الربا والبيع نسيئة
وقد ذكرنا سابقا أن هناك تشابها بين البيع نسيئة وبين المعاملة الربوية. لأن بيع سلعة ما سعرها الحالي 10 ليرات بـ 11 ليرة نسيئة لمدة شهرين يشبه بإقراض 10 ليرات بشرط إعادتها 11 ليرة بعد شهرين. ورغم وجود التشابه إلا أنّ هناك فرقا مهما يفصل بين البيع نسيئة والمعاملة الربوية. ذلك أنّ الربا هو ما يُحصل عليه من الدين، وأمّا الدَّين فإنّه يسدُّ بمثله. أي على المدين بـ 100 ذهبا أن يدفع للدائن 100 ذهبا. ولو اشترط الفضل كان ربا. أمّا البيع فهو تبادل مالين مختلفين. وهذا الفرق في البيع جاء بفروق كثيرة.
السعر
النقود، وهي تمثل قيمة معينة في الشراء. وهذه القيمة ثابتة لا تتغير حسب الأماكن أو الأشخاص. والسلع تختلف عن النقود، فليس لها قيمة ثابتة، سواء كانت نسيئة أم نقدا، فقيمتها تختلف حسب الأماكن والأشخاص والظروف المحيطة. ونأتي ببعض الأمثلة على ذلك:
السعر في النقد (الحال) ليس مستقرا
يأتي شخص إلى منتج المعاطف، ويشتري منه معطفا بـ 100 ليرة. والمشتري سعيد وراض بذلك لأن المعطف في المحل 150 ليرة. ثم يأتي ثلاثة أشخاص ويطلبوا من صاحب المحل أن يخصم لهم ويشتري كل واحد معطفا من نفس النوع بـ90 ليرة. ثم يأتي المدرس ومعه خمسة طلاب، ويطلب تخفيضات خاصة، ويشتري كل واحد معطفا من نفس النوع بـ 80 ليرة.
نفترض أن البائع قد حصل على كل معطف بتكلفة 75 ليرة. وعليه دين مقداره 9000 ليرة يجب تسديده في أقرب وقت وليس عنده نقود لسد دينه؛ وهو في حالته هذه يأتي مشتر يطلب شراء 120 معطفا نقدا، فالبائع يتصرف بكل تساهل حتى لا يهرب المشتري. وربما يبيعه بسعر أقل من سعر التكلفة، لسد حاجته من النقود. هذا يحصل في البيع وهو جائز لا بأس به. ولكنه في الربا ليس كذلك.
السعر في النسيئة (الأجل) كذلك ليس مستقرا
يأتي مشتر إلى البائع السابق، ويريد شراء 20 معطفا، نصف الثمن نقدا ونصفه نسيئة لمدة ثلاثة أشهر، وبعد تفاوض على السعر يحصل المشتري على خصم جيد فيشتري المعاطف المطلوبة، كلَّ معطف بـ 80 ليرة.
هذا وقد يتمكن مُشترٍ ثانٍ من شراء 20 معطفا نسيئة لمدة ثلاثة أشهر كل معطف بـ 75 ليرة. لأنه من الزبائن الدائمين له. صانع الملابس يعتبر الشيكات التي يأخذها من المشتري مبلغا نقديا، لأنه يشتري الأقمشة والغزول والبطانة ، وغير ذلك نسيئة على الدوام.
ويريد مشتر ثالث شراء 100 معطف. ولا يريد صانع الملابس أن يبيع، لأنه لا يثق به. ويحاول المشتري أن يرضي الصانع. فيرضى الصانع أن يبيع 100 معطف نسيئة لمدة شهرين وسعر كل واحد 100 ليرة.
وهذه الحالات شائعة في السوق. والآن كيف يمكننا أن نفرق بين السعرين؛ النقد والنسيئة؟ لو اعتبرنا أن الصانع باع معطفا بـ 100 ليرة نقدا، فيكون سعر النسيئة أقل من ذلك. ويختلف الوضع لو حسبنا السعر النقدي بـ 90 ليرة. وكذلك لو حسبنا السعر النقدي بـ 80 ليرة.
