حبل الله
الأصول في تفسير القرآن بالقرآن – مفهوم المحكم والمتشابه والمثاني والتأويل

الأصول في تفسير القرآن بالقرآن – مفهوم المحكم والمتشابه والمثاني والتأويل

وقف السليمانية
الأصول في تفسير القرآن بالقرآن
مفهوم المحكم والمتشابه والمثاني والتأويل
أ. د عبد العزيز بايندر
1. الأصول في تفسير القرآن بالقرآن
قال الله تعالى: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلٰى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»  (الأعراف، 7 / 52).
أوضحت الآية أنّ القرآن الكريم قد تمّ تفصيله من الله تعالى بحسب أصول معينة، فلا بد أن يشتمل القرآن على هذه الأصول.
وحين نستقرئ القرآن الكريم فإننا نجد أنّ تلك الأصول قد فُصِّلت فيه على شكل واسع. تقسيم الآيات القرآنية إلى المحكم والمتشابه، وجمع الآيات في مجموعات وفقا لمبدأ المثاني لتمكين الوصول إلى تفصيل الله تعالى في موضوعات شتى؛ هو جزء من تلك الأصول.كما أنّ القرآن الكريم يلفت النظر إلى اللغة العربية[1]، والفطرة[2]، والقدوة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل الجماعي لمن أراد الوصول إلى تلك الأصول.[3]وفي هذه الندوة نريد الوقوف على بعض الموضوعات المهمة المتعلقة بتلك الأصول. كالمحكم والمتشابه والمثاني والتأويل.  
قال الله تعالى: «الۤرٰ كِتَابٌ اُحْكِمَتْ اٰيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ اَلَّا تَعْبُدُوۤا اِلَّا اللّٰهَ اِنَّني لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (هود، 11 / 1-2).
فقوله تعالى «الۤرٰ كِتَابٌ اُحْكِمَتْ اٰيَاتُهُ» يدلّ على أنّ آيات الكتاب كلها محكمة. و« ثُمَّ فُصِّلَتْ» يدل على أنّ الآيات كلّها مفصّلة. وعلى هذا فإن آيات الكتاب كلَّها محكمةٌ وكلها مفصلة.[4] لأن “ثم” في الآية ليست للتراخي في نزول الآيات بل لإفادة الترتيب بين المُفَصَّل والمُفَصِّل. وقوله تعالى « مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبيرٍ» يدلّ على أنّ إحكام الآيات وتفصيلها قد تمّ من الله تعالى. وقوله تعالى « اَلَّا تَعْبُدُوۤا اِلَّا اللّٰهَ» يدلُّ على أنَّ من أحكم الآيات وفصلها هو الله تعالى وليس غيره. كما يدلّ على عدم جواز أن يتولى أحدٌ تفصيلها غير الله تعالى؛ لإحتمال اعتبار المعنى المفصَّل كآية منزلة من الله؛ وهذا يؤدي إلى قبول غير الله شارعا.
وعلى هذا فالمحكمات هي الآيات التي فُصِّلت بالمُفَصِّلات. وينبغي أن يكون تفصيل الآيات بآيات أخرى لأن المفصِّلَ هو الله تعالى. ونتيجة القول؛ فإن الآياتِ القرآنيةَ المفصلة لموضوع تنقسم فيما بينها إلى محكمات هن أمٌّ في الموضوع ومتشابهات تفصل تلك المحكمات. فالمتشابهة في موضوع تكون محكمة في آخر لأنّ الآيات القرآنية كلها محكمات من ناحية ومتشابهات من ناحية أخرى. لأن الله تعالى قال في آية أخرى: «اَللّٰهُ نَزَّلَ اَحْسَنَ الْحَد۪يثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ» (الزمر، 39 / 23).
و”المتشابه” هو الذي يُشْبِهُ بعضُه بعضاً.والـ“مثاني” جمع مثنى، وجاء القوم مَثْنى مَثْنى أَي اثنين اثنين.[5] وبناء عليه فإن الآيات القرآنية هي النّصوص المتألفة من مجموعات المثاني المتشابهة. وهذا يدلّ على وجود تشابه وعلاقة ثنائية بين الآيات.
ويشير تعالى إلى من يمكن له التثبت والوصول إلى هذه العلاقة الثنائية بين الآيات بقوله: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ اٰيَاتُهُ قُرْاٰنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (فصلت، 41 / 3).
فالوصول إلى الآيات المثاني المتشابهات هو عمل قوم يعلمون. والقوم في عموم القرآن أُريد بهم الرجالُ والنساء جميعا.[6]
وفي الآية تظهر أهمية الكلمتين وهما “قرآنا” و”عربيا”. ولفظ القرآن في اللغة العربية يعني الجمع والإجتماع.[7]وقد سمَّى الله تعالى كتابه الأخير قرآنا، لأنه جمع فيه الآيات المنزلة على نبيه.[8] كما يعني لفظ القرآن مجموعات الآيات التي يفصل بعضها بعضا.[9] قال الله تعالى: « وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» (الإسراء، 17 / 106). والآيات التي تفصل موضوعا ما بمحكماتها ومتشابهاتها تشكل مجموعة سمّاها الله بـ”قرآنا”. ولأنّ نزول هذه الآيات كان في أوقات متفرقة فإنّ الله تعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم ألّا يحكم في شيء حتى يكتمل نزول الآيات المتعلقة به، قال الله تعالى: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (طه، 20 / 114)..
وكون القرآن عربيا يتطلب وجود من يتقن العربية في ذلك القوم، ولا يكفي الإلمام البسيط باللغة العربية بل لا بد من الرسوخ فيها واستيعاب جميع نواحيها صرفا ونحوا وبلاغة وأدبا. وهؤلاء القوم لا بد وأن يكونوا راسخين في العلم كما دلّ عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » (آل عمران، 3 / 7).
التأويل،  من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يُرجع إليه، فالتأويل رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا.[10] فغاية المتشابهات هي المحكمات. والذي أوّلها وجعل بينهما التشابه وفصلها به وأرانا طريقته في التفصيل هو الله وليس غيره. فقال في الذين لا يريدون اتباع هذه الطريقة ويقطعون العلاقة بين الآيات ويتبعون آية فيها تشابه مع بغيتهم: ” فَاَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاۤءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاۤءَ تَاْوِيلِهِ”. لأنهم لا يهتمون بالروابط الثنائية بين الآيات بل يريدون تحويل الهدف وزرع الفتن.  
وهناك من يخطئ في إقامة الروابط الثنائية بين الآيات مع أن نيتهم ليست زرع الفتن ولا تأويل الآيات حسب هواهم فهم ليسوا ممن سبق ذكرهم.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا”. أي أنّ الذي أنزل الآيات محكمات ومتشابهات، وأولها بإقامة الروابط بينها هو الله تعالى، ولا نؤول الآيات حسب هوانا[11] ولكن نحاول أن نجد الروابط التي وضعها الله تعالى بين تلك الآيات.
وإهمال المناسبات بين الآيات وعدم الاهتمام بها أدّى إلى فهم كلمات المحكم والمتشابه والمثاني فهما يختلف عن معناها الحقيقي. ومن أجل ذلك فقد قام البعض بتأويل كثير من الآيات تأويلا باطلا أو بيعدا عن معناها المراد منها. وهذا التأويل الخاطئ قد جعل كثيرا من المفاهيم الإسلامية مصدرا للأزمة والمشاكل. هذا حسب ما وصلنا إليه في ظل الدراسات.
