حبل الله
المستند القرآني في مقادير الصدقة

المستند القرآني في مقادير الصدقة

أ.د عبد العزيز بايندر

يقصد بمقدار الصَّدقة ما يجب إخراجه من المال النامي إلى مستحقيه الثمانية كما بيَّنته الآيةُ التالية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة، 9/60)

يتساءل البعض عن مستند مقدار الصدقة إن كان مصدره القرآن الكريم أم أنه اجتهاد النبي صلى الله وسلم. والصحيح أنَّ هناك مستندا قرآنيا لا بدَّ أن نبيَّنا قد انطلق منه في بيانه. وهنا سأكتفي بذكر مثالين، وهما مقدار ما يُخرج في المزروعات والأموال التِّجارية.

أ_ المنتوجات الزراعيَّة

يقول الله تعالى فيما يجب فيها:

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام، 6/141)

الحقُّ المأمورُ بأدائه في هذه الآية المكيِّة هو من المنتج الزراعيِّ ويكون ذلك يوم حصاده. وحتى يتم اعتبار المتصدِّق قد تصدَّق بجميع حصاده كان يكفيه أن يُخرج العُشْرَ منه، لذا شرع الله تعالى المقدار الواجب في الحصاد العُشْر.

إذا لزم عمليِّة الانتاج مصاريف إضافية كالسَّقي والتَّسميد وغيرهما فإنَّ مقدار الصدقة ينقص إلى نصف العشر 1/20 ، وهذا التخفيض في المقدار يأخذ بعين الاعتبار إمكانية الضَّرر الذي سيلحق بالمزارع، كما أن فيه تشجيعا للمزارع لبذل المزيد من الجهود لتحسين انتاجه، ولا شك أن تحسين القدرة على الإنتاج سيضاعف المنتَج، وعليه يكون مقدار نصف العشر مشابها للعشر على فرض عدم بذله مجهودا إضافيا من سقي وغيره. يروى عن نبيِّا أنَّه قال:

“فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ، وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ”[1]

جميع المصاريف التي تُدفع منذ يوم الحصاد كالنَّقل والتَّخزين لا تُلحق بالإنتاج. فبمجرد إعداده للبيع يتحول إلى سلعة تجاريَّة يتحمَّلُ نفقاتها التُّجار.

ب_ النُّقود والأموال التِّجارية

التِّجارة هي مبادلة مالٍ بمالٍ أو مالٍ بنقدٍ بالتقابضِ حالاً أو بتسليمِ أحدِ البدلينِ عاجلاً والآخرَ آجلاً. وفي الرِّبا يوجد مقايضةٌ أيضا، يأخذُ من شخصٍ 10 ليرة على أن يسدَّه بدلا منها 10 ليرة زائد 1 ليرة ، والربويون الذين يعلمون تماما أنهم يستغلون حاجة الناس ويُضيِّقون منافذَ الاقتصاد يستخدمون التَّشابه الشَّكلي بين البيع والربا لتبرير فعلهم، ويقولون:

” الربا كبيع بضاعةٍ ما سعرها 10 ليرات معجلا و 11 ليرة مؤجلا “

والله تعالى يقول:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة، 2/275)

هناك تشابه بين البيع والربا لكن هناك فوراق جوهرية بينهما. كما أنَّ هناك تشابها بين عصير العنب والخمر لكنَّه لا يمكن القول “أنَّ الخمر كعصير العنب” لأن هذا السياق لا يوحي بتشابههما في المادة، بل في الحكم، وهنا مكمن الخطر.

إن بيع غرض بـ 10 ليرات عاجلا وبـ 11 ليرة آجلا ليس من الربا في شيء؛ لأن 11 ليرة كلها بدل الغرض المبيع. ولأنه لا يوجد ميزان دقيق يحدّد سعر البضاعة فلا يُلتفت إلى فوارق السعر بين بيعة وأخرى، بل من الممكن أن يرتفع سعر المبيع في نفس اليوم إلى 12 ليرة وربما ينزل إلى 9 ليرات ، والجانبان ينفذان ما اتفقا عليه بالرغم من إمكانية تغير السعر لأنهما يعلمان أن تبادل الأموال وتداولها يفتح الطريق أمام إنتاج جديد وأفق آخر.

