حبل الله
ج.       الخلاصة

ج. الخلاصة

ج.       الخُلاصة :

ما صَلُحَ للاستدلال على الثيوقراطيَّة من التَّوراة وَرَدَ على لسان سُليمان عليه السَّلام، وبحسب التَّوراة الموجودة الآن فإنَّ سُليمان عليه السَّلام مَلِكٌ وليس رسولاً، ولكنَّ القُرآنَ الكريم يُخبرُنا أنَّ سُليمانَ عليه السَّلام كان نبيَّاً ورسولاً. والكلامُ المنسوبُ في التَّوراة إلى سُليمان عليه السَّلام هو كالتالي: “يَا ابْنِي، اخْشَ الرَّبَّ وَالْمَلِكَ. لاَ تُخَالِطِ الْمُتَقَلِّبِينَ”.[1]  ومن المُمكن أنَّ المُرادَ من خشية الملك هو الحذر منه بعد أن يتسلَّحَ المؤمنُ بتقوى الله تعالى في مُكافحة ظُلم الملك الطَّاغي. وقد وَرَدَ في القُرآن ما يشبهُ ذلك، حيث أمَرَ اللهُ تعالى المؤمنين أن يستعينوا على كيد العدوِّ بالصَّبر والتَّقوى. فقال: «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (آل عمران، 3 / 120). وكذلك قوله “لاَ تُخَالِطِ الْمُتَقَلِّبِينَ” يُرادُ به عدمُ مخالطة المفسدين.

أمَّا النُّصوصُ الواردةُ في الإنجيل، تحديداً في رسائل بولس وبطرس، فلا يعتبرها القرآنُ الكريمُ إنجيلاً؛ لأنَّ الإنجيل بحسب القرآن الكريم كتابُ الله تعالى الذي أُنزِلَ على رسوله عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام.[2] وهما أي بولس وبطرس مسيحيَّان اثنان من ضمن مسيحييِّن كُثُر، إلَّا أنَّ بطرسَ هو أحدُ الحوارييِّن، وبولس ليس منهم حسب تعريف القرآن الكريم إيَّاهم، ولكنَّ المسيحييِّن يعتبرونَ الرَّجلين كليهما من الحوارييِّن.

والحواريُّون في القرآن الكريم همُ الذين اتَّبعوا عيسى عليه السَّلام، فهم مثلُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

إنَّ التَّوراةَ والإنجيلَ كلامُ اللهِ تعالى الذي أُنزِلَ على أنبياء بني إسرائيل، كما أنَّ القرآنَ الكريم هو كتابُ الله المُنزَّل على رسولِنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الكتابُ الذي لم يعتره تبديلٌ ولا تحريفٌ، فقد تكفَّلَ اللهُ تعالى بحفظه إلى يوم القيامة. قال اللهُ تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر، 15 / 9).

ولكنَّ التوراة والأناجيل الموجودة اليوم اعتراها كثيرٌ من كلام النَّاس، والدَّليلُ على ذلك رسائلُ بولس وبطرس التي يُطلقُ عليها المسيحيُّون اسمَ الإنجيل.

أمَّا القُرآنُ الكريم فلمْ يدخلْ فيه شيءٌ من كلام النَّاس كما أسلفنا، وأقوالُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قد دُوِّنتْ في كتب الحديث.

الحواريُّ هو مثلُ الصَّحابي كعليٍّ وأبي بكر رضي اللهُ عنهما، وأقوالُهم يُطلقُ عليها أقوالُ الصَّحابة، وأقوالُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليست في مرتبة القرآن، وكذلك أقوالُ الصَّحابة ليست بمرتبة أقوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فإنَّ رسائلَ بولس وبطرس ليست جزءاً من الإنجيل، وهي كلامُ النَّاس، وقد وَرَدَ فيهما أنَّ المسيحَ قامَ بعدَ ثلاثة أيَّامٍ من دفنه بعد أن صُلِبَ، ولَقِيَ حواريه الأحدَ عشر. والنصُّ كالتَّالي:” وأمَّا الأحدُ عشرَ تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل، حيثُ أمَرَهم يسوع، ولمَّا رأوه سجدوا له، ولكنَّ بعضَهم قد شكى. فتقدَّمَ يسوعُ وكلَّمَهم قائلاً: دُفِعَ إليَّ كلُّ سُلطانٍ في السَّماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمِذوا جميعَ الأمم وعمِّدوهم باسم الأب والإبن والرُّوح القُدُس، وعلِّموهم أنْ يحفظوا جميعَ ما أوصيتُكم به.

