حبل الله
علل الربا في المذهب الحنفي

علل الربا في المذهب الحنفي

علل الربا في المذهب الحنفي

وقد استنبط الأحناف من الأحاديث التي تتحدث عن المواد الستة علتين للربا، وأوسعوا دائرة التحريم المتعلقة بالربا. لأنهم يرون أن التحريم لا يمكن أن يكون منحصرا على بعض أشكال بيع المواد الستة؛ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ.[1] والعلتان هما الجنس والقدر.

الجنس، أن يكون المالان المتعاوضان من جنس واحد. والقدر، أن يكونا متساويين في الأقدار. وقد فهم الأحناف هذا من ألفاظ ذكرت في الأحاديث؛ مثل: والوزن لما يوزن، والكيل لما يكال. لذا يشترط عند الأحناف أن يكون مثلا بمثل ويدا بيد وأن يكون متساويا كيلا ووزنا في معاوضة الأموال المتجانسة، وإلا تحقق الربا.

و علة الجنس استنبطت من اللفظ المذكور في الحديث: “الذهب بالذهب، والبر بالبر…”. كما استنبطت من لفظ “مثلا بمثل…”.  علة القدر. ويقصد من “الوزن والكيل” القدر، بدليل الألفاظ المذكورة في الأحاديث المتعلقة بالموضوع؛ مثل: كيلا بكيل، ومديا بمدي، ووزنا بوزن.

والقدر، هو كيل فيما يكال، ووزن فيما يوزن.[2] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:  بيع الحنطة بالحنطة؛ والبيع لا يجري باسم الحنطة ؛ فالإسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد، ولا تعرف ماليتها ولو باعها لم يجز؛ لأنها ليست بمال متقوم فعلم ضرورة أن المراد: الحنطة التي هي مال متقوم، ولا يعلم ماليتها إلا بالكيل فصارت صفة. وكذلك قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب”. فاسم الذهب قائم بالذرة ولا يبيعها أحد، وإنما تعرف ماليتها بالوزن كالشعيرة ونحو ذلك فصارت صفة الوزن ثابتة بمقتضى النص. فكأنه قال: الذهب الموزون بالذهب الموزون، والحنطة المكيلة بالحنطة المكيلة.[3]

ويشترط المثلية في الوصف والمقدار لمعرفة الفضل بين المالين المتبادلين. مثلا، لو كان هنا، 15 بيضة و10 حبات من الليمون، لا يسأل أي منهما فيه فضل. رغم أن 15 بيضة فيها فضل عن 14 بيضة من نفس الجنس وفي نفس الوصف. والفضلية تثبت بالوزن أو بالكيل. وعند الأحناف أن العدد ليس معيارا في الربا. الكيل و الوزن هما معياران في الربا. كما يدل عليه الأحاديث المتعلقة بالموضوع. وعلى رأيهم أن معنى الحديث كالتالي: تثبت التسوية بين المالين المتبادلين المتجانسين بالكيل فيما يكال وبالوزن فيما يوزن.[4]

وكل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل أبدا، وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا. وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة. لأن النص أقوى من العرف والأقوى لا يترك بالأدنى. وما لم ينص عليه فهو محمول على عادات الناس. لأنها دلالة.[5]

وذلك حين تبادل هذه الأموال على شكل يؤدي إلى الربا. مثلا أصبح الناس في يومنا هذا، يتبايعون بالتمر بالوزن. وعند الأحناف لا يجوز شراء 100 كغم من التمر بـ 100 كغم من نفس التمر. ولو حدث هذا التبادل وجب أن يكون الصنفان من التمر متساويين كيلا وليس وزنا. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على ذلك. وكذلك حين يبادل السواران من الذهب يشترط المساوة بينهما وزنا. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترط في بيع الذهب المثلية وزنا. وعند اختلاف الجنس في المبادلة لا يشترط هذا المعيار. مثلا يجوز شراء ما يكال أو ما يوزن بالأوراق النقدية.

وانعدام المثلية في بيع المال المتجانس يدا بيد  يؤدي إلى ربا الفضل. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز”.[6]

و بيع المال المتجانس والمتساوي بالقدر مؤجلا يؤدي إلى ربا النسيئة؛ فلا يجوز. بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب، يعد تبادلا في الأموال المتجانسة والمتساوية بالقدر. لأن كل واحد منها يباع وزنا. لذا يشترط أن يكون مثلا بمثل ويدا بيد. وإلا كان ربا.

ولا يشترط التساوي في القدر في الأموال مختلفة الأجناس إذا بيع يدا بيد. مثلا: يجوز بيع كغم من القمح بـ 2 كغم من الشعير.أما إذا اختلف الجنس واتحد القدر فالبيع المؤجل فيها يؤدي إلى ربا النسيئة. وقد جاء في حديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عد المواد الستة: ” فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”.

يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه:  أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا.[7]

وفي المذهب الحنفي لا عبرة للوصف في الأموال المعاوضة. لأنه لا يعد تفاوتا عرفا. أو لأن في اعتباره سد باب البياعات.[8]

والحصول على السلعة الموضوعة للربا بدفع الجيدة مقابل السيئة، لا يجوز إلا أن يكون مثلا بمثل. على سبيل المثال، لا يجوز معاوضة الأرز الجيد بالأرز الرديء إلا مثلا بمثل.

ويجوز معاوضة لتر البنزين العادي، بلتر البنزين الممتاز بشرط أن يكون يدا بيد. لأن هذه البضائع تباع وتشترى بالوزن وبالكيل ومن نفس النوع.

ويجوز بيع لتر البنزين بلترين من الحليب بشرط أن يكون البيع يدا بيد، وأن يكون البيع بالكيل. ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق، لأن المجانسة باقية من وجه لأنهما من أجزاء الحنطة والمعيار فيهما الكيل، لكن الكيل غير مسو بينهما وبين الحنطة لاكتنازهما فيه وتخلخل حبات الحنطة فلا يجوز وإن كان كيلا بكيل، ويجوز بيع الدقيق بالدقيق متساويا كيلا لتحقق الشرط.[9]

ولا يجوز بيع الزيتون بالزيت والسمسم بالسيرج حتى يكون الزيت والسيرج أكثر مما في الزيتون والسمسم فيكون الدهن بمثله والزيادة بالثجير، لأنه عند ذلك يعرى عن الربا إذ ما فيه من الدهن موزون، وهذا لأن ما فيه لو كان أكثر أو مساويا له، فالثجير وبعض الدهن أو الثجير وحده فضل، ولو لم يعلم مقدار ما فيه لا يجوز لاحتمال الربا، والشبهة فيه كالحقيقة، والجوز بدهنه واللبن بسمنه والعنب بعصيره والتمر بدبسه على هذا الإعتبار.[10]

والمعايير غير الكيل والوزن ليس لها التأثير المؤدي إلى الربا. وكمثال على ذلك، يجوز بيع 10 بيضات ريفية بـ 20 بيضات مزارعية. بشرط أن يكون يدا بيدا لأنها من جنس واحد. كما يجوز بيع فلس بفلسين. ومبايعة هذه البضائع على هذا الشكل لا يدخل تحت الربا بالرغم من كونها من جنس واحد، ولكنها تباع بالعدد. والعدد ليس علة في الربا.

والبضائع التي لا توجد بينها علة مشتركة من علل الربا يجوز مبادلة بعضها ببعض بلا حرج.

ويباع الذهب والفضة بالوزن، ولا يجوز بيعهما على مبدأ المذهب الحنفي بالبضائع الأخرى الموزونة مؤجلا. ولكن الحنفية يجيزون بيع الذهب والفضة بالبضائع الأخرى التي تباع بالوزن.  أي أننا نرى في المذهب الحنفي عدم التناسق بين المبدأ والتطبيق. مثلا يجوز شراء 500 كغم من الحديد بـ 10 غم من الذهب مؤجلا. وكلاهما مما يباع بالوزن. ولكن الوزن ليس فيهما بنفس الميزة. فالذهب توزن بميزان دقيق وحساس، أما الحديد فيوزن بالكيلو.[11] لهذا السبب تجاهل الأحناف وحدة المعيار بينهما. وهذا النهج من الأحناف قد جعل الربا غموضا لا يُفهم وهو من أشد ما حرم الله تعالى في القرآن الكريم. وستعالج هذه المسألة مرة أخرى لاحقا إن شاء الله.



[1]  صحيح مسلم، المساقاة 82 (1584).

[2]  المبسوط، جـ 7/  صـ 113.

[3]  المبسوط، جـ 7/  صـ 116.

[4]  المبسوط، جـ 7/  صـ 113.

[5] العناية شرح الهداية ، باب الربا، جـ 7 /  صـ 9-10.

[6] البخاري كتاب البيوع 79. المسلم، المساقاة 75 رقم الحديث 1584. النسائي كتاب البيوع 74.

[7] سنن النسائي كتاب البيوع 43.

[8] شرح بداية المبتدي، جـ 7/  صـ 8.

[9] شرح بداية المبتدي، جـ 7/  صـ 23.

[10] شرح بداية المبتدي، جـ 7/  صـ 32.

[11]  الهداية، جـ 7 /  صـ 12-13. بالتصرف حسب المعنى.

تعليق واحد

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.