حبل الله
نقص الأجل

نقص الأجل

نقص الأجل

الأجل هو المدة المعينة لشيء ما. قال الله تعالى: «مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» (الأحقاف، 46/3). وقال الله تعالى في حق الإنسان: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» (الأنعام، 6/2).

هناك آيات تتحدث عن أجل واحد للكون، وعن أجلين للإنسان. أحدهما هو الأجل الموجود في الكون كله ويطلق عليه الأجل المسمى. أما الأخر فهو الأجل الطبيعي. والأجل الطبيعي هو مدة صلاحية الجسد ليبقى على قيد الحياة. وحين ينتهي الأجل يموت الإنسان كما تفقد الأغصانُ الحياةَ بالجفاف. وعندما يقول الأطباء لمريض ما أنه سيعيش مدة كذا، يصدرون هذا الحكم نظراً لمدة صلاحية الجسد ليبقى على قيد الحياة. أما الأجل المسمى هو مدة يعيشها الإنسان. وعند انتهاء هذه المدة يموت الإنسان كأغصان تفرق عن جذورها. ولو كان الأجل الطبيعي لإنسان ما مائة سنة مثلا، فمن الممكن أن يكون أجله المسمى ستون سنة. ولا يعلم هذا الأجل إلا الله.

الطين: التراب المختلط بالماء. ولا تكون الحياة إلا إذا اختلط الماء بالتراب. والنطفة هي سلالة من الأغذية التي يأتي من التراب. ويتغذى الإنسان مما يأتي من التراب حتى يأتيه الأجل فيموت. وكل ما انفصل منه يختلط بالتراب. قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (المؤمنون، 40/67).

الأجل المسمى هو المدة التي يعيشها الإنسان الذي خلق لحياة أبدية بعد الموت ويحمل روحا لا تموت. ويكون الجسد في هذه المدة بمثابة بيت للروح. فتخرج الروح من الجسد عند النوم. وتعود إليه حين يستيقظ. والجسد الميت كالبيت المهدم. لذا لا يمكن للروح أن تعود إلى الجسد حتى تقوم الساعة.

ويوم القيامة يخلق الجسد من جديد، فلا يموت ولا يمرض ولا يهرم. ويدل على ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: « وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة، 2/82).

وكذا الحال لأهل النار قال الله تعالى فيهم: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَاخَالِدُونَ» (البقرة، 2/39). إلا أن جلود أهل النار تغير وتتبدل. كما قال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ» (النساء، 4/56).

والمدة التي عاشها الإنسان في الدنيا هي مدة بقاء الجسد حيا. فقد يموت الإنسن بأسباب مباشرة منه أو غيره من الناس. ويحدث ذلك قبل أن ينتهي الأجل المسمى المختص له. قال الله تعالى: « لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (الرعد، 13/38-39). «… وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » (الفاطر، 35/11).

ونفهم من الآية أن شيئين يكونان سببا في نقص الأجل؛ أحدهما السلوك السيئ. والآخر  عدم فداء النفس في سبيل الله تعالى. ذلك أن أجل الإنسان ينقص بسبب سلوكه السيئ، ويتسبب السلوك السيئة لنقص أجل الآخرين.

كما ينقص أجل الإنسان بما كسبت يداه. فيونس عليه الصلاة والسلام وقومه خير مثال على أن السلوك غير العادي للإنسان ينقص أجله. قال الله تعالى: «.. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (الصافات، 37/139-148).

ثم عاد يونس عليه الصلاة والسلام إلى قومه فآمن به قومه الذين لم يؤمنوا به من قبل ونجوا من الهلاك. كما أخبر الله تعالى عنها بقوله:  « فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ » (يونس، 10/98).

«قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى». (إبراهيم، 14/10).

«الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» (هود، 11/13).

والتوبة كانت سبب نجاة يونس عليه الصلاة والسلام وقومه. أما توبة فرعون فلم تنفعه لأنه تاب بعد فوات الآوان، فمات كافرا.