لذا نقول إن الأسعار تختلف وفقا للشروط. ولكن أصبح الآن معرفة الفرق بين السعرين النقدي والنسيئة على شكل واضح أمرا صعبا بسبب الإحتكارات والمحسوبيات في السوق بتأثير الرأسمالية. ومع ذلك لا يعد ذلك الفرق في السوق من الربا. لأن السلع تصنع من قبل الشركات المنتجة، ومن المعروف أن السلع تباع بالجملة وبالتجزئة. أما النقود تصنع من قبل الدولة فقط، فلا يقال فيها بالجملة ولا بالتجزئة. 100 ليرة في البنك لا تختلف عن 100 ليرة في جيب طفل. يمكن للصانع أن يبيع المعطف رخيصا، ولكن لا يمكن للبنك المركزي الذي يصنع النقود أن يعطي 100 ليرة بـ 99 ليرة. أي أن الدافع في التسعير يختلف عن الدافع في الربا. دعونا الآن أن نتطرق إلى الجوانب الأخرى لهذا الموضوع..
علاقة السلع بالنقود
وسعر القلم 10 ليرات في أيمينونو، كما يمكن أن يكون سعر نفس القلم 12.5 ليرة في بيأوغلو. لو أن أخوين اشتريا قلمين؛ أحدهما من أيمينونو والآخر من بيأوغلو، فمن الممكن أن يدعي الأخ الذي اشترى بـ 12.5 بأن البائع قد أخذ منه 2.5 ليرة فضلا، ولكن لا يمكن لأي أحد أن يعدِّه من الربا. لأن البيع قد تم في كلا الحالتين نقدا. ويلعب السوق دوره في تسعير القلم. فيمكن أن يكون سعر القلم في بيأوغلو 12.5 ليرة وهو في أيمينونو 10 ليرات. فيكون كلا الأخوين قد اشتريا قلمين بسعريهما العاديين. ولم يكن في البيع غرر أو خداع. بيع القلم في بيأوغلو بـ 12.5 ليرة وهو 10 ليرات في أيمينونو استغلال لجهل المشتري وليس بربا. ولكن يمكن أن نقول بأن المشتري قد خدع بالغبن الفاحش. والسعر الذي يمكن أن يعتبر في أيمينونو غبنا فاحشا من الممكن أن يكون في بيأوغلو سعرا عاديا.
ويمكن أن يختلف سعر السلع من نفس النوع في سوق واحد. على سبيل المثال: يباع القلم من نفس النوع بـ 9 ليرات مرة، وبـ 10 ليرات مرة ثانية، وبـ 11 ليرة مرة ثالثة. أي أن سعر القلم في أيمينونو يتراوح من 9 ليرات إلى 11 ليرة. وما تجاوز عن تلك الأسعار يعتبر غبنا فاحشا. كأن يباع ذاك القلم بـ 12 ليرة مثلا لمن لا يعرف الأسعار الحقيقية. ويمكن لهذا المشتري أن يطلب فسخ البيع بدعوى أنه انخدع في هذا البيع.
وخلاصة الكلام؛ فإن سعر القلم يكون في أيمينونو 10 ليرات، وفي بيأوغلو 12.5 ليرة. وليرتان ونصف ليرة التي ترى هنا فضلا ليست بلا عوض لأنه جزء من ثمن القلم (العوض هنا ربما يكون بالميزة لسوق تجاري عن آخر بحيث ترتفع أجرة المحال التجارية في مناطق الجذب الإقتصادي أو السياحي مما يجعل التجار يزيدون في أسعار السلع لتعويض تكلفة وجودهم في هذه الأماكن). ولكن أخذ 11 ليرة مقابل 10 ليرات معاملة ربوية لأنه فضل بلا عوض.
