حبل الله
حُسن الخلق

حُسن الخلق

لا نجد كالخُلق الحسن معبرا عن جوهر المؤمن، ولا أدلَّ على الإيمان من حسن الخلق، وقد كان ميزة لكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وامتدح الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم به فقال {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم، 4)
 ولكثرة ازدحام المعاني السامية في هذا المصطلح تعددت التعريفات له وكأنها تجمع كل جميل مما تعارفه البشر من المعاني، فقد نقل ابن القيم رحمه الله تعالى بعض تعريفاته فقال: قيل: إن حسن الخلق «بذل الندى وكف الأذى واحتماله » وقيل: «بذل الجميل وكف القبيح» وقيل: «التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل» وَإِنَّكَ لَتَرَى صَاحِبَ الأَخْلاَقِ الْجَمِيْلَةِ؛ مِنْ أَحْلَى الْنَّاسِ صُوْرَةً وَإِنْ كَانَ قَبِيْحًا. وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْجَمِيْلِ؛ لاَ تَنْفَكُّ الْقُلُوْبُ عَنْ مَحَبَّتِهِ، وَتَعْظِيْمِهِ، وَالْمَيْلِ إِليْهِ. وربما استلهم ابن القيم هذا من قوله تعالى واصفا اجتماع أصحاب النبي حوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران،159)
وفي الآية إخبار وتوجيه؛ أمّا الإخبار فتمثل في تلك السجية التي خُلق عليها خاتمُ الأنبياء من لين ورحمة وحب للآخرين، أمّا التوجيه فتمثل في أمر الله تعالى إياه بالعفو عنهم عند صدور الزلل منهم، والاستغفار لهم، ولا يقف الأمر عند هذا فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا ينسى أنه قائد الجماعة، والقيادة الحكيمة لا يسعها إلا أن تشارك القوم في اتخاذ القرار، فقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه وإشراكهم في الأمر. ولا يخفى أنّ الآية سلطت الضوء على جماع الأخلاق في شخص النبي صلى الله عليه وسلم ما بين صفة جبلية فيه والتزامه بتوجيه ربه له، فكان القدوة في الخلق الحسن، وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: (كان خلقه القرآن)[1]
وقد وَصْفت أم المؤمنين عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها خلق النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمْ فقالت: (لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)[2]  
ولذلك أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز بالتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم، بقوله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب،21) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من توجيه أصحابه نحو التمسك بالأخلاق الفاضلة بوصفها سبيل لرضى الله سبحانه ومن ثم دخول الجنة، فلما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: (تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)[3].
ويؤكد ذلك في حديث آخر معتبرا أن حسن الخلق من أعظم الأعمال الصالحة في ميزان المسلم، بقوله عليه الصلاة والسلام: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)[4] وذلك لأن صاحب الخلق متصف به في كل وقته لا ينفك عنه، بخلاف العبادات الأخرى فإنّها تؤدى في أوقات مخصوصة ثم تنقضي، ولأن الشخص ربما قام بالعبادات وبالغ فيها ولكن عبادته لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، فلا يكون محققا للمقصود من العبادات وقد بينت الآية التالية ذلك، قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت، 45) فمن أقام الصلاة كما أرادها الله فلا بد أن ينعكس أثرها إيجابا في سلوكه، وإلا كان ثمة مشكلة في عبادته، لذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الصيام في رمضان دون أن يظهر أثره في سلوك المرء يُعدُّ خللا في فهم حكمة الصيام، بقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)[5] ويزداد الأمر وضوحا اعتبارالنبيصلى الله عليه وسلم حسن الخلق من كمال الإيمان، بقوله: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)[6]
وكفى المؤمن صاحب الخلق الحسن أنه أحب الناس إلى الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ – شَهْرًا)[7] 
 

كيف أكون صاحب خلق حسن؟

حسن الخلق يكون مع الله كما يكون مع الناس، فأما حسن الخلق مع الله فيكون بالرضى بحكمه والتزام أوامره واجتناب نواهيه وتلقي ذلك بانشراح ورحابة صدر لا متضجرا من تنفيذ أمر ولا متبرما من ترك ما نهى عنه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب، 36)
وأما حسن الخُلق مع الخَلق فيكون بما تقدم من تعريف حسن الخلق، ولذلك فقد أُشير إلى حسن الخلق في آية هي جماع الأخلاق، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199) وهذا ليس بالأمر السهل على النفوس التي اعتادت الانتصار لذاتها، قال تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشورى44 . وإذا كان التحلي بالأخلاق الحسنة من عفو وصبر يُعدُّ من عزائم الأمور فلا جرم أن ثواب ذلك عظيم، قال تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى 40).
إن تزكية النفس بالطاعة من أعظم ما يُكسِبُ الأخلاق الفاضلة، وقد وصفت آيات الكتاب الذين زكت نفوسهم بالفلاح ، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (الشمس: 9). وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (الأعلى: 14).
كما إن للصحبة أثرها في تعزيز الأخلاق الفاضلة، فالنفوس مجبولة على التأثر بمن تصاحب، وقد قيل قديما قل لي من تصادق أقل لك من أنت، ولله در الشاعر إذ يقول: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي. وهذه الأقوال توافق تماما ما نطق به الصادق الأمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المرء على دين أخيه فلينظر أحدكم من يخالل)[8]. ويؤكد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بقوله: (لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي)[9].
 

من صور الخلق الحسن ما يلي:

1_ الدفع بالتي هي أحسن {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون، 96).
2_ التواضع للناس وخفض الجناح للمؤمنين {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر، 88) والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو شامل لجميع المؤمنين فيخفض المؤمن جناحه لأخيه ، وخفض الجناح تعبير عن أعلى درجات التواضع والاحترام.
3_ الكلام الحسن والبعد عن فحش القول {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة، 83) . وقال عليه الصلاة والسلام: (وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)[10]
4_ طلاقة الوجه وخصوصا عند اللقاء. قال عليه الصلاة والسلام (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)[11]وقال عليه الصلاة والسلام (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)[12].
وليس حسن الخلق منحصرا فيما ذكرت من مثال، بل هو كثير يشمل كل مناحي حياة الفرد والمجتمع، وعلى كل مسلم أن يحرص على أن تكون الأخلاق عنوانا له يعرف بها، وهذا من أهداف رسالات الله تعالى إلى البشر قديما وحديثا.
كتبه: جمال أحمد نجم

[1]مسند احمد، عن عائشة رضي الله عنها، رقم الحديث 24601  
[2] الترمذي، رقم الحديث 1939 وقال حسن صحيح، وصححه الألباني
[3] الترمذي، رقم الحديث 1939 وقال حسن صحيح، وصححه الألباني
[4] الترمذي، رقم الحديث 1926 وقال حديث غريب، وصححه الألباني
[5]صحيح البخاري، باب من لم يدع قول الزور، رقم الحديث 1903
[6]أحمد، رقم الحديث 7095، أبو داود 4062، والترمذي 1082 وقال حسن صحيح، وصححه الألباني
[7]الطبراني في الكبير 665، وكذا في الأوسط 6204،وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج ح 36، وحسنه الألباني في صحيح الجامع
[8]مسند أحمد عن أبي هريرة، رقم الحديث 8417
[9] سنن الترمذي، باب من يؤمر أن يجالس، 4832 ، وحسنه الألباني
[10]البخاري، رقم الحديث 2767، مسلم، رقم الحديث 1677
[11] الترمذي، رقم الحديث 1879 وقال حسن غريب، وصححه الألباني
[12]مسلم، رقم الحديث 4760، والترمذي، رقم الحديث 1893 وقال حسن صحيح

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.