والتوبة المقبولة لا بد وأن تكون قبل فوات الأوان. فيونس عليه الصلاة والسلام وقومه اعترفوا بذنوبهم وتابوا قبل أن يشرف عليهم الهلاك. قال الله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» (النساء، 4/17-18).

وقد التقم الحوت يونس، وظن أنه دخل في مكان مظلم. ولو علم أن الحوت التقمه لعرف انه تحقق الموت وعلم أن التوبة لا تنفع في هذه الحالة. لأنه حكم الله المذكور في الآية السابقة التي تدل على ذلك. ولكن لعدم معرفته المكان الذي كان فيه تاب وسبح. كما قال الله تعالى: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» (الأنبياء، 21/87-88).

ودعا نوح ابنه حين كان أمامه فرصة للنجاة. قال الله تعالى: «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ. قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» (هود، 11/42-43)

وقد تاب فرعون ولكن كانت توبته حين بلغت الروح حلقومه فلم تقبل توبته. قال الله تعالى: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ»  (يونس، 10/90-92).

«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» (الأنعام، 6/158).

وقد لام فرعون نفسه كما فعل يونس عليه الصلاة والسلام. ولكن يونس فعل هذا قبل أن يأتي الموت، بخلاف فرعون حيث اعلن توبته حين لم يبق أمامه إلا الموت.  قال الله تعالى: « فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ » (الذاريات، 51/40).

اللوم: هو فعل كل من مات على الكفر. قال الله تعالى: « حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (المؤمنون، 23/99-100).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقبل الله توبة العبد مالم يغرغر»[1]

وإذا لم يتحقق التوبة قبل فوات الأوان نزلت العذاب. ذلك أن الله تعالى يؤجل نزول العذاب، وإلا لما بقي على الأرض أحد. قال الله تعالى: « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ» (العنكبوت، 29/53). «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» (النحل، 16/61). « لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (الرعد، 13/39-39). « وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (الفاطر، 35/11).

ينقص أجل المجتمع وأفراده بما اقترفوا من الذنوب، فيمحى بعض القدر من الأجل المسمى. وعلى سبيل المثال؛ الأجل المسمى لفرد من الأفراد أو لمجتمع من المجتمعات مائة سنة، وبسبب ما اقترفوا من الأخطاء نقص ذلك الأجل إلى ثمانين سنة، فعندما يتم ثمانين ينتهي العمر. وحين يأتي الأجل لا يسبقونه، ولا يملكون فرصة للتوبة كفرعون, ولكن لو تاب قبل أن يتم ثمانين سنة ولو بزمن يسير من الممكن أن يكمل المائة سنة التي هي الأجل المسمى لذلك الفرد أو لذلك المجتمع.

أ. كتابة المصائب

تكون الأحداث كتطبيق القرارات. ولا يحدث شيئ إلا بعد أن يكتبه الله تعالى، كما لا ينفذ الجزاء إلا بعد أن تصدر المحكمة قرارا مكتوبا. قال الله تعالى: « مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»  (الحديد، 57/22).

كتابة الأحداث تكون قبل حدوثها، كما نفهم ذلك من الآيات التي تحدثت عن التوبة، ومن قصة نوح عليه الصلاة والسلام، وما أصاب فرعون وملئه، وما أصاب يونس وقومه من نيل النعيم بعد إيمانهم. والضمير في «أن نبرأها» قبل أن نخلق تلك الأحداث، تؤيد هذه الفكرة. كما يدل على ذلك قوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» (آل عمران، 3/145).

وبعد الكتابة لا مناص من حدوث ماكُتِب. قال الله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (آل عمران، 3/154).

ب. أجل المجتمعات

وكما أن للأفراد أجل كذلك للمجتمعات أجل. قال الله تعالى: « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» (الأعراف، 7/34). « قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» (يونس، 10/49).

ولو تاب القوم قبل نزول العذاب سيكتمل لهم أجلهم المسمى. مثل قوم يونس عليه الصلاة والسلام. وعلى سبيل المثال المجتمع الذي نقص عمره من مائتين سنة إلى مائة وخمسين سنة، فلو تابوا قبل نزول العذاب استحقوا أن يكتمل لهم عمرهم إلى مائتين سنة. قال الله تعالى: « ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (الأنفال، 8/53).

