حبل الله
تقليد الآباء أم القطع معهم

تقليد الآباء أم القطع معهم

الأستاذ جودت سعيد

ردا على سؤالٍ؛ ألا يجب علينا اتباع آبائنا وأسلافنا لأنهم على الحق المبين؟ رد فضيلة الأستاذ جودت سعيد قائلا:

إن السؤال الجيد سيبقى مفتاحاً للجواب الجيد. سواء استطعت أن أقدم جواباً جيداً أم لم أتمكن فسيبقى سؤالك يتحدى الأخطاء. وأنا لا أشك أن الأسئلة ستصير مصقولة ومحددة وملحة، وكذلك الأجوبة حتى يتخلص الناس من الألم والقلق، الألم الجسدي والقلق النفسي. ويمكن أن أقول أنني في غضون أجوبتي السابقة قد تناولت هذا الموضوع. ولكن لأهمية هذا الأمر وأثره في الإعاقة أو الدفع إلى الأمام، ينبغي أن يعاد القول فيه ويكرر. لقد بحث الباحثون هذا الموضوع ولكن لم يستنفذوه ولن يستنفذوه.

نحن لا ندعو للقطيعة مع التراث، حتى تراث ما قبل التاريخ، وتراث ما قبل الكتابة. إن الذين تمكنوا من استئناس الحيوان واستطاعوا أن يستنبطوا من مشاهداتهم زراعة بذور الأشجار والزروع لا يمكن أن ننقطع عنهم ونرجع إلى ما قبل الزراعة وما قبل استئناس الحيوان. فهذا عهد تجاوزناه ولن يعود الناس إليه. لقد حصلت القطيعة عن عهد ما قبل الزراعة ولن نرجع إليه ولن نتخلى عن الزراعة، ولكن مع ذلك يمكن أن يتطلع الناس في أن يتمكنوا من أن يقلدوا الأشجار وقوانينها وسننها فنصير نحن نرّكب ما تركبه الأشجار من ثمار وأغذية، فنتمكن من صناعتها بنفس القوانين ونصل إلى تصنيع الأغذية صناعياً وبوفرة لا نهائية وبكلفة قليلة على حسب قانون “ويخلق ما لا تعلمون”. فكما تجاوز الناس عهد الخيل والبغال والحمير كوسائل انتقال وحمل أثقال إلى شيء لم يخطر على بال الذين من قبلنا، كذلك يمكن أن يصل الذين من بعدنا إلى أشياء لا يمكن أن تخطر على بالنا لأن “ويخلق ما لا تعلمون” لا يمكن إغلاقها وإقفالها. إنها مفتوحة وعطاء الله ليس له من نفاد. و”لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلما ت ربي“.

إن الوقوف عند ما كان عليه الآباء في كثير من الأمور صار انتحارًا الآن. إن انتقال السلطة بالقتل والغدر، وفرح الناس بذلك، كان مقبولاً فيما سبق من الزمان حين كان الناس يفهمون الله وسننه على مستوى معين. إن الناس عندنا يفهمون أن الله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وبيده كل شيء. ولكن الله أوصل البشر بسننه أقواماً هم أنفسهم يؤتون الملك من يشاءون وينزعون الملك ممن يشاءون. علينا أن نفهم حجم الآباء. إن آباءنا لم تكن لديهم قدرة على تفهم هذا الموضوع، فارتدوا إلى القتل والغدر ونبذ الأمانة والصدق ودخلوا باب الغدر والخيانة والسفك والسحل. أنا لم أجبك على هذا السؤال وإن أدواتي الفكرية قليلة وبياني ناقص ولا يزال يتصف بالغموض ولا يحصحص الحق ولم يأت بالبيان والبينات والمبين. وسيأتي ويتكون الآن في كل مكان من سيقومون بهذا البيان الذي سيخرج الناس من الظلمات إلى النور.