وها أنا معكم كلَّ الأيام إلى انقضاء الدَّهر”.[3] وهو ممَّا أدَّى إلى هيمنة الكنيسة على الدَّولة، حين كانت الكنيسةُ قويَّةً. وجاءَ في نفس الإنجيل: «كما أنَّ ابنَ الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم، وليبذُلَ نفسَه فديةً عن كثيرين».[4] وهذا يتناقضُ مع التَّعبير السَّابق.

يُخبرُنا القرآنُ الكريمُ أنَّ بموت عيسى عليه السَّلام انقطعت علاقتُه بالحياة الدُّنيا فلا يعرفُ ما جرى فيها من الأحداث. قال اللهُ تعالى: «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؛ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (المائدة، 5 / 116- 117).

وأقوالُ عيسى عليه السَّلام ليستْ إنجيلاً، كما أنَّ أقوالَ رسولنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ليستْ قُرآناً، سيَّما ما يُنسبُ إلى عيسى من أقوالٍ قالها بعد موته، فهي ليستْ من كلامه أصلاً، فضلاً عن أن تكونَ إنجيلاً !

نفهمُ ممَّا سَبَقَ أنَّ الثّيوقراطيَّة قد أُسِّسَتْ على تلك الأقوال المزعومة ويظهر أنَّ الإنجيلَ الحقيقيَّ يرفضُ النِّظامَ الثيوقراطيَّ قطعيَّاً.

وقد أصبَحَ المذهبُ الشِّيعيُّ الإماميُّ يدافعُ عمَّا يُشبه النِّظام الثيوقراطيَّ استناداً لما رُوِيَ عن كبار عُلمائِهم، تماماً كما أُسِّسَ النِّظامُ الثيوقراطيُّ في المسيحيَّة استناداً على رسائل بولس وبطرس.

صحيحٌ أنَّ الشِّيعةَ لم يقولوا أنَّ أقوالَ أئمَّتهم ومجتهديهم هي كلامُ الله، ولكنَّ أكثرَهم يعتبرونها مثلَ كلام الله تعالى من حيثُ وجوب الأخذ بها، كما يظهرُ في العبارات التَّالية: “المُجتهدُ الذي توفَّرتْ فيه شروطُ الاجتهاد هو نائبُ الإمام عليه السَّلام في فترة الغيبة (أي غياب الإمام)؛ وهو حاكمٌ ورئيسٌ على الإطلاق، يملكُ صلاحيَّة الإمام في القضاء والحُكم بين الناس. ورفضُ حُكمه هو رفضُ حكم الإمام. ورفضُ حكم الإمام هو رفضُ حُكم الله تعالى. وهو شركٌ بالله” على ما رُوِيَ عن صادقي آل محمد.[5] والمقصودُ بصادقي آل محمد، هم الرِّجالُ الصَّادقون من نَسَب محمد صلى الله عليه وسلم من جهة ابنته فاطمة رضي الله عنها (أي الأئمَّة)، وأقوالُ الأئمَّة عند الشِّيعة كأقوال بولس وبطرس في المسيحيَّة. لكنَّنا لا نعتبرُ مثلَ هذا الكلام دليلاً حتَّى ولو كان قائلُه هو الحسن أو الحسين رضيَ الله عنهما، ولا يُعطي أهلُ السُّنَّة لأحدٍ من المُجتهدين القدسيَّةَ ولا يعتبرُ كلامَ أحدٍ منهم واجبَ الاتباع.

يقولُ معنُ بنُ عيسى القزاز: سمعتُ مالكاُ يقول: “إنَّما أنا بشرٌ أُخطِئُ وأُصيب، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافَقَ الكتابَ والسُّنَّة فخذوا به، وما لم يوافقِ الكتابَ والسُّنَّةَ فاتركوه”. رضِيَ اللهُ عن أئمَّة الإسلام، وجزاهم عن نصيحتهم خيراً، ولقد امتثلَ وصيَّتَهم تلك وسلَكَ سبيلَهم أهلُ العلم والدِّين من أتباعهم.[6]

وكان مالكُ يُكثرُ من تكرار الآية الكريمة: «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» (الجاثية، 45 / 32).[7]

وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنَّه قال: عِلمُنا هذا رأيٌ، وهو أحسنُ ما قَدَرنا عليه، ومَنْ جاءَنَا بأحسنَ منه قبلناه منه.[8]

 



[1]سفر الأمثال، 24 / 22.

[2] قال اللهُ تعالى: «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (المائدة، 5 / 46).

[3]متى، الأصحاح الثامن والعشرون، 16-20.

[4]متى، الأصحاح العشرون، 28.

[5]اعتقاد الشِّيعة، ص. 24

[6]إعلام الموقَّعين، لابن القيم، بيروت، 1987 / 1407 ص. 75

[7]إعلامُ الموقِّعين، لابن القيم، بيروت، 1987 / 1407 ص. 76

[8]إعلامُ الموقِّعين، لابن القيم، بيروت، 1987 / 1407 ص. 76

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.