ج. سعر النقد والنسيئة
من الممكن أن يبتاع المشتري معطفا بـ 100 ليرة نقدا، وفي نفس الوقت يمكن لمشتر آخر أن يبتاع نفس المعطف بـ 100 ليرة نسيئة لمد شهرين. ولا يمكن القول هنا أن الذي ابتاع المعطف نسيئة لمدة شهرين حصل على مبلغ خالٍ عن العوض. و100 ليرة هي ثمن ذلك المعطف في كلا حالتي النقد والنسيئة.
ولا ينكر تأثير الأسواق في تسعير السلع؛ والأساس فيه رضا الطرفين. ولا يلزم اتفاق المشتريين على سعر واحد، بل يكفي اتفاق المشتري والبائع على سعر معين. ويعرف التجار ضرورة المرونة في التجارة، فيعطي لكل مشتر سعرا يناسب الظروف. والمعاملة الربوية تختلف تماما. فيلزم فيها القبول على كل مشتر بالنسبة المئوية المحددة.
الفرق بين السعرين – النقد والنسيئة
إذا كان الثمن نقدا فيمكن استغلاله في إنجاز مشروع جديد. وليس الثمن نسيئة كذلك، كما يُخاف من عدم سداده في نهاية المدة؛ أي أنَّ النسيئة تحمل في طياتها خطرا وضررا. لذا من الطبيعي أن يكون ثمة فرق بين السعرين النقد والنسيئة.
ويمكن أن تكون السلع فضلا في النسيئة إذا كان الثمن نقدا والسلعة نسيئة. أي أن الثمن في هذه الحالة يكون أقل مما يدفع نقدا. وهذا النوع من البيع يتحقق على شكل “السلم” أو الإستصناع. وسيأتي الكلام عنه لاحقا إن شاء الله.
هيكل العملية في بيع النسيئة والربا
يشترط في بيع النسيئة ثلاثة شروط حسب ما ذكرنا من آراء المذاهب الأربعة:
أ= أن تكون السلع موجودة ومعلومة، والبيع فاسد في حالة عدم وجود السلع، أو السلع موجودة ولكنها غير معلومة، لأن الجهل يؤدي إلى عدم اتفاق الطرفين لغياب المعرفة اللازمة لتحقق الرضا. وهو ركن في البيع.
ب= أن يكون السعر معلوما. وإلا فالبيع فاسد.
ج= وأن تكون المدة معلومة وكذلك مقدار التقسيط.
على سبيل المثال: يبرم الإتفاق على السعر المحدد للسلعة وهو 250 ليرة، يقدم منها 150 ليرة والباقي يقسط 25 ليرة لكل شهر، أو على أن يدفع الباقي دفعة واحدة بعد 4 أشهر. ويكون البيع فاسدا لو لم يكن الثمن والمدة معلومين.[1] وإذا وجدت الشروط الثلاثة السابقة فالبيع جائز.
وفي المعاملة الربوية توجد كذلك ثلاثة شروط؛ الشرط الأول: أن يكون القرض معلوما؛ والشرط الثاني: أن يكون المُسْتَلَمُ معلوما؛ والشرط الثالث: أن يكون الأجل معلوما. والمستلم وهو مجموع القرض والنسبة الربوية. أي من يحصل على 10 دنانير من الذهب، فهو سيدفع تلك الـ10 بالإضافة إلى مقدار النسبة الربوية.
أما الذي يشتري السلع نسيئة؛ لا يعيد السلع التي اشتراها أو ما يعادلها من السلع؛ لذلك لا يبقى للسلع المبتاعة أي تأثير. وعلى المشتري دفع الثمن المحدد للسلع في وقت البيع. فمن اشترى سلعة بـ 11 ليرة مؤجلا حين كان السعر نقدا 10 ليرات، ربما يرتفع سعرها إلى 15 ليرة أو ينزل إلى 5 ليرات، ولا يتأثر هذا الإرتفاع أو النزول في السعر عند الدفع المؤجل، أي أن المشتري يدفع الثمن المتفق عليه حين حصل البيع. ولكن الحال يختلف في القرض الربوي؛ لأنك لو اقترضت 10 ليرات تدفعها تلك 10 ليرات في نهاية الأجل. والليرة الواحدة الزائدة ربا.