إن قانون نظام الله في الوجود: أن الزبد سيذهب جفاءً وأن ما ينفع الناس (جميع الناس) سيمكث في الأرض مهما طال الزمن وتأخر الفهم والإدراك. “وأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.” وقانون الله هو أن نتقبل من الآباء سواء المحليين أو الأبعدين أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وأن نعتقد أن التاريخ وخلق الله لم يتوقفا عند آبائنا ولا آباء غيرنا. كلهم، كل الآباء يوماً ما كانوا يعيشون في الكهوف عراة، ويموتون افتراساً من الوحوش. ونحن نقرأ في القرآن قول يعقوب لأبنائه عن يوسف، أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. كان هذا شائعاً في تلك الأيام التي ليست موغلة في القدم.

لا بد من أن نصحح موقفنا من الآباء. والله يقول أن تقليد الآباء عقبة. إن الحب يعمي ويصم كما ورد في الحديث. والقرد في عين أمه غزال كما في الأمثال الشعبية، وكل فتاة بأبيها معجبة، إلى أن يبلغ الإعجاب إلى سد منافذ الفهم والإحساس ويصل إلى الإغلاق التام حتى “ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون”. ولهذا ورد في بعض المأثور عن الرسول (ص): وكيف تعدل مع القريب. فمن هنا كانت شهادة الأقارب لبعض أو على بعض مرفوضة، التعصب للأب والعشيرة والقوم والدين واللون. ولهذا كان من الصعوبة رؤية الحق أو الباطل المتعلق بالآباء، وكان مرجع المعترضين جميعاً على الأنبياء هو الاحتجاج بالآباء. ومع أن القرآن يدين الذين يقلدون آباءهم فإن المسلمين يستثنون أنفسهم من فكرة الآبائية كأنهم ليسوا بشراً من البشر وكأن آباء الآخرين هم المدانون فقط، وكأن المجتمعات التي تقلد آباءها هي المخطئة فقط.

عندها تلوى الأعناق وتزيغ الأبصار ويشتبه الحق بالباطل. لهذا الأمر من الله بأن نكون قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسنا والأقربين أمر ثابت وصارم. وعلينا أن نخضع آباءنا لقانون التاريخ الذي لا يرحم الزبد. وخير للناس والأبناء والأحفاد أن يذهب الزبد جفاءً وخير للجميع أن يمكث في الأرض ما ينفعهم.

ولقد عشت وعاش كثيرون ولا يزال يؤثر فينا بأشكال مختلفة ما ألفنا عليه الآباء. وإن كان الزمن يخفف من غلواء تعظيم الآباء إلا أن المسلمين عظموا سلفهم بشكل فلكي في السعة والضخامة حتى بعد أن تبين عجزهم عن الاهتداء إلى حلول أفضل. إننا نعظم أسلافنا مع أنهم هم الذين تقاتلوا وخذلوا الحق وانتصروا الباطل وأعادوا سنة الجاهلية. وإلى يومنا هذا لا نجد مخرجاً من السلبيات والعجز عن الفهم الذي تركوه لنا بينما تجاوزنا الذين نعدهم كفاراً واستطاعوا أن يبدعوا أساليب لحل المشكلات.

إن الاتحاد الأوربي السلمي العلمي السوائي الذي يصنعونه بكل العناية أفضل وأقرب إلى الله ورسوله وعقلاء الناس مما نحن فيه من الفرقة والعداء والصراع الذي سد منافذ الفهم أمامنا ولا نجد لها فرجاً أو مخرجاً. ولكن العذابات الأليمة التي أذقنا بعضنا لبعض خفف من غلوائنا وبدأنا نكون موقفاً أقل عماءً وصماً. وبدأنا نفتح أفواهنا بالقول كما فعل محمد إقبال من أن بيئتنا ليست واجبة الحرمة في كل شيء. لقد تخلص العالم من آبائهم ما عدا المسلمين الذين لا يزالون يتحدون العالم والتاريخ من أن الله لم يخلق مثلهم وأنه لن يخلق مثلهم.

فكيف سيقرأ الذين من بعدنا بحوثنا هذه وكيف سيحكمون علينا. إن حكم التاريخ أليم شديد. “وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد”. ونسأل الله العلي القدير أن يعلمنا الاعتبار، فنغير مواقفنا. يكفي ما ذقنا من العذابات حتى نتعلم الاعتبار من التاريخ.

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.