حبل الله
مفهوم المزارعة وحكمها

مفهوم المزارعة وحكمها

السؤال: بعض الناس لديهم أراض زراعية وليس لديهم الوقت لزراعتها، فيعطون هذه الأرض للمزارعين ليزرعونها على أن يقتسموا الناتج فيما بينهم الثلث أو النصف حسب الاتفاق، فما هو الحكم الشرعي في مثل هذه المعاملة؟

  الجواب: تسمى هذه المعاملة في لغة الفقهاء بالمزارعة وهي عقد على الزرع ببعض الناتج منه. والمزارعة محل خلافٍ بين الفقهاء والراجح جوازها على أن يكون الخارج من الأرض مشتركا بينهما بنسبة شائعة، للعامل الربع أو الثلث أو النصف مثلا، والباقي لصاحب الأرض، سواء كانت البذور والسماد والحرث والسقي وسائر العمل من العامل، أم بعضه من العامل وبعضه من صاحب الأرض؛ لأنها نوع من البيوع وقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (البقرة، 275) كما أنها عقد تم برضا الطرفين، حيث يخلو من الموانع الشرعية لانعقاده، وما فيه من الغرر اليسير فمعفو عنه، ومثل هذا العقد أُمرنا بالوفاء به بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة، 1).
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي الحكمة المستقاة من الكتاب ما يدل على الجواز فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع)[1]
وقد روى البخاري في صحيحه باب المزراعة بشطر ونحوه عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فله كذا)[2].
وليس من الصدفة اجتماع هذا العدد من الصحابة والتابعين على العمل بالمزارعة وهو مما يوحي بمشروعيته. وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن هذه المعلقات التي رواها الإمام البخاري بصيغة الجزم وصلها غيره من أهل الحديث.
وقد أشكل على الناس ورود بعض الروايات الصحيحة بتحريم المزارعة، ومن ينظر إليها مجتمعة والحال التي ذكرت فيه يجد أن المحرم في المزارعة انعقادها ضمن شروط باطلة كتحديد حصة محددة بالكيل أو الوزن وليس بنسبة مئوية شائعة كالثلث والربع مثلا. أو انعقادها بتحديد الحصة من مكان معين في الأرض دون غيره فيقول صاحب الأرض أنا آخذ ناتج القسم القريب من النهر أو غير ذلك.
ولا بد من الإشارة إلى بعض تلك الروايات التي تشير إلى التحريم ومناقشها:
 1_ عن رافع بن خديج (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)[3] .
إن النهي الوارد في الحديث إنما هو في نوع من المزارعة الفاسدة كان سائدا في ذلك الوقت حيث يشترط صاحب الأرض لنفسه نتاج بقعة معينة من الأرض أو نوع معين من الناتج، ويؤيد هذا التخصيص للفظ الحديث أن رافعاً قد روى ما يفسر طبيعة النهي، فعن حنظلة بن قيس الأنصاري، سمع رافع بن خديج، قال: (كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض، قال: فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا، وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ)[4].
وقد أنكر عدد من الصحابة رضي الله عنهم على رافع روايته. فلما علم زيد بن ثابت بحديث رافع قال (يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتى رجلان قد اقتتلا فقال عليه الصلاة والسلام إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع رافع قوله لا تكروا المزارع)[5].
وعن نافع، (أن ابن عمر، كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدرا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية، أن رافع بن خديج، يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، وأنا معه، فسأله، فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع»، فتركها ابن عمر بعد، وكان إذا سئل عنها بعد قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها)[6].
ومن يدقق في كلام ابن عمر رضي الله عنهما يرى عدم ثقته برواية رافع، وإنما التزم بها تورعا وأخذا بالأحوط ولا يفهم من قوله الاعتداد بها.
وقد روي عن ابن عباس قَالَ: (لَمْ يُحَرِّمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُزَارَعَةَ، وَلَكِنْ أَمَرَ النَّاسَ أن يرفق بعضهم بعضا)[7]
وقد روي عن رافع روايات تخالف الرواية الأولى فعن حنظلة بن قيس الأنصاري، قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: (لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول[8]، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به)[9].
وعن حنظلة بن قيس، عن رافع بن خديج، قال: حدثني عماي، (أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض «فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك»، فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: «ليس بها بأس بالدينار والدرهم)، وقال الليث: «وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام، لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة»[10]
يقول ابن تيمية رحمه الله: فهذا رافع بن خديج -الذي عليه مدار الحديث – يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكانٍ معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب[11].
ويقول ابن القيم رحمه الله: من تأمل حديث رافع وجمع طرقه واعتبر بعضها ببعض وحمل مجملها على مفسرها ومطلقها على مقيدها على أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة… وما فيها (أي الروايات) من مجمل أو مطلق أو مختصر فيحمل على هذا المفسر المبين المتفق عليه لفظا وحكما.
وينقل ابن القيم عن ابن المنذر قوله: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل فلا تعارض إذن بين حديث رافع وأحاديث الجواز بوجه[12].
2_ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه ولا يكرها»[13] هذا الحديث احتج به البعض على عدم جواز المزارعة، ويذكر النووي أنه ينبغي حمل النهي في هذا الحديث على كراهة التنزيه والإرشاد للجمع بين الأحاديث[14] . والصحيح ليس في الحديث إلا النهي عن إكراء الأرض بنصيب مقطوع من ناتج الأرض، كأن يقول له أجرتك أرضي بثلاثة أطنان مما ستنتجه الأرض، وهذا باطل بلا خلاف، ولو أكراه إياها بحصة شائعة كالثلث والربع مما ستنتج الأرض لكان جائزا ولا يقع الظلم في مثل هذا العقد.
والمنطق الشرعي يقتضي إباحة المزارعة لما تعود به من الخير على صاحب الأرض والمزارع على حد سواء، وأما القول بإعارة الأرض دون مقابل فهو فضيلة غير ملزمة شرعا، وأما تركها دون زراعة فإهدار للأرض وتفويت لفرصة الانتفاع لفريقين من الناس؛ المالكين والمزارعين. وبهذا نتبين مشروعية المزارعة وأنه لا غبار عليها ولا تثريب على من عمد إليها.

