حبل الله
العبادة والاستعانة

العبادة والاستعانة

26.     العبادة

الشَّيخ أفندي : نحنُ لا نأمرُ النَّاسَ بعبادتنا.

بايندر: الظَّاهرُ من حالكم أنَّكم لم تفهموا معنى العبادة بعد، فهلَّا أخبرتموني كيف يجبُ على المريد أن يكونَ بحضور شيخه؟

الشَّيخ أفندي : سأذكُرُ لكَ آدابَ المُريد، وأَخرجْ أنتَ ما في قلبك من اعتراض. على المريد أن يكونَ على هذه العقيدة:

‌أ.                   لا أبلُغُ غايتي إلَّا بشيخي الذي أرتبطُ به[1].

‌ب.               يحرُمُ على المريد أن يعترضَ على شيخه[2].

‌ج.                يُستقبحُ أن يعترضَ المريدُ على شيخه، كما فَعَلَ سيدنا موسى مع الخضر عليه السَّلام، ولا يُقبل عذرُ مَنْ يعترض، ما للاعتراض دواءٌ إلَّا الطَّردُ، ومن أضرار الاعتراض أن يُحرَمَ المريدُ من الفيض المُتدفِّقِ عليه.[3]

‌أ.                   ومن الشُّروط اللَّازمة للمُريد ألَّا يؤول أو يُبطئَ في طاعة شيخه، بل إنَّ التَّأويلَ والإبطاءَ سببان كبيران في الانقطاع.

‌ب.               ومن الآداب أيضاً، أن يجتنبَ ما لا يحبُّه الشَّيخُ ولا يرضاه، وأن يتحلَّى بأخلاقه الحسنة ودماثته.

‌ج.                وعليه أن يشغلَ قلبَه بشيخه أثناء التَّلقين، وأن يصرفَ عن فكره كلَّ شيءٍ، خيراً كان أو شرَّاً.

‌د. رأسُ مال المريد الصَّادق المحبةُ والارتباط، وعليه بترُ العناد والمخالفة من الأصل، وأن يظلَّ تحت طاعة شيخه دائماً. والمريد الذي يزيد من ارتباطه بشيخه، ويزداد من محبة الطَّريقة يكونُ على ثقةٍ من ثباته عليها.

بايندر: إذاً خلاصةُ القول أنَّ المُريدَ سيكونُ عبداً لشيخه، بل أدنى منه، لأنَّ العبدَ ربما يعصي سيِّده، ولو لم يستطع أن يُظهِرَ عصيانَه يُخفيه ويُضمرُه في نفسه، أمَّا المُريدُ فما هو إلا جسدٌ مُسجَّى على خشبة الموتى أمام الشَّيخ، فإذا دَخَلَ المريدُ في طاعة شيخه ولم يهمس ببنت شفة لم يمسَّه خوفٌ من الطَّرد من الطَّريقة.

الشَّيخ أفندي : على المريد أن يكون بين يدي شيخه وهو يتربَّى كالميِّت بين يدي مُغَسِّله، بحيثُ يُعالجه شيخُه مثلما يشاء[4]. وإلَّا فكيف للشَّيخ أن يُخلِصَ إليه بما يجبُ فعله؟

بايندر: حتَّى الارتباط له حدودُه، أمَّا عندكم فقد جاوزتُمُ الحدودَ كلَّها، ولم يوجدْ في الأنبياء مَن استعبدَ النَّاسَ كما استعبدتموهم باسم الدِّين، ولا يوجدُ أصلٌ لما تزعمون في كتاب الله. قال تعالى: « مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» (آل عمران، 3/79).

وقولُكم إنَّ اعتراضَ المُريد على شيخه ليس له دواءٌ يجعلُ لفظة العبوديَّة غيرَ كافيةٍ لأداء المعنى، فإنْ لم يكن هذا عبادةً للشَّيخ، فما هو إذاً؟!

المُريد : باللهِ عليكم! أين هذا من العبادة؟

بايندر: نعم، وليس العبادة فحسب، بل وحتى الاستعانة بغير الله تعالى من قِبَل الذين يقرؤون في الفاتحة كلَّ يومٍ مرَّاتٍ ومرَّات « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ».

المُريد : هذ اتهامٌ عظيمٌ منكم للذين يُصلُّون الصَّلوات الخمس ويتهجَّدون اللَّيل، ويذكرون اللهَ كلَّ هذا الذكر، ويبنون المؤسَّساتِ الدِّينيَّةَ لخدمة الإسلام!

