حبل الله
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه

فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه

تفسير الآيات  180_182 من سورة البقرة

قال الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة، 180_182)

تتضمن هذه الآيات ثلاثة عناصر رئيسية:

الأول: وجوب تنفيذ وصية الله تعالى في الميراث.

الثاني: لا يجوز لأي إنسان أو هيئة تبديل أو تغيير الأنصبة التي بيَّنها الله تعالى في كتابه.

الثالث: بعد تقسيم التركة بحسب ما بيَّن الله تعالى في كتابه يأتي دور الموصي في التوفيق بين الورثة إذا اختلفوا في التوزيع، والإصلاح بين الورثة يعني أن يتنازل البعض للبعض الآخر مما يؤدي إلى تغيير الأنصبة عمليا .

تفسير الآيات

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }

الخطاب موجه لجماعة المسلمين؛ أنه فُرض عليكم إن مات واحد منكم وقد ترك مالا أن تلتزموا وصية الله تعالى في تقسيم الميراث، فالمكتوب (أي المفروض) هو تنفيذ وصية الله تعالى في الميراث.

ومن ينظر في آيات الميراث فإنه يلاحظ استخدام لفظ الوصية كما ورد في الآيتين التاليتين:

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ… فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } (النساء، 11)

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ… وَصِيَّةً مِنَ اللَّه} (النساء، 12)

{الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}

ووصية الله تعالى في الوالدين والأقربين قد بينها القرآن على وجه التحديد كما ورد في الآيتين 11 و 12 من سورة النساء[1] .

وقوله تعالى {بالمعروف} يدل على أن توزيع التركة بحسب الأنصبة المقررة شرعا يتم بالمعروف، والمعروف ما عُرف بالشرع أو الحسِّ حسنُه، وهذا القيد (بالمعروف) جاء ليرفع الحرج عن القسام عند توزيعه التركة على الورثة.

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

والهاء في قوله تعالى (بدله) و (سمعه) و (يبدلونه) كلها تعود على وصية الله التي كُتب على المؤمنين إنفاذها.

وإن أوصى الله تعالى بشيء فلا بد للمؤمنين أن يقولوا سمعنا وأطعنا ، ولا ينبغي لهم تبديل تلك الوصية أو العبث فيها، وإنما يمضونها على الوجه الذي أراد الله تعالى. إن تبديل الأنصبة هو تبديل لحكم الله تعالى، والافتئاتُ على ذلك إثم عظيم لا ينبغي للمؤمن أن يُقدم على فعله.

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

بعد أن يتم التقسيم بحسب ما أوصى الله في كتابه قد يختلف الورثة في توزيع التركة بحسب تلك الأنصبة، وهذا يكون فيما لو ترك الميت مالا من غير النقد؛ كالعقار والحيوان وغيره؛ فإن التقييم فيه يختلف.

فيأتي هنا دور موصل الحقوق (المصلح) الذي وصفه الله تعالى بالـ (موصي). لأن كلمة وصى تأتي بمعنى اتصل، ووصل[2]. نقول: توَاصى الْقَوْم إِذا تواصلوا، وكل شَيْء تواصل فقد توَاصى. يُقَال: توَاصى النبت إِذا اتَّصل تواصيا فَهُوَ نبت واص ومتواص أَي مُتَّصِل[3]. ووصيت الشئ بكذا، إذا وصَلْتَهُ. قال ذو الرمَّة: نصي الليلَ بالأيام حتَّى صَلاتُنا مُقاسَمةٌ يشتقُّ أنْصافَها السَفْرُ[4].

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جنفا أو إثما} الـ (مِنْ) بيانية والمعنى فمن خاف من الموصين جنفا أو إثما.

وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالتواصي بالحق كما ورد في قوله تعالى {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر، 1_3) فالتواصي بالحق من شيم المؤمنين، وفاعل التواصي يسمى الموصِي وهو المشار إليه في قوله تعالى {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} وباعث الشعور بالخوف لدى الموصي هو عدم توزيع التركة طبقا للأنصبة المقررة شرعا عند الإصلاح بين الورثة؛ لأنه يصعب أن يصل إلى مطلق حقيقة الأنصبة التي حددها الله تعالى في كتابه.

والخوف من عدم التوزيع بحسب الأنصبة يأتي على ضربين أوردتهما الآية السابقة بقوله تعالى {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} :

1_ فالخوف من الجنف؛ أي الحيف على أحد الورثة دون قصد، وسببه عدم التقييم الصحيح للتركة ؛ فينتج عنه أن يأخذ واحد أكثر من حقه والآخر أقل منه.

فلو أراد الموصي أن يقسم البيت بين الوريثين مناصفة، فإنه قد يكون من المستحيل ذلك؛ لأن الجهة التي يدخلها الهواء وضوء الشمس تكون أكثر قيمة من الأخرى ومن هنا يصعب الوصول إلى حقيقة النصف.

2_ أما الخوف من الإثم؛ فهو أن يضطر الموصي أن يقنع أحد الورثة بالتنازل عن بعض حقه للوريث الآخر حتى يُمضي المسألة وينتهي الأمر. وقد يحصل هذا بين الأخوة عندما يكون أحدهم غنيا والآخر فقيرا، فيأتي الموصي ليزيد في حصة الفقير على حساب حصة أخيه الغني، ويستمر في إقناع الغنيّ ويحنِّنُه على أخيه حتى يقبل بالقسمة، فإن رضي الغنيّ مضت. والمهم أن يقبل الطرفان بالنتيجة ويتم الصلح تبعا لذلك.

ولا شك أن في نتيجة الصلح تغييرا للأنصبة المحددة نصا، لذا جاء في نهاية الآية نفي الاثم عن الموصي إن فعل ذلك، سواء أخطأ في التقييم أو تعمد الزيادة لأحد الورثة بشرط أن يقبلها بقية الورثة؛ لأن القصد لم يكن تغيير الأنصبة التي نصّ الله تعالى عليها في كتابه بل ما اقتضته ضرورة الإصلاح بين الورثة.

وقف السليمانية/ مركز بحوث الدين والفطرة

الموقع: حبل الله www.hablullah.com

جمال نجم


[1]  قال الله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (النساء، 11_12)

[2]  القاموس المحيط فصل الواو 1/1343

[3]  جمهرة اللغة، 1/241

[4]  الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، مادة وصى، 6/2525

التعليقات

  • هذه اﻵيات أنزلت قبل نزول اﻵيات التى تورث الوالدين. فلم يكن للوالدين إرث فى ذلك الوقت. و الوصيه من الله.شئ. و موص شئ آخر.مع كل تقديرى ﻹجتهاد حضرتك و من تبعته فى هذا التأويل.

  • السلام عليكم
    ما المقصود بقوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) أقصد ما الفرق بين الوصية والدين؟ وقد فهمت من مقال سابق أن الوصية هي في الدين المذكور في نهاية سورة البقرة، أرجو إزالة الإشكال عندي، وجزاكم الله خيرا.

    • وعليكم السلام ورحمة الله
      الدين هو الموثق الذي لا يخشى معه ضياع حق الدائن عند موت المدين
      أما إن كان الدين غير موثق فيلزم المدين أن يوصي ورثته بسداده للدائن من تركته، لأنه إن لم يوص فإنه سيضيع حق الدائن لعدم وجود البينة معه.
      لذلك تذكر الوصية متلازمة مع الدين في كتاب الله تعالى.

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.