كما أدّى إهمال المناسبات بين الآيات وعدم الاهتمام بها إلى فقدان التوافق بين الكتاب والسنة وعدم إقامة المناسبات بينهما حتى أعتبرت السنة مصدرا ثانيا مستقلا دون القرآن، فازداد الإنقطاع بينهما. حتى ظهر من ادعى أنّ الكتاب والسنة يشملان على معانٍ متضادة أو أن كل واحد منهما يقوم بتنظيم ساحة خاصة له لا دخل للآخَر فيها. ولم يقف الموضوع عند هذا الحد بل ظهر من قال إن السنة ناسخةٌ للكتاب.[12] وقال آخرون إن الكتاب ليس ناسخا للسنة.
وبسبب الأزمة التي نتجت عن إقامة المناسبات بين الآيات على شكل خاطئ ترك البعض السنة وظن البعض أنّ مصدر الأزمة هو القرآن فذهب إلى القول بتاريخية القرآن؛ أي حصر القرآن بزمن النزول ومكانه، أو جعل القرآن محصورا في المبادئ الأخلاقية فقط وخلعوا عنه صفة الشمولية وأنه تبيان لكل شيء. وقد أدى التوسع في هذا النهج إلى نتائج خطيرة مثل المبالغة في التأويل وتحميل الآيات معانيَ لا تحتمله ألفاظها ،وكذلك أدّى لعدم وضوح الرؤية لبعض الآيات أو حصرها في زمن معين. وقد أخطأ المتأخرون حين قبلوا ما في الكتب القديمة كمعلومات صحيحة تماما بدون دراسة نقدية بميزان الكتاب والسنة.
ونود أن نقف على الكلمات: المحكم والمتشابه والمثاني والتأويل مقارنا بين ما يراد بها من المعاني في القرآن الكريم وبين ما أضيف إليها من المعاني عند العلماء:[13]
أ. المحكم
مشتق من حكمت وأحكمت بمعنى منعت.[14] فالآيات المحكمة هي ما أحكمت بيانها بنفسها ولم تفتقر إلى غيرها.أي أنها تفيد حكما قاطعا ولا يوجد فيها الخلاف.
ب. المتشابه
المتشابه من الشِّبْه والشَّبَه والشَّبِـيه أي الـمِثْلُ، والجمع أَشْباهٌ. و أَشْبَه الشَّيْءُ الشيءَ: ماثله.[15] وهي المذكور في الآيات الثمانية التالية بهذا المعنى:
1. «وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً» (البقرة، 2/25). وهذه الآية تبين أن رزق الجنة يشبه رزق الدنيا.
2. «قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (البقرة، 2/70) أي أن البقر تشبه بعضها البعض فنحتاج مزيدا من التفصيل.
3. «وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (البقرة، 2/118).
4.     «وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأنعام، 6/99). أي من الفواكه ما تشابه ومنها ما لم يتشابه.
5.     «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأنعام، 6/141).
6.     « أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (الرعد، 13/16).
7. «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ …» (الزمر، 39/13). أي بين آياته تشابه وعلاقة ثنائية.
8. «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ » (آل عمران، 3/7).
والمتشبابه المذكور في هذه الآيات كلها يخبر عن تشابه بين شيئين أو أكثر. ولكنا نجد العلماء يقبلون هذا التفسير في الآيات كلها غير السابعة من سورة آل عمران وقالوا إن المتشابه هنا  هي“اللفظ الذي يخفى معناه، ولا سبيل لأن تدركه عقول العلماء، كما أنه لم يوجد ما يفسره تفسيرا قاطعا أو ظنيا من الكتاب والسنة”[16]. والآية تبين أن المحكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. و”الأم”[17] قليلة دائما والأخر كثيرة فيجب أن يكون أكثر الآيات القرآنية متشابة غير مفهومة المعنى. ولا يمكن قبول هذا في الكتاب المبين. لذا حاول البعض الخروج من هذا المأزق بتحديد عدد المتشابهات دون أن يستندوا إلى أي دليل. ومثال ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه ” المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به؛ والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به”.[18]
والمتشابه عند الراغب الأصفهاني على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يجوز أن يختصَّ بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم”.[19]
وقال ألماليلي حمدي يازر: تطلق كلمة تشابه على الشيئين المتماثلين المتساويين. ويقال لكل واحد منهما متشابها بحيث لا يمكن التفريق بينهما. وفي التشبه والمشابهة يكون أحد الطرفين ناقصا والآخر تاما وأصلا. أما في التشابه فكلا الطرفين فيه متساوٍ، فلا يمكن التفريق بينهما. كما في قوله تعالى: « وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا » (البقرة، 2 / 25). و« إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا » (البقرة، 2 / 70). و« تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ » (البقرة، 2/ 118). فالتشابه سبب في عدم التفريق وهو معنى لازم له.[20] وهذا ما قال به فخر الدين الرازي [21] ولكن حمدي يازر خالف نفسه حين فسر الآيات السابقة. ونورد تفسيره للآية الخامس عشرة من سورة البقرة:
أتساءل وهل ثمار الدنيا والآخرة من نفس النوع حقا؟ لا، ليس من نفس النوع، بينهما تشابه في الظاهر فقط، وفي الواقع بينهما فرق كبير.[22] لا اختلاط فيهما.
وتفسير الآية 70 من سورة البقرة: “إن البقرة تشابه علينا ولا ندري أية بقرة أرادها الله تعالى، وكلما نسأل عن أوصافها كان الجواب أوصافا توجد في الآخرى”.[23] أي الأوصاف المتشابهة في كثير من الأبقار.
وتفسير الآية 118 من سورة البقرة: “تشابهت قلوبهم فيشعرون مثلما يشعرون ويفكرون مثلما يفكرون”.[24] والتشابه هنا في الشعور والتفكير، وليس عدم التفريق بينهما.
وقال البعض إنّ الكتاب كله محكم بدليل الآية الأولى من سور هود. وكلَّه متشابه بدليل الآية 23 من سورة الزمر. وبعضَه محكم والآخر متشابه بدليل الآية 7 من سورة آل عمران.[25]
ولم يرد إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم رواية تتعلق بالمتشابه. وقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (آل عمران، 3 / 7). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله، فاحذروهم”.[26]
ولم يُوَضّح الحديث معنى لفظ “المتشابه” لذا يجب حمله على المعنى اللغوي. فقد قال الله تعالى: «وَمَاۤ اَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ اِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (إبراهيم، 14 / 4).
وفهم المتشابه على أنه “اللفظ الذي يخفى معناه، ولا سبيل لأن تدركه عقول العلماء، كما أنه لم يوجد ما يفسره تفسيرا قاطعا أو ظنيا من الكتاب والسنة”، هو قول لا يستند إلى دليل من القرآن ولا من السنة ولا إلى قاعدة من القواعد العربية ولا إلى مبرر علمي. كما يؤدي هذا النهج إلى القول بأن جزءاً كبيراً من القرآن الكريم غير مفهوم، مع أنه موصوف بـ “الكتاب المبين”.[27] كما جاءت في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ»(يوسف، 12 / 1).  
