حبل الله
تديُّن الإنسان وتديُّن الكائنات الأخرى

تديُّن الإنسان وتديُّن الكائنات الأخرى

تديُّن الإنسان وتديُّن الكائنات الأخرى

إنّ ما بَيَّنَهُ الله تعالى في كتابه القرآن نفس ما أودعه تعالى في الفطرة، وهما شيء واحد أصلا، فهذا كتابه الذي أنزل، وهذا كتابه الذي أوجد. وكل قطعة في الكتاب المنزل آية, كذلك كل شيء في الكتاب المُكَوَّنِ آية. والقيام بأوامر المنزَّل، والانتهاء عن مناهيه، والتخلق بأخلاقه، والاتعاظ بمواعظه والاعتبار من قصصه تديُّن, كذلك الإذعان لأسرار الكتاب المكَوَّن وحِكَمِه، وتجنُّب الإضرار به، والانسجام مع متطلباته، والاعتبار من مناظره تديُّن كذلك. وهدف كليهما واحد، وهو سعادة الإنسان. فكيف خلق الله تعالى كتابه المخلوق لها[1]، كذلك أنزل كتابه المنزل لها[2]. وبالنتيجة يكون الدين للإنسان، وليس الإنسان للدين.

والمخلوقات كلها_غير الإنسان_ تلازم الفطرة، أي تعيش وفق ما تقتضيه فطرتها وتتحرك حسب ما تدعوها إليه. ولا تتعارض مع غيرها ولا تُخِلُّ بحقوقه. وما خالف الفطرة منها فهو هالك. وهذا معلوم لكل ذي عقل. وأما الإنسان فاستجابته لدعوات الفطرة تأتي على ضربين: أحدهما جبرية والأخرى اختيارية، والقسم الثاني هو مقتضى التكليف (الامتحان)، فخصّه الله تعالى بالميزات وأعطى له الحرية والإرادة، وقد علق سعادته في الدارين بها (باستجابته الاختيارية). قال تعالى:

{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة38).

والناس جميعهم يستجيبون لدعوات وطلبات الفطرة الإجبارية فترى كلَّ إنسان يأكل ويشرب ويتداوى ويلبس دون مجادلة… وأما إذا جاء الدور لطلبات الفطرة التي أعطى الله لهم الحرية والاختيار في القبول أو عدمه، فبعضهم يقبل ويفعل كلُّ ما تمليه عليه فطرته، وبعضهم يفعل جزءا ويترك جزءا. مثلا: يوجد في كل المجتمعات من لا يكذب ولا يشرب الخمر، ولا يظلم أحدا من خلق الله, حتى يوجد فيها من يفعل الحسنات. وبهذا الاعتبار لا يوجد في الكون من لا يعدُّ ملازما لفطرته ولو جزئيا. أو لا يوجد في الكون من لا يعدّ عاملا بالقرآن ولو جزئيا. قال تعالى:

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران، 83)

والتدين الجزئي السابق ذكره لا يكفي لسعادة الإنسان. إذن إقامة الوجه للدِّين وملازمة الفطرة المذكور في الآية شيء آخر، حيث يُقصد به العمل بجميع ما في القرآن بنية التعبد لله، أو ملازمة الفطرة تلازما تاما كما ينبغي بنية الانقياد لحكم الله تعالى. قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة، 208)

والسلم بفتح السين وكسرها وسكون اللام وفتح السين واللام، معناه الإسلام والمسالمة، وهو الكلمة المشتركة بين الفطرة والدين. وتفسير الآية على أن السِّلم هو الإسلام:

«أيها المؤمنون! ادخلوا في الإسلام كله، أي اقبلوا كل أحكامه، وقوموا بها كلها، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بقبول بعضها ورد البعض». وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالاعتصام بالقرآن اعتصاما تاما وبالاستسلام له استسلاما كاملا.

وعلى اعتبار أن السِّلم هو المسالمة: «أيها المؤمنون! ادخلوا في المسالمة كلها، أي كن في سلام مع الله، وفي سلام مع الكون، وفي سلام مع الحيوان. وفي سلام مع الناس، وفي سلام مع أنفسكم. وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالإصغاء إلى دعوات الفطرة كلها، وتلبية مطلباتها جميعها».

ومهما كان معنى “السلم” في الآية لا تتغير النتيجة. لأن من دخل في الإسلام كله فقد دخل في المسالمة كلها، ومن دخل في المسالمة كلها فقد دخل في الإسلام كله.

ولهذا كان الايمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه مرفوضا، وقد نعى الله تعالى على بني إسرائيل هذا الفعل بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة، 85)

 

للمزيد حول الموضوع ننصح بقراءة مقالة الأستاذ أنس عالم أوغلو (دين الله هو فطرته) على الرابط التالي http://www.hablullah.com/?p=2981

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} البقرة 29

[2] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الشورى 52. وهنا قد وصف الله تعالى كتابه بالروح، والقرآن للبشر كالروح للانسان، فبها تميز عن الحيوان، وكذلك البشرية لا ترتقي إلا بالقرآن.

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.