 


[1]  أخرجه أحمد 2 / 17، 22، 37، والبخاري 3 / 55، 68، ومسلم برقم (1551) ، وأبو داود برقم (3408) ، والترمذي برقم (1383) ، وابن ماجه برقم (2467)
[2]  فتح الباري 5/ 407 – 408
[3]  رواه البخاري، باب إذا استأجر أرضا فمات، 2286.
[4]  صحيح البخاري، باب قطع الشجر والنخل،2327. وأخرجه مسلم في البيوع باب كراء الأرض بالطعام رقم 1548 . (مزدرعا) مكانا للزرع. (بالناحية منها) بما يخرج في جزء منها. (مسمى) معين. (لسيد الأرض) مالكها. (يصاب ذلك) أي الجزء المعين لمالك الأرض قد يصاب بآفة تتلف غلته. (الورق) الفضة
[5]  رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الزيعلي حديثٌ حسن. نصب الراية 4/ 181.
[6]  صحيح مسلم، باب كراء الأرض،109 – (1547)
[7]  صحيح ابن حبان، وأخرجه مسلم “1550” “121” في البيوع: باب الأرض تمنح عن علي بن حجر، بهذا الإسناد. وأخرجه بنحوه أحمد 1/234 و281 و349، ومسلم “1550” “120” و”121″، وعبد الرزاق “14466”، والبخاري “2330” في الحرث والمزارعة: باب رقم “10”، و”2342″ باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسى بعضهم بعضا والثمر، “2634” في الهبة: باب فضل المنحية، وأبو داود “3389”
[8]  الماذيانات: ما ينبت من الزرع على مسايل المياه. (وأقبال الجداول) الأقبال أي أوائلها ورؤوسها والجداول هو جمع جدول وهو النهر الصغير كالساقية.
[9]  صحيح مسلم، باب كراء الأرض بالذهب، 116 – (1547)
[10]  صحيح البخاري، باب كراء الأرض بالذهب والفضة، 2346
[11]  الفتاوى 29/ 107.
[12]  عون المعبود وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود 9/ 185 – 186).
[13]  أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة، برقم (2341)، ومسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض، برقم (1536).
[14]  شرح النووي على صحيح مسلم، باب كراء الارض، 10_199

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.