ويطلق لفظ المتشابه على شيئين متماثلين، وهو يختلف عن التشبيه. وليس التشبيه لإفادة المماثلة ولكنه أسلوب يستعمل لإفادة القوة والتأثير في التعبير. مثل قولهم “رجل كالأسد”، أو “ولد كالثعلب”. لإفادة الشجاعة في الأول والمكر في الثاني. وليس الرجل شبيها بالأسد ولا الولد بالثعلب، ولا يلزم أن يكون بينهما التشابه. وبالتشابه بين الأشياء تتكون الأجناس والأنواع والأصناف وبالبحث فيها تتكون المعرفة والعلوم ولايُوصل إلى الأهداف المنشودة إلا به.  
الآية 7 من سورة آل عمران والآية 23 من سورة الزمر تشيران إلى أنّ آياتِ القرآن متشابهاتٌ. وهذا أمر طبيعي؛ لأن الآيات يشرح بعضُها بعضا. فتعلم القرآن كتعلم الأشياء، فلا بد من تجميع الآيات المتشابهات ضمن مجموعات لنصل إلى تفسير آي القرآن الكريم. ولابد من الإشارة هنا إلى وجود مبدأ المثاني في القرآن الكريم، لأن التشابه لا يكون إلا بين شيئين على الأقل. ويؤكد ذلك قوله تعالى: «اَللّٰهُ نَزَّلَ اَحْسَنَ الْحَد۪يثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ» (الزمر، 39/23).
ج. المثاني
المثاني، جمع مثنى أو مثنى أو مثن. أي اثنين اثنين.[28] قال الله تعال: «وَاِنْ خِفْتُمْ اَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامٰى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاۤءِ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبَاعَ » (النساء، 4 / 3).
وقال تعالى: «قُلْ اِنَّمَاۤ اَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ اَنْ تَقُومُوا لِلّٰهِ مَثْنٰى وَفُرَادٰى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا » (السبأ، 34 / 46).
وقال تعال: «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ جَاعِلِ الْمَلٰۤئِكَةِ رُسُلًا اُوْليۤ اَجْنِحَةٍ مَثْنٰى وَثُلٰثَ وَرُبَاعَ» (فاطر، 35 / 1).
وقال تعال: «اَللّٰهُ نَزَّلَ اَحْسَنَ الْحَد۪يثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ» (الزمر، 39 / 23).
والمثاني تتكون منـ “المحكم” و”المتشابه” ثمّ تليهما آيتان متشابهتان ثمّ آيتان أخريان متشابهتان. فتأتي الآيات في الموضوع مثنى ورباع وسداس وثمان وهلم جرا. ونصل في الموضوع إلى معانٍ دقيقة حسب كثرة الآيات الموجودة فيه. ونسمى هذا بـ” النهج الثنائي”.
 وأما قوله تعالى : “وَلَقَدْ اٰتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَاني وَالْقُرْاٰنَ الْعَظيمَ”(الحجر، 15 / 87) فالمثاني فيها هي من“مثاني المذكورة في سورة الزمر الآية 23. لأنها معرفة بـ “ال” . فالسبع فيها هي السبع المختارة من مثاني القرآن الكريم والخلاصى منها؛ وهي آيات سورة الفاتحة. لذا كانت أساس القرآن وأعظم سوره. وعن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم. ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد. ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الحمد لله رب العالمين: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته.[29] ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها.[30]
إذا لم تُربط العلاقات بين الآيات لا تفهم المثاني فهما صحيحا. قال كثير من العلماء إن المثاني بمعنى التكرار أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، والإخبار عن الأمم السالفة، وكذلك ذكر آيات الرحمة مع آيات العذاب بوجوه مختلفة من البيان والحِكَم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره ، وترداد قراءته وتأمله واعتباره ، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده.[31]
يقول فخر الدين الرازي: “وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات والأرض، والجنة والنار، والظلمة والنور، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق باطل ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه”.[32]
ولكن هذه التفسيرات لكلمة “المثاني” لا تسهم في فهم القرآن الكريم وكلمة الثنائية تشير إلى علاقة بين الشيئين فأكثر.
د. التأويل
التأويل:  من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا.[33] وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم أربع مرات بنفس المعنى وفقا لأسلوب المثاني. وكلها تؤيد أن التأويل المذكور في قوله تعالى “وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ” هو إرجاع المحكمات إلى المتشابهات من الآيات ليفصل بعضها البعض.
1. تأويل ما حدث لموسى مع الخضر
صحب موسى عليه السلام الخضر،[34] ولم يستطع الصبر على بعض التصرفات التي صدرت منه. فقد ركبا سفينة فخرقها الخضر، ثم قتل طفلا، ثم دخلا قرية ولم يقم أهلها باستضافتَهما، ولكنه رغم ذلك أقام جدارا كاد أن يسقط دون أجر. وحين اتخذا القرار بأن يفترقا. قال له الخضر: «سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا» (الكهف، 18 / 87).
وقد حكى الله تعالى قول العبد الصالح على النحو التالي: «اَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَاَرَدْتُ اَنْ اَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاۤءَهُمْ مَلِكٌ يَاْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَاَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ اَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَاۤ اَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَاَرَدْنَاۤ اَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكٰوةً وَاَقْرَبَ رُحْمًا وَاَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ اَبُوهُمَا صَالِحًا فَاَرَادَ رَبُّكَ اَنْ يَبْلُغَاۤ اَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ اَمْرِي ذٰلِكَ تَاْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا» (الكهف، 18 / 79-82).
وكانت حَيرةُ موسى عليه السلام تتلاشى عند تأويل كل حادثة، أي عند ردها إلى الغاية المُرادة منها.
2. تأويل الرؤيا
يراد بالتأويل هنا تعبير الأحلام. وقد حكى الله قول الملك حين كان يوسف في السجن بقوله:
«وَقَالَ الْمَلِكُ اِنّيۤ اَرٰى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَاْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَاُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاۤ اَيُّهَا الْمَلَاُ اَفْتُوني في رُءْيَاىَ اِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوۤا اَضْغَاثُ اَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَاْو۪يلِ الْاَحْلَامِ بِعَالِمينَ وَقَالَ الَّذ۪ي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ اُمَّةٍ اَنَا اُنَبِّئُكُمْ بِتَاْو۪يلِه۪ فَاَرْسِلُونِ يُوسُفُ اَيُّهَا الصِّدّ۪يقُ اَفْتِنَا في سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَاْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَاُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلّيۤ اَرْجِعُ اِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنينَ دَاَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ في سُنْبُلِه۪ۤ اِلَّا قَليلًا مِمَّا تَاْكُلُونَ ثُمَّ يَاْتي مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَاْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ اِلَّا قَليلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَاْتي مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفيهِ يَعْصِرُونَ » (يوسف، 12 / 43 – 49).
تأويل الرؤيا، هو ربط الرموز التي يراها النائم بما هو مشاهد في الحياة اليومية. والذي لا يمكن له إيجاد هذا الربط لا يستطيع أن يؤول الرؤيا. تماما كرجال الملك الذين لم يستطعوا إيجاد هذا الربط.
