حبل الله
كيف نوفق بين رحمة الإسلام وبين دعوته إلى الإثخان في الأرض

كيف نوفق بين رحمة الإسلام وبين دعوته إلى الإثخان في الأرض

السؤال: هل عاتب الله تبارك وتعالى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه تعجل واتخذ أسرى قبل أن يثخن في الأرض كما ورد في الآية الكريمة؟ فإذا كان الأمر كذلك فأين وجه الرحمة الذي يفهمه من يتلو الآية . سؤالي رغبة في الرد على من يسألني من طالباتي وجزاكم الله خيرا.

الجواب: عاتب الله تعالى نبيه لاتخاذه الأسرى قبل أن يثخن في الأرض، وهذا واضح من خلال قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال، 67) والمقصود بالإثخان في الأرض إنهاك العدو في أرض المعركة بحيث يفقد القدرة على الصمود فيها.

أما كيف نوفق بين الدعوة إلى الإثخان في الأرض وبين الرحمة التي دعا إليها الاسلام، فلا بد من التقرير أولا أن دعوة الإسلام إلى الرحمة هي دعوة عامة لا تنحصر في وقت أو ظرف معين، أما الإثخان في الأرض فلا يكون إلا في المعركة المشروعة التي يخوضها المسلمون دفاعا عن أنفسهم.

إن لقاء العدو له ما يبرره ، وتبرير لقائه وجواز قتاله قد بينته الآية 190 من سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة، 190)

وبحسب الآية فإنه لا يجوز للمسلم أن يبدأ بالقتال دون سبب، لأنه اعتداء، والله لا يحب المعتدين. أما تشريع القتال في الإسلام فكان لضرورة دفع العدو حال اعتدائه أو دفعه وهو في طور الاعداد للاعتداء، ويسمى هذا النوع من الحرب في الاصطلاح الحديث بالهجوم الدفاعي.

وبناء على ذلك نفهم الآية 4 من سورة محمد بأن لقاء المسلمين بالعدو يكون في حالة خروج المسلمين لدفع عدوان الكافرين. وإذا كان لا مندوحة عن اللقاء والاقتتال فتلك هي الحرب، ولا يتم تبادل التحايا والهدايا فيها وانما القتل المتبادل. حيث قال الله تعالى {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد، 4)

ومع ذلك فإن رحمة الإسلام تتجلى في الحرب أيضا، ومن صور ذلك:

1_ عدم جواز الأسر قبل إثخان العدو، لأن اتخاذ الأسرى قبل الأوان مدعاة لتبديد قوة المسلمين حيث سيتم التركيز على تأمين الأسرى في الوقت الذي يحتاج فيه المسلمون إلى القوة الضاربة، وهذا يضعف أداء الجيش مما يؤدي إلى الهزيمة.

2_ ويستمر التشريع الرحيم بتقريره الأسر بعد إثخان العدو، لأن عدم الأسر بعد تقهقره يعني واحدا من احتمالين:

الأول: ترك فلول العدو وشأنها، وهذا يؤدي أن يستجمع العدو قواه ويواصل الحرب من جديد فتزهق أرواح جديدة.

الثاني: الاستمرار في القتال حال تقهقر العدو، وهذا يعني استئصاله عن بكرة أبيه، وليس هذا مقصود الإسلام قطعا، بل المقصود كف أذاه وإقامة الحجة عليه بعد ذلك.

3_ ويظهر من خلال الآية السابقة الحرص على إنهاء الحرب بأقصى سرعة ممكنة، حتى لا تطول فتُهلِكَ الحرث والنسل، وقد ظهر هذا الحرص في تشريعين مهمين حوتهما الآية:

الأول: قوله تعالى {فضرب الرقاب} يدل على ضرورة الضرب بقوة لافقاد العدو القدرة على مواصلة الحرب، وذلك بدلالة الفاء التي تفيد السرعة في تنفيذ الفعل. أما ذكر الرقاب فيفيد الجدية وعدم التهاون في أمر العدو، ولا شك أن مبادرة العدو بالهجوم الصاعق والضرب دون هوادة يؤدي إلى تقهقره ومن ثم إنهاء الحرب في أقل مدة ممكنة.

الثاني: قوله تعالى {فشدو الوثاق} أيضا يدل على السرعة في القبض على أكبر عدد من محاربي العدو بعد تقهقرهم؛ حتى لا يتمكن العدو من تجميع صفوفه مرة أخرى فيطول أمد الحرب. ولا شك أن اتخاذ الأسرى يهدف إلى تعجيل إنهاء الحرب، وعدم التهاون مع الأسباب التي تؤدي إلى دوامها.

