنا الفاعل هو المخلوق البشري المشار إليه في الآية (الإنسان) الذى يخرج من بين الصلب والترائب بعد إتمام خلقه، وهو محتمل أيضا، فسيكون الحديث عن لحظات الولادة بعد استواء الطفل في رحم أمه، وهذا مع الإبقاء على تفسير الترائب بأنها الأجهزة التكاثرية، فيمكن القول أن هذا المخلوق عند ولادته يخرج من أواسط الحوض النسائي العظمي، وهذا هو (الصلب) ويترك التجويف الرحمي وعوالقه وهذه هي (الترائب). أي أن هذا المخلوق يخرج من الصلب والترائب إلى خارج جسم أمه.

[2] وأهل الذكر الذين أتبادل الرأي معهم هم زملائي الباحثون الكرام في وقف السليمانية (مركز بحوث الدين والفطرة)، حيث إنهم جميعا من المتخصصين في مختلف العلوم الإسلامية واللغوية، ولديهم ثقافة عامة واسعة، وفي استشارتهم المنفعة.

[3]في الرابط التالي شريط فيديو يبين مراحل دقيقة من رحلة الحياة للحيوانات المنوية ثم لقائها بالبويضة وإخصابها ثم رجوع النُّطْفَة إلى الرَّحم لتعْلق في جداره، ثم كيف تُخْلق المُضْغَة من العَلَقة حتى تكوين الجنين … https://www.youtube.com/watch?v=JIydulY_Nhs

تعليق واحد

  • تفسير جميل ولكن لم يفسر احد الترائب بالليونة وقد ذكرت البحث في قواميس اللغة العربية فهل من مراجع نستطيع مراجعتها

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.