تحديد الأجل شرط في المعاملة الربوية وفي بيع النسيئة. إلا أن البائع مرتبط به في بيع النسيئة وليس المقرض مرتبطا به في المعاملة الربوية. ففي المعاملة الربوية يمكن للدائن أن يطلب من المدين سد دينه قبل الحلول، بدعوى أن الأوضاع المالية للمدين ليست على ما يرام، أو أن المشروع الإقتصادي سيؤول إلى وضع سيئ. كما يمكن للبنوك أن تصدر القرار بجمع القروض المدفوعة لمدة سنة مع نسبتها الربوية، خلال 15 يوما بسبب أزمة إقتصادية. وهو من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انحطاط مستخدمي القروض من حيث لم يحتسبوا.
والفرق الحقيقي يظهر حين لا يُسدُّ الدين في وقته المحدد؛ بحيث تزداد النسبة الربوية كلما تأخر المقترض عن سداد القرض، أمّا في بيع النسيئة فالأمر ليس كذلك حيث لا يزاد الدين فيه؛ لأن الزيادة تكون ربا. وأمّا سداد الخسائر الناجمة بسبب التأخير في بيئة حدث فيها تضخم في الأسعار فليس بربا. إنّما هو لتغطية الخسائر التي لقيها الدائن نتيجة للتآكل الحاد في قيمة العملة، أو لمنع استغلال المدين للتضخم في الأسعار. أما المعاملة الربوية ليست كذلك؛ بحيث تبدأ فيها الإجراءات الصارمة لتحصيل القروض التي لم تسدد في يومها؛ بتحويل الضمانات إلى بدلٍ صالح لسداد الدين، وتحديد نسبة ربوية جديدة لكل يوم تجاوز المدين الموعد المحدد للسداد وتضاف إلى الدين. وبهذا قد وقع المدين في مأزق لا خلاص منه إلا من رحم الله. وربما يؤدي الأمر إلى موت المدين انتحارا.
التسعير حسب القائمة
يمكن تحديد السعر في بيع النسيئة حسب الأجل. مثلا سعر الثلاجة نقدا 500 ليرة، فمن الممكن أن يدفع 100 ليرة نقدا والباقي تقسط على الشهور بأسعار مختلفة؛ بحيث يزداد السعر بزيادة الأجل. وعلى هذا تُرَتَّبُ قائمة تشتمل على عدد الشهور والسعر المحدد لكل شهر. وفي النهاية يتم البيع على سعر واحد وهذا هو المهم في بيع النسيئة. وعلى هذا المذاهب الأربعة كلها.
بعض الصانعين الذين يبيعون منتجاتهم بالجملة يرسلون قائمة الأسعار إلى المشتريين. تشمل القائمة على بيان واضح لاختلاف الأسعار باختلاف عدد الشهور في النسيئة. كما فيها الإشارة إلى التخفيضات لو عجل المشتري في الدفع، للأسبوع كذا وللأسبوعين كذا. ومقدار الزيادة لو تأخر الدفع إلى شهر كذا. ويستقر السعر حسب قرار المشتري في الدفع. وهذا البيع فاسد على قول المذاهب الأربعة. إلا أن ينعقد البيع على سعر معين من الأسعار المذكورة.
ودليل المذاهب فيه هو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ.[2] ولكن لا يفهم من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع بسعر كذا في النقد وبسعر كذا في النسيئة. وهو اجتهاد من بعض الفقهاء. ونرى أن الصواب غير هذا. لو جمعنا الأحاديث المتعلقة بهذا الموضوع يفهم أن النهي هنا يراد به المعاملة الربوية في صور البيع. لا بأس في بيان الأسعار في القائمة حسب الشهور تأجيلا أو تعجيلا؛ وبيان التخفيضات في حالة التعجيل وزيادة السعر في حالة التأخير. كما بيناه سابقا؛ لأن البيع غير الربا.
أتمنى لكم النجاح والسداد و أعز الله الأسلام و المسلمين بكم