بايندر: أتظنُّونني أُلقي هذه التُّهمَ جزافاً من تلقاء نفسي؟ أنا أدعوكم إلى آيات الله البيِّنات، إنَّ الأنفعَ لكم أن تشتغلوا بإصلاح أنفسكم بدلاً من أن تُوجِّهوا إليَّ التُّهمَ، ولو فكَّرتُم قليلاً لتبيَّنَ لكم أنّي أكبرُ صديقٍ لكم، وأنا أحاولُ – ما استطعتُ – أن أنقذَكم من الهاوية التي أوقعكم فيها كونكم لا تريدون أن تستمعوا إلى ما أتلو عليكم من الآيات البيِّنات وما فيها من الأحكام وتغضُّون عنها النَّظرَ، بل وتنهونني عنها وكأنَّني أنا واضعُها.

المُريد: في الدُّنيا عددٌ كبيرٌ من الكافرين وأنت لا تردُّ عليهم، بل تُهاجمُ المسلمين الذين يُعانون من معضلة التفرُّق في أيَّامنا هذه. فماذا ستسفيدُ من تحطيمك إيَّانا ونحن نُقدِّمُ للنَّاس كلَّ هذا القدر من أعمال الخير؟

بايندر: الكثيرُ من النَّاس يشتغلون بالأعمال الحسنة في الحياة. واليابانيون والأمريكيون والأوربيون الذين يصلون اللَّيلَ بالنهار ويعملون من أجل خير النَّاس، والرهبان النَّصارى يُغلقون على أنفسهم صوامعهم على رؤوس الجبال ويُعرِضون عن الحياة وعن الزَّواج والمال، ويتفرَّغون للعبادة فقط، هؤلاء لم يُنقذوا أنفسَهم من الشِّرك. فنحنُ لا نستطيعُ أن نصوِّبَهم لاعتقادهم في المسيح عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه ابنُ الله تعالى، ذلك أنَّ الاعتقادَ أمرٌ له شأنُه الكبير، وإذا لم يعمل الإنسانُ عملاً يستحقُّ عليه الثَّواب ولم يُشركْ بالله ثمَّ مات ولم يتُبْ فإنَّ اللهَ قد يغفرُ له ذنوبَه، لأنَّه تعالى قال: « إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا» (النساء، 4/48).

واللهُ تعالى لا يقبلُ الشِّركَ ويقولُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: « قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (الزمر، 39/64-67).

المُريد: أثبتْ لنا ادِّعاءَك هذا!

بايندر: أُذكِّرُكم بقول الله تعالى الموجَّه لكل الأنبياء: « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » (الزمر، 39/65).

أ – الشِّرك

المُريد : أين عملُنا من الشِّرك؟ وما هي حقيقةُ الشِّرك؟

بايندر: استمعْ جيِّداً.

العبادةُ في اللُّغة الطَّاعةُ مع الخضوع.[5] والإنسان يميلُ إلى أن يستعبدَ مَنْ يقدرُ عليه، فإن لم يقدرْ على ذلك، مالَ إلى أن يكون هو نفسُه عبداً. وكثيرٌ من الملوك ينظرون إلى الشُّعوب وكأنَّهم عبيدٌ لهم، ويريدونهم تحت طاعتهم دون أيِّ شروطٍ أو قيودٍ، وقد ذُكِرَ أمثالُ هؤلاء في القرآن؛ منهم فرعون، قال اللهُ تعالى عنه: « فَحَشَرَ فَنَادَى. فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى» (النازعات، 79/23-24).

والرَّبُّ هو الصَّاحبُ، وأصحابُ العبيد يُقالُ لهم أربابُ العبيد عند العرب.[6] والذين يرفضون أن يكونوا عبيداً لغير الله تعالى يرفضون أن يكون غيرُ الله ربَّاً وسيِّداً لهم.

وكما يستعملُ معظمُ الملوك قوَّتَهم السِّياسيَّةَ والعسكريَّةَ، والأغنياءُ أموالَهم، فكذلك من النَّاس مَنْ يستعملُ الدِّينَ، كلُّ هذا لاستعباد النَّاس لأنفسهم، وشرُّهم هؤلاء الأواخر، لأنَّه وأنتم تُعبِّدون أنفسَكم لله ولشيوخكم معاً، فها أنتم تخضعون لروحانيَّتهم أثناء فعل الرَّابطة، والحالُ أنَّنا نُعاهدُ اللهَ تعالى ألَّا نعبُدَ إلَّا إيَّاه حين نقرأُ قولَه تبارك وتعالى في سورة الفاتحة: « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ».

المُريد : هل من الشُّيوخ مَنْ أرادَ أن يُعبد؟

بايندر : يبدو أنَّ الشُّروحَ السَّالفة لم تكفكم، لقد ذكرتُم أنَّه يجبُ على الذي يرتبط بشيخه تمام الارتباط أن يستعينَ به بقلبه وألَّا يعترضَ عليه أبداً، حتى أنَّه لا بُدَّ من أن يكون كالميِّت في يدي مُغسِّله. أليس هذا أقصى العبودية؟ هل بعد هذا من عبودية؟

واللهُ تعالى يُريد من المخلوق ألَّا يكونَ عبداً لسواه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة، 2/21).

ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو أيضاً عبدٌ لله تعالى، ونحن نشهدُ بذلك في الإتيان بالشَّهادة في قولنا: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه”. ولو أنزلناه منزلةً أعلى منها لشابهنا النصارى الذين جعلوا عيسى بن مريم عليه السَّلام ابناً وخلفاً لله فعبدوه واستعانوا به، وكأنه –حاش لله – ناب عن أبيه الذي تقاعد، فاستلَمَ منه المُلك.

فكان الحاصلُ إذاً أنَّه لا يُشترَطُ أن يَسجُدَ أحدُكم للشَّيخ كما يسجد للصنم ليُقال إنَّه قد اتخذه إلهاً.

ب – الاستعانة

المريد – ثم ماذا عن أمر الاستعانة؟

بايندر – الإستعانة طلب العون، وفي الفاتحة « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ». وقد مر هذا الموضوع سابقا، ولكن لنأت بكلام الشيخ السالف: أما أنتم فقولوا ما شئتم أن تقولوا، وأما نحن فنؤمن باتخاذ أرواح الأولياء الكرام والمشايخ العظام وسائط بين الله وبين عباده، فنستعين بهم ونستمد من روحانيتهم، فإذا استعنتم بروحانية الأولياء، فهل يبقى معنى لترديدكم: « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »؟

لم يبقَ من توحيدك شيءٌ، لأنَّ صنيعَكَ هذا مهما كان فهو جزٌء من عبادة الشَّيخ.

ألم يقلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “الدُّعاءُ مُخُّ العبادة”[7]؟ وكذا: “الدُّعاء هو العبادة”[8]؟ وكذلك الذين عبدوا الأصنام عبدوها لينالوا رضاها، وليُقبَلَ دعاؤُهم.

واللهُ تعالى يقصُّ علينا في كثيرٍ من الآيات شركَ المشركين بأنَّهم دعوا غيرَه[9]، وقد أمَرَ عزَّ وجلَّ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأن يقول: «قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدً» (الجن، 72/20).

وابنُ عبَّاس رضي الله عنهما قال: “دعاؤكُم إيمانُكم”[10]. وقد كان أساس دعوة الرُّسل كلِّهم هو الدُّعاء والعبادة لله وحده، لأنَّ النَّاسَ منذ القديم قد ضلُّوا في ذلك.

وآيات الصَّلاة والصَّوم والحجِّ والزَّكاة والحلال والحرام قليلةٌ جدَّاً، فالقرآنُ كلُّه إلّا القليل منه هو في بيان أنَّ عبادةَ غير الله واستمدادَ النَّصر من غيره عند الضِّيق شركٌ قد حرَّمَه، فعلينا أن نقفَ عند هذا الأمر وقوفاً خاصَّاً: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» (النمل، 27/62).



[1]كوتكو، الأخلاق الصوفيَّة، 2/247

[2]المرجع السَّابق

[3]المرجع السَّابق

[4]المرجع السَّابق

[5]لسان العرب لابن منظور، مادة: (ط و ع). الإطاعة مُشتقَّة من الطَّوع وخلافها الكَره والاشمئزاز، قال تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ» (فصلت، 41/11). والطَّاعة مثلها، لكنها أكثرَ ما تقال في الائتمار لما أُمِر، والارتسام فيما رُسِم. (الراغب الأصفهاني).

[6]ابتاعَ يوسفَ عليه الصَّلاة والسَّلام كبيرٌ من كبراء مصر، وعشقتْه امرأتُه زليخا، قال تعالى: «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (يوسف، 12/23).

[7]التِّرمذي، الدُّعاء 1، 3371

[8]التِّرمذي، الدُّعاء 1، 3372

[9]انظر الآيات التَّالية: النِّساء، 4/17؛ الأنعام، 6/40، 41، 56، 71، 108؛ الأعراف، 7/37، 194، 195، 197؛ يونس، 10/38، 66، 106؛ هود، 11/101؛ الرعد، 13/14؛ النحل، 16/20،86؛ الإسراء، 17/56، 57، 67؛ الكهف، 18/14؛ مريم، 19/48؛ الحج، 22/12،13،62،73؛ المؤمن، 23/117؛ الفرقان، 25/68؛ الشعراء، 26/213؛ القصص، 28/64،88؛ العنكبوت، 29/42، لقمان، 31/30؛ سبأ، 34/22؛ فاطر، 35/13،14،40؛ الصافات، 37/125، الزمر، 39/38؛ المؤمن، 40/20،66؛ فصلت، 41/48، الزخرف، 43/86؛ الأحقاف، 46/4،5؛ الجن، 72/18؛ فيكون مجموع الآيات سبعا وأربعين آية في ست وعشرين سورة.

[10]البُخاري، الإيمان 2

أضف تعليقا

تصنيفات

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.