3. تأويل الدنيا
الدنيا مكان امتحان. وكل ما يحدث فيها فهو مرتبط بما سيكون في الآخرة. وإذا لم يستطع الإنسان أن يبني هذا الربط على شكل صحيح فلن يدخل الجنة التي كان يتمنى أن يدخلها، بل سيكون مصيره إلى جهنم والتي كان لا يريدها أصلا. قال الله تعالى:
«وَنَادٰىۤ اَصْحَابُ النَّارِ اَصْحَابَ الْجَنَّةِ اَنْ اَفيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاۤءِ اَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ قَالُوۤا اِنَّ اللّٰهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِر۪ينَ اَلَّذ۪ينَ اتَّخَذُوا د۪ينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيٰوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسٰيهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاۤءَ يَوْمِهِمْ هٰذَا وَمَا كَانُوا بِاٰيَاتِنَا يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلٰى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ اِلَّا تَاْو۪يلَهُ يَوْمَ يَاْتي تَاْو۪يلُهُ يَقُولُ الَّذ۪ينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاۤءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاۤءَ فَيَشْفَعُوا لَنَاۤ اَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذ۪ي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤا اَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ» (الأعراف، 7 / 50-53).
ونفهم من التأويل هنا أن كل التصرفات في الدنيا مرتبطة بما سيحدث في الآخرة. والأصل هو الآخرة وهي الباقية. ويجازى كل واحد في الآخرة بما فعل في الدنيا، إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشرّ. بل ويضاعف جزاء الحسنات. قال الله تعالى: «مَنْ جَاۤءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ اَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاۤءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزٰىۤ اِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (الأنعام، 6 / 160).
4. تأويل الآيات
قال الله تعالى: «هُوَ الَّذ۪ۤي اَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ اٰيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَاَمَّا الَّذ۪ينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاۤءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاۤءَ تَاْو۪يلِه۪ وَمَا يَعْلَمُ تَاْو۪يلَهُۤ اِلَّا اللّٰهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ اٰمَنَّا بِه۪ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّناَ وَمَا يَذَّكَّرُ اِلَّاۤ اُولُوا الْاَلْبَابِ» (آل عمران، 3/7).
واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله “فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ” فقال الربيع : هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه قال : بلى. فقالوا : حسبنا. فأنزل الله هذه الآية ، ثم أنزل “ إِنَّمَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَلَهُ كُن فَيَكُونُ” (آل عمران 3/59)[35]
فبين الله تعالى أن آيآت الكتاب قد قُسم إلى محكمة والتي تشابها وتأويل الآيات هو إرجاع المحكمات إلى المتشابهات ليفصل بعضها البعض. فقد قال تعال: “.. وَمَا يَعْلَمُ تَاْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ”. والعنصر الأساسي هنا الآيات المحكمات لأنها أم الكتاب . والذي أوجد الرباط بين المحكمات والمتشابهات هو الله. فهو المختص بعلمه إذن. وكذلك جعل الله تعالى بين المحكمات والمتشابهات تشابها لنصل به إلى ذلك الرباط. والتأويل الذي يوصَل إليه بدون معرفة ذلك الرباط لا يكون تأويلا من الله. والذي يؤولها إلي ما في نفسه وترك تأويل الله في كتابه يضل عن الطريق المستقيم. لأن إهمالها عمدا يؤدي إلى كتم الآيات وفصلها عن متعلقاتها. كما أنه إبعاد للناس عن الدين بوسائل دينية. قال الله تعال: «اِنَّ الَّذ۪ينَ يَكْتُمُونَ مَاۤ اَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدٰى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اُولٰۤئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ » (البقرة، 2 / 159). فبينت الآية الأصل الذي يجب اتباعه في تأويل الكتاب.
وأما قوله تعالى: « فَاَمَّا الَّذ۪ينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاۤءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاۤءَ تَاْو۪يلِه » فيبين أن الذي يفسر الآيات ويفصلها هو الله سبحانه وتعالى كما قال: «الۤرٰ كِتَابٌ اُحْكِمَتْ اٰيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ » (هود، 11 /1). والذين يريدون تفسير الكتاب برأيهم هم الذين في قلوبهم زيغ. لأنهم يُرجِعون الآيات إلى معان في أنفسهم تشابها فيسسبون الفتنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار[36]
ففي قصة موسى مع عبد صالح كان لكل حادثة خلفية لا يعرفها موسى عليه السلام فيؤولها بما في نفسه مما يشابها فلذلك اعترض العبد. ولما بين العبد التأويل الصحيح لكل منها فهمها موسى عليه السلام واطمأن. وأما رؤيا الملك فكان فيه شَرْح ما سيحدث في المستقبل. ولم يستطع أحد من رجاله تأويلها لأنهم لم يجدوا أي مشابهة بين الرموز التي رآها في المنام وبين الذي يشاهدونه في الدنيا. فوجد يوسف عليه السلام هذه المشابهة فاستطاع أن يؤول رؤيا الملك. وكذلك حياتنا في الدنيا لكل ما يحدث فيها مشابهة بما سيحدث في الآخرة وهذا يؤول إلى هذا فهو ما يخبر الإنسان عمّا سيلقاه في الآخرة.  
فالتأويل هو الوصول إلى المعنى المراد بمعرفة العنصر الأساسي والعنصر الشارح استنادا على التشابه. وكذلك الأمر في تأويل الآيات.
ولما لم ترَ العلماء المشابة بين الآيات والتي بها يظهر تأويل الله قطعوا العلاقة بين المجكم و المتشابه منها وقالوا: ” المتشابه هو اللفظ الذي يخفى معناه، ولا سبيل لأن تدركه عقول العلماء” فلذلك قالوا في التأويل بما يختلف عن المعنى المراد منه، وهذا أدّى إلى عدم فهمهم هذه الكلمات من الآية السابقة:«وَمَا يَعْلَمُ تَاْو۪يلَهُۤ اِلَّا اللّٰهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ اٰمَنَّا بِه۪ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّناَ» وقد فسرها الجمهور على النحو التالي: لا يعلم تأويله أحد غير الله تعالى. أما الراسخون في العلم، المتمكنون منه يقولون آمنا به كل من عند ربنا. وعلى هذا فإن “المتشابه”: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، وهو مما استأثر الله بعلمه دون خلقه.[37]
وقال البعض من غير الجمهور في تفسير الآية: ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله. والمتمكنون في العلم يقولون: آمنا بهذا القرآن، كله قد جاءنا من عند ربنا. وعلى هذا فإن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات.[38] وهذا قول ليس له معنى. لأن المؤمنين كلهم يؤمنون بأن القرآن قد جاءنا من عند ربنا فما بقي شيء لتخصيص الراسخين بالعلم.
وقال محمد أبو زهرة: أما التأويل فهو إخراج اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يحتمله، وليس هو الظاهر فيه.[39]وهذا يوافق تماما بما فعله وفد نجران.
وقال زكي الدين شعبان: التأويل هو أن يراد من اللفظ معنى غير ظاهر استنادا إلى قرينة تمنع من إرادة المعنى الظاهر.[40] وهذا التعريف يفتح بابا إلى الباطنية.
فالتأويل على هذه التعريفات: إخراج اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى غير ظاهر. وحين نقول المعنى غير الظاهر، يظهر سلسلة من الإشكالات. وبهذا يتبين أنّ تفسير العلماء للتأويل لا يستند إلى مبرر صحيح.