4_ وخلال بقاء الأسير في قبضة المسلمين لا بد أن يلقى معاملة خاصة تليق بإنسانيته أولا، كما تليق بآسره المسلم صاحب الرسالة العظيمة ثانيا. وقد أورد القرآن الكريم تعبيرا غاية في الحض على اللطف بالأسير وحسن التعامل معه والبذل في سبيله، في سياق وصفه سبحانه للأبرار من عباده بقوله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان، 8_9)

وقد ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي التطبيق العملي لما دعا إليه القرآن الكريم، أمثلةٌ كثيرة على حسن تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى .

ملاحظة: يمكنك الاطلاع على مقالة (معاملة الأسير في الاسلام) على هذا الرابط ففيها مزيد من التوضيح:

http://www.hablullah.com/?p=2320

التعليقات

  • اهلا وسهلا بحضرتك سيد جمال ما صحة هذا الحديث وهل معناه انه يجوز قتل الأسير نقرا من سنن ابي داود رحمه الله اول كتاب الجهاد باب في قَتْل الأسيرِ صبراً
    2686 – حدَّثنا علي بن الحسين الرَّقِّيُّ، حدثني عبد الله بن جعفر الرَّقِّيُّ، أخبرني عُبيد الله بن عَمرٍو، عن زَيد بن أبي أُنيسةَ، عن عمرو بن مُرَّة، عن إبراهيمَ، قال: أراد الضَّحَّاكُ بن قيسِ أن يستعمِل مَسروقاً، فقال له عُمارةُ بن عُقبة: أتستعمِلُ رجلاً من بقايا قَتَلَةِ عثمانَ؟ فقال له مسروقٌ: حدَّثنا: عبدُ الله بن مَسعودٍ – وكان في أنفُسِنا مَوثُوقَ الحديثِ-: أن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- لمَّا أراد قتل أبيك قال: مَنْ للصِّبيةِ؟ قال “النارُ” فقد رضيتُ لكَ ما رضي لكَ رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم- (3).

    قال الشيخ شعيب الارنؤوط رحمه الله في تخريجه لسنن ابي داود رحمه الله :
    (( 3)
    إسناده صحيح. وهل حقا الرسول أمر بقتل النضر بن الحارث وعقبة بن معيط وهما في الأسر ارجو الرد وشكرا جزيلا لحضرتك

    • يقال أن الوارد ذكرهم كانوا قد قتلوا أناسا من المسلمين في غير حرب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم قصاصا، فإن كان كذلك فالرواية صحيحة موافقة للحق في كتاب الله تعالى حيث شرع القصاص من القاتل عمدا، أما إن لم يكن هؤلاء قتلة بالفعل فيستحيل أن يصدر النبي بحقهم أمرا بالقتل، لأنه اعتداء حاش لنبينا أن يفعله.

      • اهلا بحضرتك دكتور جمال قرأت تفسير الاية الكريمة (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) أنه يجب ان نقتل وننكل بالعدو ونبيدهم فى الحرب حتى لو استسلم من أجل ان يكون عبرة لغيرة أليس الإسلام دعا للحرب فقط من أجل كف اذى العدو وليس من أجل ابادتهم ارجو الرد دكتور جمال وشكرا جزيلا لحضرتك

        • أهلا بك وتقبل الله منا ومنكم

          الجواب:

          هناك قاعدة تقول بأن الضعف يغري الخصم، من هذا المنطلق يوصي الله تعالى المؤمنين الذين يتعرضون للحرب أن يظهروا الحزم الكامل تجاه العدو حتى لا يطمع بهم أعداء أخرون، فإن انتهاء الحرب لصالح المسلمين سيمنع غيرهم من التفكير بحربهم.

          فالهدف من الحرب هو رد العدوان وتحقيق السلم، ولو كان الأمر هو القضاء على الكفار لما شرع الإسلام الأسر الذي يهدف إلى تحييد خطر المحارب المستسلم دون قتله [محمد: 4] ، ولما شرع جواز قبول مقترح السلم إن صدر من الأعداء [الأنفال: 61] .

          الممنوع هو أن يدعو المسلمون إلى السلم أثناء الحرب لأن هذا مؤشر ضعف [محمد:٣٥ ]، بخلاف الظروف العادية فإن المسلمين دعاة سلام لا دعاة حرب.
          أما قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣٥ ]

          فهذه الآية تبين أن المسلمين هم الأعلون دائما، لأن الله تعالى معهم ولن يتركهم، فلا داعي لإظهار الضعف أمام العدو وطلب السلم أثناء الحرب.

          إذا دخل المسلمون في الحرب فلا يصح لهم التراجع عنها إلا لضرورة حربية، كإعادة ترتيب الصفوف أو الانضمام إلى فرقة أخرى، وفي ذلك يقول تعالى:

          ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا ‌لِقِتَالٍ ‌أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 15-16]

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.