وقد تحدثنا إلى هنا عن الآيات التي تدل على أن الفرد أو المجتمع يقصم   وينقص من أجله. والآن نتحدث عن الآيات التي تدل على أن الشخص قد يكون سبباً في نقص أجل شخص آخر.

كون شخص سببا في نقص أجل شخص آخر

يرى موسى عليه الصلاة والسلام والخضر غلاما يلعب مع أصدقائه. فقام الخضر بقتل ذلك الغلام. فيقول موسى عليه الصلاة والسلام: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً» (الكهف، 18/74).ويجيب الخضر بقوله: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» (الكهف، 18/79-80) «وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» (الكهف، 18/82).[2]

لو كان أجل الغلام قد جاء لما اعترض موسى الخضر، ولما احتاج الخضر كذلك إلى ذكر مثل ذلك السبب.

وروي عَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ _شَكَّ مُوسَى_ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ».[3]

وكذلك الأمر في قتل النفس. فمن قتل مؤمنا متعمدا  فجزاءه أن يقتل. قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (البقرة، 2/178).

القصاص: هو أن يُقتل القاتل أو أن يجرح من جرح. كأنه تجديد لزجاجة النافذة التي كُسرت. أي ازالة ضرر أحدثه مجرم. وسبب كون جزاء القاتل قصاصا لعدم احياء القاتل المقتول. قال الله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»  (المائدة، 5/45).

والله هو الذي أحيا وأمات. و من ينهي حياة أحد متعمدا يُعد مجرما عند الله تعالى. وكما أن من كسر زجاج النافذة لا يصبح بريئا من الذنب بتركيب زجاج جديد. كذا القاتل لا يصير بريئا بقتله قصاصا بل عليه أن يخلد في نار جهنم جزاءا بما فعل. قال الله تعالى: « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» (النساء، 4/93).

ولو كان عمر المقتول انتهى طبيعيا لما كان القاتل مجرما ولما استحق أن يقتل جزاءا لقتله. ولما كان معنى لحرمة قتل الإنسان. قال الله تعالى: « وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا» (الاسراء، 17/33).  وهذا يدل على أن المقتول لم يمت بأجله.

ث. الاستشهاد في سبيل الله

ومن قتل في سبيل الله ينقص من أجله المسمى عند الله، ويعطي الله أجره اضعافا مضاعفة. قال الله تعالى: « وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (آل عمران، 3/157).

والذي يموت بلا تعرض للأحداث الخطرة؛ يموت بانتهاء أجله المسمى. ولكن الذي استشهد في سبيل الله، يعطي الله له حياة لأنه أفدى حياته في سبيل الله. قال الله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران، 3/169-171). «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ» (البقرة، 2/154).

والذين قتلوا في سبيل الله يضاعف الله أجرهم. قال الله تعالى: « مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» (الأنعام، 6/160).

و تضاعف هذه الحسنة إلى 700 ضعفا إن كانت بانفاق الأموال في سبيل الله. كما قال الله تعالى: « مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ» (البقرة، 2/261).

ويطول عمر الذين قتلوا في سبيل الله إلى يوم القيامة. بالرغم من انتقالهم من حياة الدنيا، ولايستحق مثل هذا الجزاء الحسن غيرهم لأنهم لم يكونوا فدائيين. وهذا فرق بين من قتل في سبيل الله  وبين من مات في فراشه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا» (رواه البخاري في باب الأمل وطوله).

ويحفظ الله تعالى الإنسان من سهام الأخطار التي تأتيه من بين يديه ومن خلفه. كما أخبر الله تعالى هذا بقوله: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ» (الرعد، 13/11).

 


[1] سنن الترمذي الدعوة 98؛ ابن ماجة، الزهد 30؛ أحمد بن حنبل، 2/132، 153.

[2]انظر سورة الكهف، 18/65-82.

[3]سنن أبي داود، باب الصلاة، 217

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.