الخلاصة
الآيات القرآنية وفقا للمبدأ الثنائي فإنها تنقسم إلى قسمين، أحدهما: المحكمات، والأخرى: المتشابهات التي تفصل المحكمات. وعلى المبدأ الثنائي فإنّ التفصيل يعتمد على أصول المثاني حيث يأتي “المحكم” و”المتشابه” ثمّ يأتي آيتان متشابهتان ثمّ آيتان أخريان متشابهتان. تأتي الآيات في الموضوع مثنى ورباع وسداس وثمان وهلم جرا. والله تعالى هو الذي فصل الآيات. والراسخين في العلم والمتمكنون منه يجب عليه أن يقوموا بكشف المشابهات التي جعلها الله تعالى بين الآيات ويصلوا إلي تفصيل وتفسير قام يه تعالى. وكثيرا ما يجدون فيه قولا أو فعلا لنينا صلى الله عليه و سلم فيوافقون بين الكتاب والسنة. ونجد المفسيرين قد أهملوا هذا الطريق ولم يصلوا إلى تفسير صحيح في كثير من الآيات ففقدوا الموافقة بين الكتاب والسنة.
 2. تعليم رسول الله الحكمة
الحكمة مصدر نوع من الحكم. والحكم إما صحيح وإما فاسد فالحكمة هي الحكم الصحيح. قال تعالى : إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَالنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ … (النساء 4/105) فالحكمة هي حكم النبي بالكتاب بمنهج أراه الله إياه. وهذه الحكمة قد أنزلها على رسوله مع الكتاب . قال الله تعالى : وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَمَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (النساء 4/113) فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه[41] ، فالمِثْلُ هو الحكمة. وقد كلف الله الرسول بتعليم الكتاب و الحكمة بقوله : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ{الجمعة 2}  وتلاوته الآيات تبيليغها للناس . قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَمِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المائدة 5/67) وكان يجب عليه أن يبلغ الكتاب ويبينه للناس.
قال تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل، 16/44). وهذا ليس تفسير النبي للكتاب إنما هو تبليغه. والذكر هنا هو القرآن وهو نفس الذكر الذي أُنزل على النبيين من قبل لذلك سمى الله أهل الكتاب بأهل الذكر في الآية التي قبلها: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (النحل، 16/43). فبلغهم الرسول أن الكتاب الموجود عند أهل الكتاب ليس كل ما أنزله الله إليهم بتلاوته عليهم هذه الآية: يا أَهْلَ الْكِتَابِقَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (المائدة 5/15) وهذا النوع من التبيين كلَّف به الله كل من آمن بكتابه بقوله : وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِوَلاَ تَكْتُمُونَهُ (آل عمران 3/187) وبقوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُلِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( البقرة 2/159) فالتبين في هذه الآيات هو التبليغ بغير كتم شيء من الكتاب.
وأما تعليم النبي الكتاب والحكمة فهو تطبيق الكتاب بنصه وأحكامه بين الناس ليكون سببَ التزكية والنمو والرقي في المحتمع الإسلامي. والأحكام التي استنبطها النبي لا توجد في نص الكتاب وإنّما هي كالمعادن في التراب لا يراها إلا المختصون، وهذه المعادن مخلوقة مع الأرض كالحكمة التي أنزلت مع الكتاب. ونضرب لذلك مثالا: قال النبي صلى الله عليه و سلم “اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْي[42]” وهذا الحكم بوجوب السعي لا نراه في الكتاب صريحا، قال الله تعالى : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِفَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَبِهِمَا ( البقرة 2/158) قال الشافعي: ولا يُستعمل (لا جناح) إلا في المباح كقوله تعالي “ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم” وقوله تعالي “لا جناح عليكم ان طلقتم النساء”  “ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء” “ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا”[43] فظن الشافعي أن حكم الكتاب في السعي الإباحةُ وحكمَ السنة الوجوب، وهذه مخالفة بينة، فأخذ الشافعي بالسنة وقال : إن السعى بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج لا يصح إلا به و بهذا قال مالك وأحمد واسحاق وأبو ثور[44]. وهم بذلك تركوا الكتاب وأخذوا بالسنة وجعلوها قاضية على الكتاب.
والحقيقة أنّ قول النبي هو حكمة استنبطها من الكتاب. روى البخاري عن عَاصِم أنه قَالَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا[45]” فبينت الآية أن السعي ليس من شعائر الجاهلية فلا جناح على من سعى، وقد ظهر أن الحاج والمعتمر قد نقص من مناسكهم السعى، لأن هذه الآية نزلت في حجة الوداع[46] وكان قد أنزلت قبلها: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ( البقرة 2/196) عام الحديبية[47] ولكن معنى الإتمام كان غير واضح ولم يقل النبي شيئا في السعي حتى نزلت آية السعي. لأنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن لا ينطق بالحكم قبل تمام نزول الآيات المتعلقة به امتثالا لأمر الله تعالى له: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَنيُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( طه 20/114) والقرآن هنا مجموعة من الآيات لأنه من قرأ أي جمع وقَرَأتُ الشيء قرآنا، جمعته وضممت بعضه إلى بعض.قال أبو عبيدة: سمِّي بالقرآن لأنه يجمع السُّوَرَ فيضمها[48]. فمعنى “وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ” أي بالحكم بالآيات المتعلقة بموضوع “مِن قَبْلِ أَنيُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ” أي قبل أن يتم إنزال الآيات في هذا الموضوع. فلما نزلت الآية ظهر أن النقصان الذي أمر الله بإتمامه في آية الحديبية هو السعي فقال النبي : “اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْي[49]” وكان هذا حكمة الكتاب التي استنبطها الرسول وعلمها. وَقَالَتْ عائشة رضي الله عنها مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ[50] والموافقة بين كلمات عائشة وبين الآية تشير إلى أن الصحابة أو بعضهم كانوا يعرفون هذه الموافقةَ والحكمةَ. وهذا هو المراد من قوله تعالى : إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَالنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ … (النساء 4/105)
ولما كانت السنة حكمة استنبطها النبي من الكتاب كان التشابه موجودا بينها وبين القرآن أي الآيات المتعلقة بها ولا يصل إلى هذا إلا من سلك المنهج الذى أراه الله لنبيه . ونجد العلماء لم يسلكوا هذا المسلك فظنوا أن هناك مخالفة بين الكتاب والسنة كما كان في مسألة السعي. فيأتي بعدها سؤال وهو : إذا كانت السنة تخالف الآية فمن أين عرف النبي هذا الحكم وقال به في حجة الوداع ؟ فكان هذا سبب خطإ آخر لأنهم قالوا : إن السنة وحي غير متلو لأنه لا يتعبد بتلاوتها، وقد أخذوا هذه الآية دليلا على ما ذهبوا إليه:وَمَا يَنطِقُعَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . (النجم 53/3-4) ولم يأخذوا الآيات التالية : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى … (النجم 53/5-7) وهذه الآيات تخبر عن إنزال الوحي الأول الذي جاء به جبريل. ولما تركوا الكتاب وحكموا بالسنة كما كان في مسألة السعي قالوا : السنة قاضية على الكتاب فأصبح التابع متبوعا فتتابعت الأخطاء.
فالسنة ليست مصدرا مستقلا عن القرآن، بل هي تابعة له وحكم صحيح مستخرج منه. قال تعالى: «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » (الأنعام، 6/106). فلا يجوز التفريق بين التابع والمتبوع، وليس للتابع حكم مستقل عن المتبوع. فيجب أن نفعل كما فعل الرسول ونجمع كل الآيات المتعلقة بموضوع ونصل إلى قرآن أي مجموعة من الآيات المتعلقة به. وفي نفس الوقت نأتي بالسنة في هذا الموضوع ونجد الموافقة التامة بينهما ونستخرج به الأحكام الموجودة في الكتاب. فيكون النبي أسوة حسنة لنا، قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب، 33/21).