المقرض يعطي 10 ليرة ليأخذ بدلا منها 11 ليرة، فالعشرة مقابل العشرة والليرة الزائدة يأخذها بدون مقابل، وذلك لأن الربا ليس فعالية اقتصادية حقيقية، والمرابي لم يقم بأي جهد يستحقُّ المكافئة عليه. النَّشاطُ “الاقتصادي” يبدأ عند البدء باستخدام القرض، والمرابي لا يهمه مآل ما أقرضه من المال ولا يأبه بأيِّ ضررٍ يلحقُ به. إذا تأخر المقترض بالسَّداد فإنه يزيد بنسبة الربا بذريعة تأخُره بالسَّداد، فهدفُ المقرض زيادةُ النِّسبة الربوية 10%، 20%، 40% وهكذا. يقول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران، 3،130)

وكلمة (أضعافا) الواردة في الآية تفيد _من حيث اللغة_ حال الربا، أي خاصيته. والتعبير بـ “أضعافا مضاعفة” يفيد المضاعفة المزدوجة[2]. الزيادة المتراكمة هي الخاصيَّة التي لا تنفكُّ عن الربا، ولا يُعطى معنى آخر لهذه الآية، لأنَّه مهما كانت نسبة الربا فكلُّ صوره محرمة. يقول الله تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة، 2/278-279)

تنصُّ الآيات بوضوح تام على أنَّ كلَّ زيادة تؤخذ في الدين هي ربا مُحرَّم.

والآية التَّالية أمرت بإنظار المعسر كما أوصت باعتبار الدَّين صدقةً عليه وذلك أفضل من إنظاره:

{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ، وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ، إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة، 280)

الآية التَّالية تُظهر بوضوح الفرق في العاقبة بين المرابي والمزكي:

{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم، 30/39)

قد يكسب المرابي مما أعطى من القرض أضعافا مضاعفة لكن ذلك الكسب ليس مشروعا عند الله تعالى. والمُضْعِفُون هم أولئك الذين يزيدون في نسبة الربا بشكل متراكم. و”ال” التعريف فيها تشير إلى ذلك. المصطلح “أضعافا مضاعفة” الذي مرَّ في الآية 130 من سورة آل عمران يعني مضاعفة الشيء بأربعة أمثاله على الأقل. وعلى هذا يصبح القسم الأخير بهذا المعنى:

“الذين يتضاعف كسبهم إلى أربعة أضعاف هم المؤتون للزكاة”

المزكِّي الذي آثر رضا الله تعالى على الكسب بأربعة أمثال كالمرابي قد كافأه الله تعالى بأن عدّ صدقته بأربعة أمثالها، فلو أنفق ليرة واحد فإنها تُعدُّ عند الله أربعة على الأقل. وبما أن الله تعالى يضاعف الحسنة بعشر أمثالها على الأقل فيكون النتيجة 40 . يعني لو أعطى المزكي ليرة واحدة من مال تجارته فيكون كأنه أعطى 40 ليرة. ولا بد أن يكون مقدار الزكاة الواجب في الأموال التجارية يعتمد على هذا الأصل القرآني. يقول نبينا صلى الله عليه وسلم:

هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ[3]

الدخول في عالم التجارة يحمل في طيَّاته الكثير من المخاطرة، لذا كان مقدار الصدقة في أموالهم منخفضا بالمقارنة مع المقدار في المنتجات الزراعيِّة والحيوانية، كما أنَّ فيه تشجيعا لهم على مواصلة العمل التجاري. في المقابل فإن المنتفعين من الصدقات وهم الجهات الثمانية فإنهم سيعيشون في وسط آمن يجدون فيه من يهتمُّ بحالهم مما ينعكس أثرا إيجابيا على سلامة المجتمع وأمنه. وهو ما يفتح الأفق رحبة أمام العمل التجاري والتطور الحضاري وبالتالي رفع سوية المعيشة لكافة فئات المجتمع بعكس الربا الذي يخلق جوا من عدم الأمان ويفسح الطريق أمام التفاوت الطبقي الذي هو مفتاح كل مفسدة.

للمزيد حول الموضوع ننصح بقراءة مقالة أ.د عبد العزيز بايندر (الصَّدقة والرِّبا في القرآن الكريم) على الرابط التَّالي http://www.hablullah.com/?p=3053

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  صحيح مسلم، الزكاة1، 7- (981)

[2]  والضعف هو من الألفاظ المتضايفة، فمتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد ومثله، فالضعف الشيء ومثله، والضعفان الشيء ومثلاه، والأضعاف الشيء وثلاثة أمثاله على الأقل، لأن أقل الجمع بالعربية ثلاثة. وأضعافا مضاعفة يشير إلى أربعة أمثال على الأقل

[3]  مصنف عبد الرزاق الصنعاني، باب صدقة العين، 7077

 

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.