ومن أجل هذا يجب التَأنِّي في موضوع السنة، والبحث عما يرتبط بها من آيات القرآن الكريم. وبهذا المنهج يمكن التحرز من الأحاديث الموضوعة.
فيفهم من الآيات أنّ التبيين هو تبليغ آيات الكتاب تبليغا تاما دون زيادة أو نقصان، ويشمل ذلك تعليم الناس ما أوحي إليهم. فالتبليغ هو الوظيفة للنّبي ولكل مسلم. وأما استخراج الأحكام من الكتاب فله منهج خاص مبين في الكتاب سلكه النبي واستخرج به الأحكام كاستخراج المعادن من الأرض. ويحب على العلماء أن يسلكوا هذا المسلك ويستخرجوا حكم الكتاب، وبهذا يمكنهم أن يحلوا كل المشكلات التي واجهها الناس .
3. الاستفادة من الكتب السابقة في تفسير القرآن الكريم
القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتاب. قال الله تعالى: « وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ » (المائدة، 5/48). والكتاب معرفا باللام كُرِّرَ في الآية مرتان. معنى هذا أن الكتاب الثاني هو نفس الكتاب الأول أي القرآن. فالقران لا يصدق التوراة والإنجيل في حالهما الحاضر ، إنما يصدق بعضَ أحكامهما الموجودةَ فيه.  لأننا لانجد آية تقول بتصديق القرآن للتوراة والإنجيل وقال تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ. » (آل عمران، 3/3-4). ولم يقل « من التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ. » ونجد عيسى عليه السلام أنه صدق التوراة في قوله تعالى : « وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَالتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ … » (المائدة، 5/46) وهذا فرق بين محمد والأنبياء من قبله في تصديق الكتاب . وفي هذه الآية توضيح اكثر : « يَا أَهْلَ الْكِتَابِقَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّاكُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنكَثِيرٍ (المائدة، 5/15) فالكتاب التام لا تصدق كتابا ناقصا إنما يصدق ما يوافقه من الأخكام.
إنّ من المعروف بداهة أنّ الوحي إلى جميع الأنبياء صدر من مشكاة واحدة، فإن كان الأمر كذلك فلا بد من أن تكون سلسلة الوحي متماثلة من أول الأنبياء إلى آخرهم، فنص فيه القرآن الكريم بأن ما أوحي إلى نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمد كان نفس الشيء وهو في قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ» (الشورى، 42/13).
ومما ينبغي الإشارة إليه أنّ بعض آيات القرآن الكريم نزلت على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، وهذه الآيات تشتمل على الأحكام المخففة. يقول الله تعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (البقرة، 2/106).
وقد نسخ القرآن الكريم الكتب السماوية السابقة. فالنسخ في اللغة؛ «إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه».[51] والقرآن الكريم هو آخر الكتب نزولا وبه قد نسخ سبحانه الكتب السابقة وأقامه مقامها فهو ناسخ ومهيمن على ما أنزل الله من كتاب، فالإتِّباع للقرآن الكريم هو اتباع للتوراة والإنجيل وما أنزل على النبيين قبل محمد صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف، 7/157).
وفي الكتب السابقة معلومات عن أهل الكتاب تمكننا من معرفة كيفية إقامة العلاقة معهم. قال الله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران، 3/64).
ويمكننا أن نحصل على معلومات من الكتب السماوية السابقة تتعلق بالمجتمعات القديمة. قال الله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً» (الإسراء، 17/6-7).  
والتوراة أكبر حجما من القرآن الكريم. وبعض الموضوعات التي جاءت في القرآن الكريم مختصرة، وردت في التوراة مطولة. ويمكن الإستفادة مما جاء في التوراة في تفسير الآيات المتعلقة بالموضوع. وعلى سبيل المثال؛ جاء في التوراة أن الأوائل من المجتمع اليهودي كانوا يعبدون بقرة اسمها «أبيس». ونرى في سورة البقرة أن الله تعالى أمر اليهودَ بذبح البقرة، وأنهم كانوا يبحثون عن الذرائع ليَفِرُّوا من ذبحها. (البقرة، 2/67-71). علما بأن البقرة هنا مذكر ليست مؤنثا وهي مؤنث لفظي لا حقيقي وهو اسم لمفرد البقر. وفي القرأن دليل على أنها مذكر وهو قوله تعالى : إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث » (البقرة، 2/6771). وإذا جمعنا هذا إلى ذلك يسهل لنا فهمُ تلك الآيات، و سبب عبادتِهم العِجل الذي صنعوه منتهزين غِياب موسى عليه السلام لفترة قصيرة.[52] كذلك نفهم سبب اشتراط إراقة دم الأضحية في عيد الأضحى.
قال الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ» (البقرة، 2/93).
فمعنى «سمعنا وعصينا» هنا هو «سمعنا و تمسكنا بقوة» لكنا نجد المفسرين قد فسروا «عصينا» بمعنى العصيان، فأُشكِلَ على كثير من المفسرين فهم الآية، لأنه لا يمكن الإخبار عن العصيان من الذي أُخذ منه الميثاق. وإذا نظرنا إلى التوراة نجد أن كلمة «عصينا» جاءت بمعنى التمسك بقوة، وهو أحد معاني هذه الكلمة في اللغة العربية. ومن أراد المزيد يرجى الرجوع إلى موضوع «التمسك بالقوة والعصيان» في هذا الكتاب. 
ومن خلال المطالعة في الكتب السماوية السابقة نعرف الكيفية والكمية في تصديق القرآن إياهم. وهي من أهم الجوانب  في الإستفادة من الكتب السماوية السابقة. فيمكن بذلك التحرز ممّا أُضيف إليها بأيدى الناس.
4. أهمية اللغة العربية في تفسير القرآن
قال الله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم.» (إبراهيم، 14/4)
وقال تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» (الشعراء، 26/93-195)
اللغة العربية لها أهمية بالغة في فهم القرآن الكريم لأنه نزل بلسان عربي مبين. وقد كثرت اليوم التطبيقات الخاطئة لقواعد اللغة العربية. وتفسير الآية السابقة خير مثال على ذلك. حيث قال المفسرون فيها ” فيضل الله من يشاء (أي يريد إضلاله) ويهدي من يشاء ( أي يريد هدايته) وهو العزيز الحكيم ” فالإرادة في الهداية والضلالة لله فقط، ولا دخل للعباد فيهما. وهنا علينا أن نطرح سؤالا؛ وهو إذا كان الأمر هكذا، فلماذا أرسل الله كل رسول بلسان قومه ليبين لهم، وما هي الفائدة في بيان الرسول لهم بلسانهم؟ وتختلف إرادة الله في آية أخرى : « يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَمِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النساء، 4/26). وهل يصح هذا الأمر التناقضي في كلام الله تعالى؟ وهو العزيز الحكيم.
ومصدر التضاد هو إعطاء الشيئ معنى الإرادة. و”الإرادة” مصدر أراد و”الشيء” مصدر شاء. الإرادة بمعنى الطلب؛ وأما الشيء فبمعنى الإيجاد ومصدر الفعل، هو الأصل الذي تشتق منه بقية صيغ الأفعال. وحروف الماضي هي نفس حروف المصدر. وكلمة “الشيء” مكونة من الحروف التالية: ش، ي، ء. وتوجد هذه الحروف في كلمة “شاء” هو الفعل الماضي من “الشيء”.[53] ومن كلمة “الإرادة” اشتق فعل أراد.[54] ولا فرق بين المصدر والفعل في المعنى، إلا أن الأفعال مرتبطة بالأزمنة. فمعنى “شاء” أوجد، ومعنى “أراد” طلب. فإذا أراد الله إيجاد شيء أمره قال الله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» (يس، 36/82). وإيجاد الأنسان الشيء ليس إلا بسعيه وقال الله تعالى : وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (النجم 53/39) والضمير المستتر في «يشاء» يرجع إلى «من» القريب لا إلى لفظ الجلالة فالتفسير الصحيح للآية: ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء (أي يسعى للضلالة) ويهدي من يشاء (أي يسعى للهداية). لأن الإنسان هو المخاطب بتبليغ الرسل وهو الذي يختار الهداية أو الضلالة. لأن الله تعالى أعطاهم حرية الاختيار، لذا يستحقون الثواب أو العذاب حسب إختيارهم وعملهم . قال الله تعالى: « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً. إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً» (الإنسان، 76/3-5).
5. القرآن الكريم والفطرة
الفطرة؛ تعني مبادئ وقوانين الخلقة والتغيير والتطور، وهي التي تُكَوِّن البِنيةَ الأساسية للكائنات. أي أنّ السماوات والأرض والبشر والحيوان والنبات وغيرها من الأشياء تتكون وتعمل وفق تلك القوانين والمبادئ.. كما أنها _ أي الفطرة _ المبدأ الأساسي في العلوم والتكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية، ومخالفة الفطرة يفسد التوازن الاجتماعي، ويؤدي إلى ظهور الفساد في جميع مناحي الحياة. أنظر إلى قوله تعالى وهو يصف النتائج المترتبة على الخروج عن الفطرة التي فطر الناس عليها: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » (الروم، 30/41)..
وإذا أراد الإنسان أن ينضبط على ميزان الفطرة فليس له إلا النظر من حوله، حيث يرى أنّ كلّ ما خلق الله من سماوات وأرض وما فيهما يسير وفق منهج الله القويم؛ حيث التناسق والتناغم بين مفردات هذا الكون، ولا يشذ عن هذه الفطرة إلا كثير من الناس وهم رغم كثرتهم إلا أنهم لا يشكلون سوى ذرة صغيرة من منظومة هذا الكون الهائل. قال سبحانه «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ » (الحج، 22/18).
وأما الدين فينظم علاقة الإنسان بربه. كما ينظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقته بالطبيعة لا سيما علاقته بالبيئة التي يعيش فيها. والمبادئ التي جاء بها الدين يطلق عليها كذلك الفطرة. قال الله تعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم، 30/30).
ونعرف الفطرة من آيات الله تعالى، وهي ليست محدودة بما أنزل الله تعالى من كتاب، بل تشمل تلك الآيات المنشورة في الكون والآفاق.[55] قال الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصلت، 41/ 53).
والمعرفة التي نحصل عليها من آيات الآفاق والأنفس، نستحضرها في أذهاننا ونهيء أنفسنا للإستفادة منها. وهذه المعرفة تسمى «الذكر» وإستحضارها في الذهن يسمى أيضا «الذكر»[56] وتلتقي تلك المعرفة مع كتاب الله تعالى بتمام التناسق والانسجام. لذا كل من يقرأ القرآن الكريم يزداد ثقة وطمأنينة.
وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى التذكر. والتذكر هو تنشيط وتفعيل ما هو موجود في الذهن. وعندما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه «أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ» (الأنعام، 6/80). معناه؛ ألا تقارنوا ما قلته بما عندكم من المعرفة فتعرفوا أنكم مخطئون، فتعودوا إلى رشدكم. فهو دعوة لهم منه إلى محاسبة النفس.
والذكر كذلك اسم مشترك للكتب المنزلة من الله تعالى. قال الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » (الرعد، 13/28). وقال الله تعالى عن القرآن الكريم: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر، 15/9).
فالذي يقرأ القرآن الكريم بتدبر يجد أن الذكر الموجود في القرآن مطابق للذكر الموجود عنده ( أي ما اختُزل في ذاكرته من المعلومات والمعارف). لذا قال الله تعالى: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد، 13/28).
وصحة معلومات الإنسان متوقفة على مدى تطابقها مع الآيات القرآنية، فكلما استوعب الإنسان الآيات القرآنية والكونية ازداد علمه وتوسعت آفاقه وازداد إيمانه ثقة وطمأنينة.
إنّ الكائنات _ سوى الإنسان _ لا تخالف الفطرة. والإنسان هو من يخالف الفطرة ويفسد توازن البيئة؛ لأن الله خلقه وأعطى له العقل والإرادة والقدرة، ولذلك فإنه يستطيع أن يفعل بعض ما يشاء.
إنّ المنافع والأمال والرغبات كلها أسباب تؤدي إلى مخالفة الإنسان للفطرة. وإذا ما خالف الإنسان الفطرة فإنه سيشعر بالضيق والانزعاج بداية الأمر، ويفقد هذا الإحساس تدريجياً كلما توغل في المعصية واعتاد على مخالفة الفطرة، وما يلبث إلا أن يعتاد هذه المخالفة ويأخذ طابعا جديدا ليبدأ بعد ذلك يتذوق المعصية ويتلذذ بفعل الحرام. ورغم ذلك فإنه يشعر بهذا الضيق بين الفينة والأخرى، لكنه لا يعيره اهتماما هروبا من محاسبة النفس، لأن محاسبة النفس قد تؤدي به إلى الرجوع عن تيهه وضلاله ومكتسباته من الحرام. قال الله تعالى: «لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (التوبة، 9/110).
الذنوب والخطايا هي السلوك المخالف للفطرة. والصواب هو ما وافق الفطرة إلا أنّ الوصول إلى الصواب والاستمرار عليه يتطلب بذل الجهد وتسخير الإمكانات بما يرضي الله تعالى. لذا يعدل الإنسان من الصواب إلى الخطأ مع علمه بذلك. قال الله تالى:
«فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (الشمس، 91/ 8-10).
والمخالف للفطرة ينزعج في البداية، ثم إما أن يترك المخالفة أو يستمر فيها. وهو ينزعج لأن الله تعالى يلهمه بأنه عاص. وهذا إنذار؛ تقول له نفسه الملهمة أنت على الخطأ، فلهذا ينزعج حين يعصي.
والتقوى تصون النفوس من الوقوع في الخطأ. والسلوك الموافق للتقوى يريح الإنسان. وهذا الشعور ما هو إلا إلهام من الله تعالى له بأن هذا الفعل موافق للفطرة.
عن وابصة بن معبد الأسدى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لوابصة:« جئت تسأل عن البر والإثم؟ ». قال قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال:« استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة – ثلاثا – البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس أو أفتوك ».[57]
ولا يقع في مثل هذا الخطأ إلا من اتبع هواه ولم يستعمل عقله. قال الله تعالى: «… وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ» (يونس، 10/100).
والفطرة مصدر العلم كذلك. والعلماء المتخصصون في الرياضيات والتقنيات لا يصدرون القوانين، وإنما يحاولون ويبذلون الجهد لكشف ما في الآيات من قوانين، وهذا هو الإتباع للفطرة. وعلماء الاجتماع وعلماء الإحصاء من يكشفون القوانين بقراءتهم لتلك الآيات كذلك. ولكن بعضهم يحاول إعطاء المجتمع صورا خاصة حسب أهوائهم بعيدا عن الحقيقة، وهذا الموقف منهم يؤدي إلى التطبيقات المخالفة للفطرة،  وتظهر الآثار السيئة لتلك التطبيقات بعد حين، مما يؤدي إلى فساد التوازن الإجتماعي والإقتصادي والسياسي. وبالتالي فإن الضرر الذي ينتج عن مخالفة الفطرة يكون كبيرا ومستمرا.
والنتائج المعرفية التي وصل إليها العلماء يمكن استعمالها لإفساد البيئة والمجتمعات خلافًا للفطرة. كما نعيش اليوم من فساد بيئي واجتماعي جراء إعمال هذه النتائج بمسالك مخالفة للفطرة. والابتعاد عن الفطرة هو تعدٍ للحدود التي جاء بها القرآن الكريم. قال الله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم، 30/41).
كل ما جاء به القرآن الكريم متناسب مع الفطرة تمام التناسب، فلا خلاف بينهما؛ لأن الإسلام هو دين الفطرة. فيستفاد منها في فهم القرآن، كما يستفاد من القرآن الكريم في معرفة الفطرة. ومظن الخلاف بين القرآن الكريم والفطرة هو عدم فهم القرآن الكريم، وعدم إقامة الروابط والعلاقات بين القرآن الكريم والفطرة. والأمثلة على ذلك  كثيرة. 

[1]   أنظر، النحل 16 / 103؛ يوسف، 12 / 2؛ الرعد، 13 / 37؛ طه، 20 / 113؛ الزمر، 39 / 28؛ فصلت، 41 / 3؛ الشورى، 42 / 7؛ الزخرف، 43 / 3؛ الأحقاف، 46 / 12.      
[2]   أنظر، الروم، 30 / 30؛ فصلت، 41 / 53.
[3]   فصلت، 41 / 3
[4]  الاتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، ج. 2 / ص. 2؛ معجم المصنفات للقرآن الكريم علي شواح، الرياض، 1984، ج. 4 / ص . 193.
[5]لسان العرب، مادة: ثني؛ البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج، 2 / ص. 32
[6]   المفردات، مادة: قوم.
[7] مقاييس اللغة، مادة قري. 
[8]       قال الله تعالى: ” وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا” (الإسراء، 17 / 106)
[9]      قال الله تعالى: ” فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا” (طه، 20 / 114).
[10] المفردات، مادة: أول.
[11]   تفسير الترمذي، ص. 1.
[12]   أصول السرخسي، تحقيق. أبو الوفى الأفغاني، القاهرة، دار الكتب العربية، 1954، ج. 2 / ص. 67.
[13] أنظر، علي إسحاق شواخ، معجم المصنفات القرآن الكريم، ج. 4 / ص. 193؛ شيخ الإسلام بدرالدين بن جماعة،  كشف المعانى فى المتشابه من المثانى، ص. 49.
[14] مفردات ألفاظ القرآن، مادة : منع.
[15]مفردات ألفاظ القرآن، مادة: شبه.
[16] محمد أبو زهرة، أصول الفقه، ص. 134.
[17] أنظر، الأنعام، 6 / 92؛ الشورى، 42 / 7؛ وكذلك أنظر، الموافقات للشاطبي، ج. 3، ص. 307.
[18] جامع البيان في تفسير القرآن للطبراني، جـ 3، صـ 172.
[19] المفردات، مادة: شبه.
[20]     ألماليلي حمدي يازر، حق ديني قرآن ديلي، ج. 2 / ص. 1037.
[21] التفسير الكبير لفخر الدين الرازي، لبنان، 1999، ج. 3 / ص. 138.
[22] ألماليلي حمدي يازر، حق ديني قرآن ديلي، ج. 1 / ص. 276.
[23] ألماليلي حمدي يازر، حق ديني قرآن ديلي، ج. 1 / ص. 383.
[24] ألماليلي حمدي يازر، حق ديني قرآن ديلي، ج. 1 / ص. 481.
[25] الاتقان في علوم القرآن للسيوطي، القاهرة ج. 2 / ص. 2؛ مفردات ألفاظ القرآن، مادة: شبه؛ الرازي، ج. 9 / 446؛ متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار، ص. 20-21.
[26] تفسير البخاري، سورة آل عمرن؛ مسلم، باب العلم، 1؛ تفسير ترمذي، سورة آل عمران؛ سنن أبي داود، 2.
[27]أنظر، سورة يوسف، 12 / 1؛ الحجر، 15 / 1؛ شعراء، 26 / 2؛ القصص، 28 / 2؛ الدخان، 44 / 2.
[28] البيضاوي، ج. 2 / ص. 323.
[29]  تفسير البخاري، 1؛ والنسائي، الافتتاح
[30] ترمذي، فضائل القرآن، 1.
[31]   انظر تفسير الطبري، 10/628-629.
[32]   تفسير الكبير للرازي، 9/446 .
[33] مفردات الفاظ القرآن مادة:  أول.
[34]لم يرد في القرآن اسم الخضر، ولكن جاء ذكره في الحديث الذي رواه البخاري، كتاب العلم 44.
 [35]      تفسير الفخر الرازى لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم. عدد الأجزاء / 32، دار النشر / دار إحياء التراث العربى، بيروت 1420 هـ. م 1999 مـ. جـ. 3 صـ. 143.
 [36]الترميذي، تفسير 1.
 [37]الطبري، ج. 3 / ص. 182-183[37] 
[38] مدارك التنزيل وحقائق التأويل لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، بيروت، 1989، ج. 1 / ص. 203.
[39] محمد أبو زهرة، ص. 135.
[40]  زكي الدين شعبان، ص. 320.
41سنن أبي داوود، باب لزوم الجماعة، حديث رقم (3988)1
 [42]سنن أحمد بن حنبل جـ 6 صـ 421.
 [43]      المجموع شرح المهذب – (ج 4 / ص 339)
 [44]      شرح النووي على مسلم – (ج 9 / ص 20)
 [45]البخاري 
[46]      وروي مسلم قول عائشة : إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَجِّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ . صحيح مسلم – (ج 6 / ص 372).
 [47]      تفسير ابن كثير – (ج 1 / ص 532(
 [48]الصّحّاح في اللغة
 [49]سنن أحمد بن حنبل جـ 6 صـ 421.
 [50]صحيح مسلم – (ج 6 / ص 371
[51] لسان العرب مادة: نسخ.
[52] أنظر إلى الآيات رقم 51، و54، و92، و93  من سورة البقرة.
[53] شاء في الأصل  شيأ لكون ما قبل الياء مفتوحا قلبت ألفا فأصبح شاء.
[54]الإرادة من باب أفعال مصدر أراد وهي في الأصل  ارود  والواو مفتوحة وما قبلها ساكن فنقلت حركتها إلى ما قبلها فأصبحت  أراد. والإرادة  أصلا   الإرواد، حذفت الواو وأضيف في آخرها التاء المربوطة عوضا عن الواو المحذوفة. 
[55] أنظر:آل عمران، 3/58؛ الأعراف، 7/63؛ الحجر، 15/ 6، 9؛ النحل، 16/44؛ الأنبياء، 21/2، 50، 105؛ الفرقان، 25/18؛ يس، 36/1؛ ص، 38/8؛ القمر، 54/5.
6] مفردات ألفاظ القرآن مادة: ذكر.
[57] سنن الدارمي، كتاب البيوع، 2.

التعليقات

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.